المزاد والتسول مهن حرة لمن لا مهن لهم
بقلم : نضال حمد
أحيانا يخدع المرء بمظاهر البشر وقد يفاجأ بما هم عليه وبمعرفة أنهم على عكس ظاهرهم الخارجي الذي لا يعكس بالطبع ما في دواخلهم، ونوعية طباعهم، ومدى سعة قلوبهم و جيوب سراويلهم وصولا لجيوبهم الأنفية.
منذ فترة وأنا أبحث عن آلة تصوير فوتوغرافية لشرائها بعد أن تعطلت الآلة التي كانت بحوزتي و خدمتني طيلة خمسة أعوام كاملة. ولأن آلات التصوير المعقولة والمقبولة في بلد مثل النرويج مرتفعة السعر بالنسبة لي ولميزانيتي المتواضعة. قمت بعرض الموضوع على صديق لي ،يعرف البلد جيداً أي كما يقول المثل البولندي ” له أنف حساس”، وعنده معرفة بأوسلو، كذلك بالذين يبيعون ويشترون ويعرفون أين نجد مثل تلك الأشياء.
بعد حديث طويل بدأ بالسلام وتمدد حتى وصل إلى الخرطوم و دار السلام، كما هي عادة العرب عندما يتصافحون ويلتقون، قال لي الصديق بأن أنسب حل لشراء الكاميرا أو آلة التصوير تلك، يكون بالذهاب إلى المزاد الذي يقام في أوسلو كل يوم أحد وهناك قد احصل على ما أريد.
كان صديقي تقريباً متأكد من إمكانية حصولي على الآلة في ذاك المكان بالضبط. لم أكذب خبرا، حيث ذهبت في اليوم الثاني الى المكان المحدد.. وكان يوم أحد، دخلت إلى المبنى الذي يقام به المزاد فوجدته قريب جداً من أمكنة أرتادها يوميا وأمر منها أحيانا أكثر من مرة واحدة في اليوم الواحد. فهناك وعلى نفس الشارع أشتري الفاكهة والخضار والتموين وكذلك بطاقات الاتصال التلفونية التي تصلني بالعالم الخارجي وخاصة عالمنا العربي، وبولندا التي أحب.. وتلك البطاقات بالمناسبة غير مرتفعة الثمن كما هو حال الاتصال التلفوني من خط الهاتف المنزلي.
أعترف بأنني فوجئت فعلا بمكان المزاد، إذ لم يخطر على بالي أبدا أن يكون المزاد العتيد في هذا المكان القريب وغير البعيد. عندما دخلت إلى قاعة المزاد خفق قلبي للوهلة الأولى وظننت أن البيع والشراء هنا أصعب من الوقوف طوال ليلة كاملة على خط المواجهة والقتال أيام الحرب المؤسفة والدموية التي عصفت بلبنان و امتدت نارها لتجتاح المخيمات الفلسطينية الموجودة هناك.
بعد إلقاء نظرات خاطفة و سريعة على الناس وجدت عن يميني وعلى يساري بعض الوجوه التي كنت أعرفها، وبعض الأشخاص الذين كنت أعلم أنهم يزاولون تلك الأعمال منذ زمن. صافحت بعضهم على عجل وسألتهم عن كيفية المشاركة هنا في المزاد وعن الأسلوب و الطريقة المتبعة. شرحوا لي الأمر بسرعة ثم تفرقنا وجلس أو وقف كل منا في المكان الذي اختاره. كنت خلال فترة حديثي معهم شاهدت آلة تصوير من نوع كانون وعاينتها، ووضعتها نصب عيني لكنني لم أقرر شراءها من عدمه.
بدأ المزاد بضربتين جامدتين على الطاولة من مطرقة خشبية صغيرة كان يحملها الرجل الذي يدير المزاد، وهو ذو لحية بيضاء طويلة وشعر ابيض وأشقر طويل مع جفاف واضح في منطقة منتصف الرأس حيث احتل الصلع مساحة واسعة منه. وذكرني بمطرقته الخشبية بدور القاضي في المحكمة. ساد صمت في القاعة ثم بدأ الرجل “القاضي” بشرح القوانين.. وبعد الانتهاء من ذلك بدأ المزاد.
أكثر ما أثار انتباهي بين الحاضرين شخص نحيف ذو شعر طويل منفوش مثل طائر خائف او مستفز، شعر أبيض مسرح على طريقة الهيبيز والشباب من الفوضويين والمشاغبين في أوروبا. كان يرتدي سروالا باليا أكلت الفئران بعضا منه فجعلته يعج بالثقوب والحفر مثل الجبن السويسري. كما أنه كان يرتدي قميصا مرقطا، ملونا، يبدو من الستينيات، تكاد ألوانه لا تُرى نتيجة قدم القميص وطول عمره ولكثرة ما تم غسله على مر الأيام.
هذا الرجل الموصوف أعلاه، كان يشتري كل الأشياء المرتفعة السعر والثمينة والنفيسة، ودفع مبالغ ضخمة جدا في الثلاث مرات التي قمت بها خلال أسبوع واحد بزيارة المزاد. ولاحظت أثناء ترددي على المكان في تلك المرات وجود نفس المجموعة من الناس وما يدل على أنهم يتاجرون بالأشياء. وتبين لي لاحقا أنهم فعلا من التجار الذين يمارسون عملا إضافيا بهذه الطريقة. ومنهم من هم تجارا على مستوى كبير ومنهم من كانوا تجاراً على مستوى أصغر.
في الختام وجدت ضالتي، فأشتريت آلة التصوير التي أعجبتني وأرضاني سعرها وأستحسنت شكلها. دفعت ثمنها نقدا ولم يبق معي من النقود في محفظتي سوى عشرون كراونا نرويجيا أي ما يعادل ثلاثة يورو وهي ثمن بطاقة سفر داخل العاصمة أوسلو في الأوتوبيس أو القطار.
أثناء عودتي وخلال سيري على الطريق من الشارع الذي يقع فيه المزاد إلى الموقف العام الذي أوقفت فيه سيارتي الخاصة استوقفتني شابة من جيل الشباب الذي قهرته المخدرات. وهؤلاء أصبحوا معروفين لكل من يتجول في شوارع العاصمة النرويجية لكثرة تواجدهم في الشوارع، وهم يتسولون بحثا عن المال، حتى أصبح التسول مهنتهم بعدما جعلتهم المخدرات متسولين يستجدون الناس من أجل الحصول على بضعة كراونات لشراء احتياجاتهم اليومية من الطعام والشراب والسجائر وما شابه ذلك… يشحذون ويتسولون لأنهم بددوا أموالهم التي يتلقونها من مكتب المساعدات الاجتماعية التابع للبلدية، وهي عبارة عن مرتب دائم كمساعدة شهرية لهم كي يتمكنوا مواصلة حياتهم. بددوها في المخدرات والمشروبات الكحولية التي يتم تدخينها وتعاطيها والخ… فأصبحوا بعد أيام قليلة بلا فلوس وبدون مال يعينهم على الحياة كباقي البشر و الناس في هذه البلاد.
كنت أسير متجها نحو سيارتي عندما أوقفتني تلك الصبية وطلبت مني مساعدة مالية دون أن تعلن أو توضح السبب الذي يدعوها لمد يدها من أجل قليل من المال. قليل منه أو بعضه قد تتمكن من الحصول عليه أو لا. بالنسبة لها هذا التصرف نابع من حاجتها التي تكبر بمرور الأيام وبتقدمها في العمر وبتوغلها في التحليق على أجنحة الوهم المصنوعة من الحشيش والميرغوانا والأبيض والغبار بلغة المخدرات وعالمها، وكل تلك التسميات والمسميات التي يعرفها عالم المخدرات.
طلبت مني المساعدة … فكرت قليلا ثم قلت لها أن ما في جيبي أقل مما تريد وأنني لا أملك سوى 20 كراونة، فإذا وافقت على أن أتقاسمهم معها, عشرة لها وعشرة لي فأنا جاهز لفعل ذلك. بالطبع لم تفكر ولو قليلا بكلامي الغريب وأبدت موافقتها الفورية على عرضي فعشرة كراونات أفضل من لا شيء.
بعد أن تركتها تنعم بالعشرة كراونات التي تؤمن لها شراء زجاجة حليب أو رغيف خبز إفرنجي. هذا أن كانت تود فعلا استعمال المال لشراء الطعام أو الشراب وليس لشراء السموم بعد تجميعه من هنا وهناك. توجهت نحو المكان الذي تقف فيه سيارتي وأنا أفكر بهذا الوباء اللعين الذي خلقه بعض الناس للناس.
عندما وصلت إلى سيارتي وأردت فتح بابها إذ بمتسول آخر يطلب مني مساعدته لأنه بحاجة للمال كي يشتري الطعام، وكان هو الآخر من الذين فتكت بهم المخدرات، مع أنه يبدو شابا في العشرينات من عمره…
قلت في قرارة نفسي ما دمت قد ساعدت تلك الفتاة فمن الواجب الأخلاقي أن أساعد هذا الشاب كذلك ثم كي لا أتهم بالتفرقة بين النساء والرجال حتى في أوساط هؤلاء، خاصة أننا نعيش في بلد ديمقراطي مثلما هي النرويج، بلد أصبح لديه قوانين تشريعية جديدة أعدت خصيصا لبعض الفئات الشاذة من البشر، مثل السحاقيات والمثليين الذين يحق لهم الزواج كل من صنفه، كما ويحق لهم تبني الأطفال ورعايتهم وتربيتهم تربية الله أعلم كيف ستكون، وماذا ستكون نتائجها في المستقبل على أخلاقيات البشر والحياة بشكل عام…
مالي ومال الشواذ، لقد شردت بأفكاري وذهبت بعيدا في هذه الحياة وتلك المجتمعات التي تبيح المحرمات وتسمح بزواج الرجال من الرجال والنساء من النساء.. لازال هذا الشاب المسكين الذي طلب مني مساعدته واقفاً بانتظار رحمتي…
مددت يدي إلى جيبي حتى أعطيه العشرة كراونات الباقية لكني لم أجدها هناك بل عثرت على جوره صغيرة ففهمت فورا أنني فقدت ثروتي البسيطة التي لا تقدر بثمن لهذا الشاب في هذه اللحظات الحاسمة.. لقد ضاعت العشرة كرونات و لم يعد بإمكاني مساعدته بعدما أعطيته أمل.
قلت له: بكل أسف أخبرك بأن العشرة كراونات التي كنت سأعطيك إياها ضاعت بسبب فتحة صغيرة وجدتها كما ترى بنفسك في جيب سترتي.
لم يعجبه كلامي وظن أنني أسخر منه، وأصرّ على أن أعطيه مالا.
أمام إصراره عدت وبحثت في جيوبي عن المال علني أجد بعضه رغم علمي بعدمه، بحثت وبحثت وفتشت فلم أجد سوى بطاقة البنك ” الفيزا كارت”. فسألته ممازحاً :
هل لديك ماكينة بنك كالتي تستعملها المحلات التجارية حتى أدفع لك بالفيزا كارت؟
نظر نحوي نظرة إنسان فقد شيئا عزيزا وعقب على سؤالي بصوت خافت.. مجنون يحكي وعاقل يسمع..
ثم تركني وسار يبحث عن رزقه عند من هو أعقل مني وأقل جنونا منه..
(أكتوبر – 2002 )
نضال حمد