المصالحة المصرية القطرية والخطوة الإيرانية الأولى بـغزة
(( في إسرائيل يحاولون في الأيام الأخيرة دراسة وتشريح الواقعة الأكثر أهمية التي تحدث في العالم العربي هذه الأيام، وهو المصالحة بين مصر وقطر، الاتفاق الذي أعلن، السبت الماضي، يُتوقع ان تكون له انعكاسات مهمة، ليس فقط على الدولتين المتخاصمتين اللدودتين في العام المنصرم؛ وإنما سيكون لها أثر على عدد من جاراتها كالسعودية ودول الخليج وقطاع غزة وإسرائيل.
الاعلام الإسرائيلي لم يخرج عن المألوف في تغطية المصالحة التي تلاشت في ضجيج الانتخابات، ولكن في وزارة الخارجية ووزارة الدفاع ووكالات الاستخبارات المختلفة في إسرائيل ينظرون الى الواقعة بعين الاهتمام، التقدير الأولي ان المصالحة المصرية القطرية ستسهم في إعمار قطاع غزة وتهدئة الجبهة الجنوبية في الأشهر القريبة القادمة، قطر هي الراعية الرئيسية لحماس، والخصومة الشديدة بينها وبين السلطة العسكرية في القاهرة عمقت وحل المستنقع الاستراتيجي في غزة، من هذه الناحية المصالحة قد تسهم في الهدوء والاستقرار في الفترة القريبة القادمة، ومن الناحية الأخرى يعرفون في إسرائيل انه على المدى البعيد فإن الاتفاق من شأنه ان يدفع الذراع العسكرية التابع لحماس الى الحضن الإيراني ويزيد من احتمال وقوع مواجهات أخرى.
“هذا حدث يغير المشهد الاستراتيجي من حولنا، وسيستغرق الأمر وقتاً حتى نفهم كل ملابساته” قال مصدر اسرائيلي مسؤول لأخبار “واللا”، “من زاوية نظرنا الموضوع الأهم تأثير المصالحة على حماس، ولكن يوجد الكثير من الأسئلة الأخرى”.
أول من نجح في كبح جماح قطر
حلقة الخصومة الأخيرة بين مصر وقطر بدأت في العام 2013 بعد ان أزاح الجيش المصري الاخوان المسلمين عن سدة الحكم، الانقلاب العسكري وضع مصر في مواجهة مباشرة مع إمارة قطر؛ ذلك ان الامارة النفطية الغنية كانت هي الداعم الرئيسي للربيع العربي وللحركات الاسلامية التي قويت مواقفها بعده، في الأعوام 2011-2013 برزت قطر كقوة صاعدة في الشرق الأوسط، وحازت على علاقة وطيدة مع نظام الحكم الأمريكي، وكعنوان مثير دائم في وسائل الاعلام الأهم في العالم، التأييد الذي منحته قطر للتنظيمات الإرهابية (وعلى رأسها حماس) لم تحصل في معظم الحالات إلا على إدانة خفيفة فقط.
قفزة قوة قطر أدت الى ضغط كبير لدى جاراتها (السعودية والامارات المتحدة والكويت والبحرين) على عكس إمارة آل ثاني فإن دول الخليج عارضت الربيع العربي ودعمت بقاء الأنظمة القديمة (ما عدا نظام بشار الأسد)، لكن بالرغم من معارضة بقية الدول الخليجية فإن “المشروع القطري” اكتسب زخماً ولغاية يوليو الماضي عندما وقع الانقلاب العسكري في مصر.
القطريون غضبوا على السيسي لأنه كان أول من نجح في كبح جماح تأثيرهم، والتسبب بتغيير الاتجاه في الوطن العربي، كما يقول نظير مجلي محلل الشؤون الاسرائيلية والشرق الأوسط في الصحيفة العربية “الشرق الأوسط”، يشرح مجلي “ان إزاحة الاخوان المسلمين في مصر خلقت تغييراً على مستوى التفكير في جميع أنحاء الوطن العربي، أعاد السيسي القوى القومية الى الحياة، وأصبح لذلك التهديد الفعلي على مشروع قطر الإقليمي”.
الأداة الأساسية التي تمتلكها قطر لتحريك الربيع العربي هي قناة الجزيرة، التي توجد مكاتبها في الامارة الصغيرة نفسها، لقد رافقت هذه القناة الاحتجاجات ضد نظام مبارك في مصر، وغطت بشكل حثيث، خصوصاً سلطة الاخوان، وبعد الانقلاب العسكري أصبحت المنتقدة العنيدة للرئيس السيسي، غضب القطريون كثيراً على السيسي، حتى إنهم أنشأوا محطة خاصة لتغطية الدولة (الجزيرة مباشر مصر)، والتي بثت 24 ساعة في اليوم دعاية مسمومة ضد السلطة الجديدة القديمة في القاهرة.
هذا الأسبوع، وكجزء من بنود المصالحة، أوقف بشكل فوري بث القناة المصرية دون أي تفسير للمشاهدين، “إذا كان لدى أي شخص ان هدف هذه القناة الخالص كان زعزعة مكانة السيسي؛ إذاً فها هم قد تصالحوا وفوراً توقفت القناة” قالت روت فسرمان لندا، نائبة السفير الاسرائيلي في القاهرة سابقاً “لقد جنى السيسي ربحاً فورياً، استقبل الموفد القطري وقدم له الاحترام، وتلقى في المقابل خطوة مهمة، وإن كانت رمزية”.
نظير مجلي يقول ان ركوع الجزيرة الفوري هو اعتراف بالهزيمة “لقد تضررت القناة من الحملة التي خاضتها ضد السيسي، من قناة رائدة تقرر جدول الأعمال اليومي أصبحت قناة منفردة يتهكم الناس على مصداقيتها، ما يزال تأثيرها قوياً ولكن أقل بكثير من السابق”.
فهم القطريون ان السيسي جاء ليبقى
عرابة المصالحة بين مصر وقطر هي السعودية، وهي الأكبر والأهم من بين دول الخليج، الأزمة القطرية المصرية خلق أزمة ليس أقل خطورة بين قطر والسعودية، الدولة الأشد حماساً في دعم نظام السيسي، “الملك السعودي عبد الله حقاً مهووس في كل ما يتعلق بالنظام المصري الحالي”، يقول ديفيد فينبرغ، وهو باحث كبير في مركز الدفاع عن الديمقراطية في واشنطن والخبير في الشئون الخليجية، انه “في لقاءاته مع الرئيس أوباما ومع جون كيري كانت السياسة الأمريكية تجاه مصر هي الموضوع الأول الذي يطرحه للنقاش، لقد دفع الأمريكيين الى تقديم المزيد من الدعم والتأييد للسيسي”.
الخلاف بين قطر والسعودية في الشأن المصري أدى بالسعودية وشريكاتها من الخليج الى عزل قطر ومقاطعتها في العام المنصرم إلى حد طردها من “مجلس دول التعاون الخليجي” الذي يوحد ممالك النفط الغنية في المنطقة، حتى ان السعودية والامارات المتحدة سحبتا سفرائهما من الدوحة احتجاجاً على تصرفات الجارة الصغيرة، لم ينبع الغضب السعودي من سلوك قطر التخريبي على الساحة المصرية فقط؛ وإنما أيضاً من تأييدها لجهات “إرهابية متطرفة” في جميع أنحاء المنطقة، بما فيها المجموعات التابعة لداعش.
البروفيسور ايلي فودة من دائرة الشرق الأوسط في الجامعة العبرية يقول ان عزل قطر مس بمكانتها، وأدى بحاكمها الشاب الأمير تميم بن حمد الثاني الى الفهم بأن الأمور تستدعي إحداث تغيير الاتجاه، “القطريون خبروا اتجاه الرياح في العالم العربي، فهموا ان السيسي من جهة جاء ليبقى وأنهم فشلوا في محاولتهم لإزاحته، ومن جهة أخرى التهديد الذي تمثله داعش على الدول العربية لن يتجاوزهم آخر النهار؛ هذا هو سبب انعطافهم، لقد كان للسعودية دور المفتاح في هذه العملية، فقد أوضحت للقطريين انها ما تزال الدولة الأقوى والأهم في الخليج، والتي لا يمكن تجاهلها”.
في إسرائيل لم يعرفوا بعد كيف ستؤثر هذه العملية على موقف حماس، ولكن أحداً لا يتوقع انه بعد المصالحة الجديدة ستطرد قطر خالد مشعل من عاصمتها أو ان يقطعوا علاقتهم بحماس بالكامل، “من غير المعقول أن يتوجه القطريون ضد حماس على إثر المصالحة، والدلالة الأبرز لذلك هي إقالة رئيس المخابرات المصري الذي قاد الخط الصارم ضد حماس”، يقول ديفيد فينبرغ “من جهة مصر؛ فإن لمحاربة حماس أفضلية أقل من محاربة الاخوان المسلمين داخل مصر”، ووفق قوله ان المصريين يمكنهم التنازل في موضوع دعم قطر لحماس ما دامت الامارة ستتوقف عن تأييد العناصر “التخريبية” داخل مصر.
إيران ستملأ الفراغ في غزة
ايلي افيدار، الذي شغل في سنوات الـ 1999-2001 منصب رئيس الممثلية الاسرائيلية في قطر (والتي أغلقت على إثر قطع العلاقات بين الدولتين أثناء عملية “الرصاص المصبوب”)، يتوقع ان المصالحة الجديدة فعلاً تضع حماس في ضائقة استراتيجية، “حماس سوف تتضرر من هذه المصالحة مع استمرار الضرر الذي لحق بها منذ الجرف الصامد”، يقول “توقعت قطر أن تجعل المساعدات الكبيرة التي قدمتها لحماس منها عراباً أساسياً في اتفاق وقف إطلاق النار، لكن القطريين علموا انه في حال وافقت كل من مصر والسعودية واسرائيل على ألا يكون للقطريين أي دور في الموضوع فإن حماس ستنكسر في النهاية وتخضع لإرادتهم، حاول مشعل ان يصر على إقحام القطريين ولكن حماس وافقت في النهاية على إبقائهم خارج الصورة، منذ تلك اللحظة انكسرت هيبة الأمير القطري الشاب، وهو لن يغفر ذلك لحماس”.
القطريون يقول افيدار “بدأوا بتغيير سياستهم تجاه حماس، والدليل انهم خفضوا كمية التبرعات، حماس من ناحيتها تحاول بأي وسيلة ممكنة إصلاح علاقاتها مع إيران لتعوض فقدان الدخل الكبير”.
نظير مجلي يحذر هو أيضاً من ان “الإيرانيين لا ينتظرون نتائج المصالحة، وهم الآن يعملون على إعادة حماس الى حظيرتهم بعد ان تسببت الحرب في سوريا في قطع العلاقة بين الطرفين، الانضمام الى إيران يعد خطراً لأنه يعني العودة الى الوضع الذي كان في العام 2006، وأن حماس وحزب الله مرتبطان كلاهما بإيران ولديهما مصلحة في القتال في المقابل، يدخل الإيرانيون الى أي فراغ يحل في المنطقة، وسيدخلون أيضاً من خلال الفراغ في غزة، وبالمناسبة فإن هناك فراغ لاحتمال لم يتحقق في العلاقات بين اسرائيل والسعودية ودول الخليج، وسيتسرب الإيرانيون من خلاله أيضاً، ففي الوقت الذي تتكلم فيه القيادة في إسرائيل فقط؛ فإن الإيرانيين فعلاً يقومون بخطوات لتحسين علاقتهم بالسعودية”.
ما زالت حماس تتمتع أيضاً بتأييد تركيا، التي تستضيف عدداً من كبار مسؤولي التنظيم وتسمح لهم بتخطيط العمليات بحرية، الرئيس التركي أردوغان هو عدو لدود للنظام المصري، ويعتبر الرجل الثالثة في منصب الاخوان المسلمين في المنطقة ومعه قطر وحماس، “قبل ان يرسل القطريون مندوبهم إلى مصر بيوم واحد؛ اهتموا بأن يرسلوا وفداً آخر الى تركيا لكي يبشروا أردوغان بالتغيير المرتقب، لم يعلنوا الطلاق في تحالفهم مع تركيا، ولكن أظن أنهم ذاهبون الى استرضاء مصر ومصالحتها، وكذلك السعودية والمحور البراغماتي، حتى وإن كان لذلك ثمن في المقابل سيدفعونه من علاقتهم مع أردوغان” يقول البروفيسور ايلي فودة.
وماذا عن اسرائيل؟ هل هناك فرصة ان تمهد المصالحة مع مصر الطريق أمام تجدد العلاقات بين اسرائيل وقطر أيضاً، والتي تواصلت 13 عاماً منذ 1996 ولغاية عملية “الرصاص المصبوب” في العام 2009؟
يجمع الخبراء انه لا يوجد ما يمكن قوله بهذا الشأن بعد، ايلي افيدار يتوقع ان اسرائيل قد أسهمت مساهمة حقيقية في إخضاع قطر أمام السعودية ومصر “القطريون دخلوا التاريخ منذ عملية الجرف الصامد، التحركات الاسرائيلية لفضح تأييد قطر للإرهاب الدولي، ضغطت على الدوحة التي تنفق المليارات لكي تبني لنفسها شخصية محبوبة في العالم العربي، هذه الشخصية باتت في خطر، والجانب الملموس لهذا التوجه هو استغناء فريق برشلونة عن الدعم القطري، والذي كان يساوي مئات أضعاف أي راع آخر”، حتى ان افيدار يتهم قطر بالتدخل في الشأن السياسي الإسرائيلي؛ فوفق قوله “القطريون يؤيدون بشدة خطوة اتحاد الأحزاب العربية في اسرائي بالذهاب المشترك للانتخابات القادمة، والدعم الكبير لعزمي بشارة القابع في قطر”.
الأخبار الجيدة: السيسي يعيد مصر إلى موقع الزعامة
يجمع كل المشاركين في المقالة، بمن فيهم عناصر من داخل النظام، ان المصالحة وضعت حداً للتحدي القطري لمكانة السعودية ومصر كزعيمتين للعالم العربي، وتعيد للرئيس المصري مكانته التقليدية الأولى “تصرفات السيسي مهمة جداً، لا يوجد أي مودة بينه وبين القطريين، ولكنه أبدى ليونة وحكمة بذهابه للمصالحة معهم”، تقول روت فسرمان لندا، “الأمر ذاته صحيح في توجهه تجاه إسرائيل؛ فهو ليس مؤيداً لإسرائيل ولا يحبنا أكثر من الآخرين، ولكنه يفهم المكانية الاستراتيجية، وهذا هو السلوك المتوقع ان يقوم به زعيم”.
نظير مجلي يقول انه زار مصر أثناء الصيف، وتحدث الى جهات مسؤولة في الدولة عن التوجه الذي يهتم السيسي لاتخاذه “استراتيجيته واضحة جداً؛ عدو العالم العربي هو الإرهاب، ويجب اجتثاث جذوره، الرجعية والكراهية والفقر والجهل والصراعات المختلفة في المنطقة، انه يريد ان يقود مصر والعالم العربي الى موقع جديد يستغل فيه العرب كل إمكانياتهم من الكنوز الطبيعية، وحتى الكنوز البشرية؛ هكذا يفكر السيسي، وبهذا التفكير إسرائيل لا يجب ان تكون عدواً للعالم العربي، لقد قال هو نفسه انه في حال وُقع اتفاق مع الفلسطينيين فإنه لن يعارض زيارة اسرائيل ودعوة رئيس الحكومة الاسرائيلية الى مصر، وهو الأمر الذي لم يحدث منذ عشرات السنين”.)).
أطلس للدراسات