المفاوضات وتصفية قضية فلسطين – د. غازي حسين
منذ تشكيل السلطة التي ولدت من رحم اتفاق الإذعان في أوسلوالذي وقعه رئيس منظمة التحرير استمرإر رئيسها بالمفاوضات الكارثية ولم تعمل على مقاومة الاحتلال وحماية المواطن الفلسطيني وممتلكاته وتعزيز العمل الوطني والوحدة الوطنية والعودة إلى الميثاق والمقاومة المسلحة، وإنما تقوم بإدارة المناطق بصلاحيات المجالس البلدية، وتوطيد التعاون الأمني مع أجهزة الاحتلال لوقف الانتفاضة الثالثة واجتثاث المقاومة المسلحة، وإضعاف الحركة الوطنية، وإنهاء الصراع على حساب الحقوق الوطنية لشعبنا وإنجاح المشروع الصهيوني. وارتمت السلطة في مرحلة عباس وسلام فياض ومحمد دحلان وجبريل رجوب في أحضان الولايات المتحدة والكيان الصهيوني مما أدى إلى تآكل الموقفين الرسميين الفلسطيني والعربي.
وتحولت السلطة من أداة انتقالية لانسحاب القوات المحتلة وإنهاء الاحتلال وعودة اللاجئين إلى وكيل لدولة الاحتلال لتحقيق مصالح الكيان الصهيوني والمصالح الأمريكية من خلال أموال الدول المانحة و رؤية الدولتين.
إن هدف الكيان الصهيوني من صناعة السلطة هو تحميلها للأعباء الملقاة على عاتق الاحتلال وتوفير الأمن له داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وداخل الكيان نفسه والقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، حيث أعلن رابين عام 1993 أن قيام السلطة يعني تلقائياً الموت التدريجي والبطيء لمنظمة التحرير إلى لحظة التلاشي، مستذكراً مصير المنظمة الصهيونية العالمية التي ضعف دورها بعد تأسيس (اسرائيل).وحصلت دولة الاحتلال البغيض من خلال إتفاق باريس الاقتصادي والتطبيع على مئات المليارات من الدولارات ومصادر المياه والثروات الاخرى.
وأكد قادة الكيان الصهيوني أن الهدف من إقامة دويلة فلسطينية من خلال رؤية الدولتين هو شطب حق عودة اللاجئين إلى ديارهم وتوطينهم في أماكن تواجدهم وترحيل فلسطينيي الداخل (1948) إلى دولتهم الفلسطينية والاعتراف بيهودية الدولة.
لذلك ترتفع الأصوات يوماً بعد يوم بإعادة النظر في السلطة وحلها في الضفة الغربية وإلغاء إتفاق الاذعان في اوسلو، لأن استمرارها منح الاحتلال التغطية على تغيير الوقائع على الأرض وتهويد القدس بشطريها المحتلين والمقدسات العربية.
وأصبحت السلطة العائق الأساسي أمام مقاومة الاحتلال والمشروع الوطني الفلسطيني، كما أن اعتمادها على خيار المفاوضات وحده أفقدها الخيارات الأخرى. وأصبح بقاء السلطة وأجهزتها الأمنية مصلحة اسرائيلية أمريكبة سعودية، وتعمل ضد تطلعات شعبنا العربي الفلسطيني وحقوقه الوطنية والقومية، وتخدم الاحتلال ومصالحه.
فالتخلي عن خيار المقاومةالمسلحة أدى إلى خضوع قيادة السلطة ومنظمة التحرير المستمر في المفاوضات للإملاءات الأمريكية والاسرائيلية وتبنيها وتبريرها والدفاع عنها، مما أوصل الوضع الفلسطيني إلى أسوأ مراحله وأخطرها. وادخل الياس والقنوط في نفوس أبناء شعبنا واُمتنا. وتراجع الموقف الأمريكي في قمة كامب ديفيد الثانيةوعهد إدارة المجرم بوش والمتهور ترامب، وتطابق مع الأطماع اليهودية والصهيونية والاستعمارية في كل بند من بنود قضية فلسطين بما فيها مرجعية مدريد ومرجعية القرارات الدولية وتهويد كل القدس العربية المحتلةوالتطبيع العربي الجماعي، مما زاد من التعنت والتصلب والغطرسة والأطماع الاسرائيليةلفرض الهيمنة الصهيونية على الشرق الاوسط وجعل القدس عاصمة العالم.
خطورة رؤية الدولتين
بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في أواخر آب 1982 تبلور في الساحة الفلسطينية نهجان:
الأول: نهج قيادة عرفات والذي يريد التوصل إلى تسوية سياسية برعاية الولايات المتحدة والتخلي عن المقاومة وإدانتها والاعتراف باسرائيل والتفاوض معها.
والثاني: نهج وطني معاد للإمبريالية والصهيونية، ويعتبر الصراع مع العدو صراع وجود، ويتمسك بالمقاومة المسلحة والميثاق والحقوق الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف لشعبنا العربي الفلسطيني.
ودشن خروج المقاتلين من بيروت مرحلة جديدة طرحت فيها مبادرة ريغان ومشروع السلام العربي، ومرابطة القوات الأطلسية في بيروت وارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا، واندلاع الاقتتال الفلسطيني داخل فتح وبين فتح (عرفات) وبعض الفصائل الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وتحقيق المصالحة بين عرفات ومبارك.
وطرح الكيان الصهيوني رؤية الدولتين والتي يسعى من خلالها إقامة دويلة فلسطينية لمصلحته ولتخليد وجوده في قلب الوطن العربي، من معازل عنصرية، منقوصة الأرض والسكان والحقوق والسيادة والمياه ومحمية اسرائيلية لخدمة مصالح الكيان الصهيوني في الوطن العربي. فالكيان الصهيوني هو الذي ابتكر حل الدولتين لتصفية حق العودة، وترحيل فلسطينيي الداخل، وإقامة اسرائيل العظمى الاقتصادية، وخلق الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية داخل البلدان العربية لتفتيتها، وإقامة دويلات فيها، وإعادة تركيبها وقيادتها من خلال مشروع الشرق الأوسط الجديد.
ويعمل الكيان الصهيوني من خلال رؤية الدولتين على طرح مفهومه الخاص بالدولة الفلسطينية المبنية على أساس الحكم الذاتي، والمجردة من السلاح، والمنقوصة السيادة، والمحكومة بسلسلة من التدابير الأمنية، بحيث تتحول إلى محمية اسرائيلية لخدمة التغلغل الاسرائيلي في الوطن العربي واختراق الأمن القومي العربي. وتتولى القوات الاسرائيلية مراقبة الحدود والسيطرة على مجالها الجوي ومعابرها مع البلدان العربية المجاورة، وتحافظ على أمن (اسرائيل) وأمن النظام الجديد، وليس باستطاعتها الدفاع عن نفسها.
المفاوضات ومحمود عباس
ارتكب محمود عباس خطيئة عظمى عندما أسقط خيار المقاومة، ونعت عملياتها بالقذرة، وساهم في إجهاض الانتفاضتين الأولى والثانية، وتتعاون أجهزة السلطة الأمنية مع أجهزة الاحتلال الأمنية ضد المقاومة وكرس الانقسام.
إن سير عملية التفاوض بالشكل الذي سارت فيه ومن دون مرجعية وخيارات وبدائل غيرها صب ويصب في مصلحة العدو الصهيوني. كما ساعد الموقف العربي الرسمي المتخاذل والمتواطئ، مجسداً بلجنة المتابعة العربية وجامعة تشرشل التي وفرت الغطاء العربي لدخول عباس في المفاوضات غير المباشرة والمباشرة على تقديم المزيد من التنازلات.لقد أجرم المفاوض الفلسطيني عندما دخل المفاوضات بالرعاية الامريكية وبدون مرجعية لانه لا يجوز على الإطلاق أن يدخل المفاوض الفلسطيني الضعيف المفاوضات من دون مرجعية أو ضمانات. فدخول المفاوضات بدون الالتزام بمبادئ القانون الدولي والقرارات الدولية وحقوق الشعب الفلسطيني ونمها حق العودة على الأقل يقود إلى القبول بالشروط والإملاءات الاسرائيلية والأمريكية.
ونجحت إدارت بوش و أوباماووالمتصهين والمتهور ترامب بتوفير غطاء عربي رسمي سعودي لدعم تنازلات قيادة المنظمة، حيث رأت واشنطون أن تحقيق رؤية الدولتين بإقامة دويلة فلسطينية بموافقة (اسرائيل) وشرور نتنياهو يخدم الأمن القومي الأمريكي وإنقاذاً لـ”اسرائيل” من نفسها.
وأعلن أوباما مشروعاً تضمن: -الوقف التام للاستيطان –إطلاق المفاوضات برعاية الإدارة الأمريكية –وبدء الدول العربية بخطوات تطبيعية مع الكيان الصهيوني. ولكنه تراجع عن تجميد الاستيطان ووافق على موقف نتنياهو.وجاء ترامب وإدارته اليهودية وتبنى المخطط الاسرائيلي كاملاً وبالتالي فقدت الإدارة الأمريكية صدقيتها ومصداقيتها وتعرض الامن والسلم الدوليين لافدح الاخطار.
لقد جرى تصميم عملية التفاوض وصناعتها لتحقيق الأهداف الاستراتيجية والسياسية والأمنية لحرب حزيران العدوانية التي شنها العدو الصهيوني عام 1967بالتنسيق مع واشنطون.
توقفت المفاوضات بسبب رفض نتنياهو تجميد الاستيطان تمسكاً منه بالتحالف في حكومته مع أكثر العناصر الفاشية في الكيان الصهيوني وهما شاس و “اسرائيل بيتنا” و (ليبرمان) الذي أكد بأن لا مجال للتسوية مع الفلسطينيين قبل عشر سنوات من الآن. وطالب بالسلام مقابل السلام رداً على مرجعية مدريد “الأرض مقابل السلام”، وتبقى الأمور على ما هي عليه الآن، ويتعايش الفلسطينيون مع الاسرائيليين مع فرض يهودية الدولة كأمر واقع وتطبيع العلاقات مع السعوديى. ودعا ليبرمان إلى تبادل السكان بحيث تُضم المستعمرات الكبيرة في الضفة الغربية للكيان الصهيوني، مقابل ضم بعض مناطق الـ 1948 المكتظة بالفلسطينيين مثل أم الفحم والطيبة إلى الدولة الفلسطينية.
ودعا نتنياهو إلى ما أطلق عليه بالسلام الاقتصادي أي تحقيق الرخاء المعيشي والازدهار الاقتصادي، وعلى ما يظهر تبناه سلام فياض ويعمل على تحقيقه في الضفة الغربية.وتبنى ترامب دمية اللوبيات اليهودية مخطط نتنياهو لتهويد القدس وإقامة اسرائيل العظمى الاقتصادية من خلال مشروع الشرق الاوسط الجديد.
وظهر بجلاء أن مسار المفاوضات خلال حوالي عشرين سنة من التفاوض ألحق أضراراً جسيمة بالمواطن الفلسطيني وبقضيتنا العادلة، وإن تعيين رؤساء طواقم المفاوضات الأمريكية من اليهود الذين يؤمنون بالتعاليم التوراتية والتلمودية لا يمكن أبداً أن يقود إلى تحقيق السلام العادل. ويؤكد عباس أن نهجه استمرار لنهج عرفات، وحدده بما يلي:
-القضاء على انتفاضة الأقصى –إدانة المقاومة المسلحة واعتماد خيار المفاوضات فقط -تطبيق المرحلة الأولى من خارطة الطريق بإضعاف المقاومة ومصادرة سلاحها –التعاون الأمني الوثيق مع أجهزة الاحتلال الأمنية –شطب حق عودة اللاجئين إلى ديارهم، وإبقاء القدس موحدة بشطريها المحتلين –وتبادل الأراضي لضم كتل المستعمرات الكبيرة للكيان الصهيوني.
إن انتصار المقاومة اللبنانية في أيار عام 2000 وفي حرب تموز عام 2006، والمقاومة الفلسطينية في غزة في تصديها ومواجهتها للمحرقة في نهاية عام 2008 وبداية عام 2009وحرب 2014 عرقلت تطبيق مشروع الشرق الأوسط الجديد (أو الكبير)، وأحدثت تحولاً استراتيجياً في مسار الصراع العربي الصهيوني يؤكد على صوابية خيار المقاومة، والتمسك بالثوابت الوطنية والقومية وعودة القيادة الفلسطينة الى الميثاق والمقاومة المسلحة، وإيجاد بدائل تعيد إنتاج القضية الوطنية للمحافظة على الأرض والحقوق وهويتها العربية ونقل المسؤولية للأجيال القادمة وزوال إسرائيل وإقامة الدولة الديمقراطية في كل فلسطين العربية.