المشهد الفلسطيني بين تقهقر «داعش» وتصعيد الاحتلال – أحمد قطامش
حصل في التاريخ أن تذابح أمراء العرب وتنازعت أهواؤهم إلى درجة أن رحبت مدن عربية بالغزو الإفرنجي، وتقديم الهدايا والخدمات لما سمّاه الغرب «الحملات الصليبية» التي اجتاحت فلسطين، وارتكبت المذابح في القدس وسواها.
وحصل في التاريخ، أيضاً، أن القائد الكبير صلاح الدين قاد معركة تحرير معظم فلسطين بعد نحو تسعة عقود من الحكم الأجنبي، غير أن ورثته مزقتهم صراعاتهم على الحكم، فتقدمت قوات الغزو الأوروبي الإقطاعي نحو شواطئ مصر، فما كان من شقيقه الكامل إلا أن عقد صفقة ضمن بموجبها حكمه على مصر، فيما عادت فلسطين تحت نير الغزو الإفرنجي.
وفي الأعوام الأخيرة عرف الزمن العربي ثنائية متناقضة، ثلاث انتفاضات شعبية في تونس ومصر واليمن، أحرزت الكثير، ولكنها افتقدت شرط تحولها إلى ثورات اجتماعية تطيح علاقات الإنتاج الشائخة وترفع إلى الصدارة قوى اجتماعية لديها مشروعها لتجاوز الأمس، وتأسيس مرحلة جديدة على غرار ثورات عرفتها شعوب أخرى، وعلى الأقل ما تشهده القارة اللاتينية الأقرب إلى خصائص الوطن العربي منذ عقد ونصف.
كذلك أفضت الأزمات الدموية والتدخلات الخارجية إلى تدمير معظم مقومات الحياة والوحدة المجتمعية في العراق وسوريا، بما حملته من نتائج سياسية واقتصادية وإنسانية، كادت تنجح في إسقاط الدولتين على الطريقة الليبية والصومالية، وتقسيمهما على أساس مذهبي وعرقي.
ولئن كانت الأوضاع المازومة في حقبة الحملات الصليبية قد أنتجت مجموعات الاغتيال التي قادها حسن الصباح، دون تفريق بين أمير عربي وأمير إفرنجي، فإن عوامل كثيرة أحدها أجهزة المخابرات الغربية والإقليمية صبّت الزيت على نار ظاهرة، وامتدت على طول وعرض بلاد العرب وبلدان أخرى، عرفت باسم “الدولة الإسلامية” (داعش)، التي بلغ عنفها وجبروتها شأناً جعلت من حسن الصباح، التي لم تنفك قلعته قائمة وقد احتجب فيها أربعين عاماً في الريف الإيراني، مجرد قطرة في بحر.
ومن الجلي أن إرادة مواجهة “الدواعش” في العراق وسوريا وليبيا اشتدت في الأشهر الأخيرة، فانحسرت سيطرتهم على مساحات شاسعة، وتكبّدوا خسائر جدية كانت إحداها 1800 قتيل في الفلوجة كما نشرت الصحافة، وهذه حالهم في أرياف حلب الجنوبية وتدمر وشمالي اللاذقية، فيما تقدم الجيش السوري وحلفاؤه لمحاصرة أحياء حلب الشرقية وقطع إمدادها في تناغم، مع تقدم وحدات التحالف الكردي – العربي شمالاً. والشيء نفسه يقال عن قوات الجنرال حفتر، الذي دعمته مصر وأخيراً روسيا، فانتزعت انتصارات في بنغازي الليبية تزامناً مع تراجع “داعش” في سرت.
ومحاولة تصدير أعمال “داعش” إلى الحدود الأردنية أو تفجيراتها في أوروبا وأميركا وتركيا والسعودية، تحمل في ما تحمل أن المارد قد خرج من القمقم، وارتدّ على داعميه من جهة، وأنه بات يستعدي العالم وخاصة روسيا التي تخشى جدياً من آلاف الروس الذين التحقوا بـ”داعش”، هم وعشرات الآلاف الجهاديين الذين أتوا من مئة دولة لاجتياح دمشق، وإقامة “دولة الخلافة” كما يفهمونها.
لقد اختلّ ميزان القوى أخيراً، وانتقلت قوات مواجهة “داعش” إلى الهجوم. وباتت الأنظار والتحضيرات تتجه إلى الموصل وحلب، دون التهوين من قدرات “داعش”، وما راكمته من عدّة وعتاد وخبرة وتفخيخ سيارات.
من جانب آخر، لم تفوت السياسة الاحتلالية فرصة الإفادة من انشغال العرب وانقسام الفلسطينيين، وهرولة مراكز القوى بينهم وانكفاء معظمهم على الهمّ الذاتي، فرفعت وتيرة هجومها على مسارين كبيرين يفضيان إلى:
1-التطهير العرقي الجزئي والمتدرج: فدون مواربة وضع المفاوض الإسرائيلي شرطاً صريحاً على المفاوض الفلسطيني (الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل) بما ينطوي عليه ذلك من مخاطر اقتلاع 1.4 مليون فلسطيني، وما تعنيه خطة برافر في النقب، والهدم المتكرر لقرية العراقيب، وما تشي به تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بأن على العرب أن يختاروا بين المواطنة الكاملة والخدمة في الجيش، أو الالتحاق بالفلسطينيين… وأيّة تمظهرات أخرى بما فيها احتمال إقصاء أعضاء عرب من الكنيست.
2-الحل الإقليمي: وبصرف النظر عن تسميته أو مراحله أو عن العلاقة بين الضفة وغزة، فهو يخلو من دولة فلسطينية مستقلة، سواء على أراضي 67، أو ما هو أقل من ذلك. أما الاسم الذي يجري التمهيد له فهو الكونفدرالية، لكن بعد تجويفها فلسطينياً، ذلك أن الكونفدرالية في القانون الدولي، اتحاد بين دولتين أو أكثر، ولكل دولة شخصيتها وجيشها وسيادتها… وهذا كله لا مكان له فلسطينياً، ولا يبقى سوى الاسم الذي يمكن أن يضم الأردن وكياناً فلسطينياً، سواء على أجزاء من الضفة، أو على أجزاء من الضفة وغزة أو الأردن وإسرائيل وكيان فلسطيني. والأخير هو السيناريو الأقوى، على أن لا يمنع استمرار القضم الاستيطاني الكولونيالي للأراضي الفلسطينية، وتكريس محوطة وتشظية وضم السوق الفلسطينية للسوق الإسرائيلية بحسب المصطلح الإسرائيلي (السلام الاقتصادي)، ويجوز الافتراض أن مشروع قناة البحرين يتساوق مع هذا المسار.
ومثلما أجاز صندوق الاستثمار الأردني حق الاستثمار للرأسمال الإسرائيلي في الأردن، فهذا سينسحب على الأراضي الفلسطينية، ليس بقوة الاحتلال بل بشرعنته فلسطينياً، بما يشكل غطاءً للعملية الاستيطانية التوسعية، وتعزيز النخب الفلسطينية المرتبطة بالكونفدرالية كما كان دأب الكولونيالية في كل مكان. وإن العودة لمؤلف فرانز فانون “معذبو الأرض” تساعد على الفهم المعمق.
وبالتالي ثمة مرحلة جديدة عنوانها بلورة نخبة فلسطينية قوية متساوقة مع الكونفدرالية.
ومثل هذه الصيغة مشروطة باستنزاف الوطنية الفلسطينية، وحركة التحرر الفلسطينية التي يمكن توزيعها اليوم على ثلاثة تيارات:
1-تيار الدولتين: وله قيادة وقاعدة ومؤسسات.
2-تيار حق العودة: وقيادته ضعيفة وقاعدته ضيقة.
3-تيار التحرير: وقيادته محاطة بالتباس سياسي، ولكنه واسع الانتشار.
أما تيار الكونفدرالية، فمن المتوقع أن يتغذى على دم التيار الأول ولحمه، ويلتحق به العديد من الفعاليات الاقتصادية، والأوساط البراغماتية والمحبطة من إخلالات العمل الفلسطيني، ومن الساعين لحل بأي ثمن. المهم أن يحصلوا على توقعات بحركة أوسع، وفرص وعمل مربح.
وثمة احتمالات أن تتعجل حكومة نتنياهو – ليبرمان – تينت في اتخاذ إجراءات عملية تمهيدية تصبّ في طاحونة المسارين: “التطهير العرقي” و”الحل الأقليمي”، والمسيرة الفلسطينية التي بدأت بالتحرير ومرت في السبعينيات بالعودة والدولة وتقرير المصير. ووصلت الدولة ومرحلتها الانتقالية إلى الحكم الذاتي المحدود إنما هي مقبلة على استحقاق جديد.
وأخطر ما في التكتيك السياسي، هو السعي للتكيف مع موازين القوى، وبالتالي عدم الانضباط للبرامج والمبادئ، ولهذا حذّر ماركس الحركات الثورية منذ زمن، قائلاً: «إيّاكم والمساومة على المبادئ، إيّاكم والتنازل النظري». وردّد الدكتور جورج حبش، كنظري وسياسي ثوري، أنه لا ينبغي أن ينتهك التكتيك الاستراتيجية ولا أن تنتهك السياسة الإيديولوجيا، ويبدو أن هذا الأفق غير راسخ في الوعي السياسي الفلسطيني.
غير أن هذا ليس قدراً لا راد له، وربما فاجأ الشعب الفلسطيني التاريخ، وهو “الذي لديه عبقرية التاريخ لأنه لم يندثر”، كما قال أحد المفكرين الفرنسيين. وهذا يستحق مقالة أخرى.
* أستاذ جامعي ــ فلسطين