المقاومة والعلاقات الدولية – منير شفيق
كيف يمكن التعامل بين المقاومة الفلسطينية وشعوب العالم ودوله، وذلك بعد أن أفسدت اتفاقية أوسلو الموقف الدولي، أو أغلبيته الساحقة، من القضية الفلسطينية، من خلال الهبوط بالسقف في الموقف من القضية الفلسطينية، فضلاً عن فتح الباب على مصراعيه لانتقال عشرات الدول في العالم إلى إعادة علاقاتها بالكيان الصهيوني، بعد مقاطعة طويلة أو بعد حتى عدم اعترافٍ بها، الأمر الذي لم يبقِ غير إيران الدولة الوحيدة التي لا تعترف بشرعية قيام الكيان الصهيوني أو وجوده، والتي تدعم هدف المقاومة بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
ولهذا أخذ يُطرح هذه الأيام بعد أن تعزز موقف المقاومة، ولا سيما بعد حربيّ 2014 و2021 (الانتفاضة وحرب سيف القدس)، كيف يمكن التعامل بين المقاومة الفلسطينية وبين الشعوب والدول في العالم. فقد أخذت عدة دول، ولا سيما الصين وروسيا ودول أخرى، تسعى إلى الحوار وتعزيز العلاقات، وبعضها إلى التدخل لإنهاء الانقسام.
المشكلة مع هذه الدول، بل مع أغلب دول العالم، أن قيادة م.ت.ف، قيادة اتفاق أوسلو، جعلت السقف الفلسطيني أو الهدف الأعلى هو حلّ الدولتين، وتحقيقه يمر عبر المفاوضات والوساطات الدولية أو المؤتمر الدولي. وهو سقفٌ مرفوضٌ من المقاومة، ولا سيما حركتي حماس والجهاد الإسلامي، والعديد من الحراكات الشبابية والرافضين له. ويقوم هذا الرفض على اعتباره حلاً تصفوياً مدمراً للحقوق الفلسطينية، بل وللحقوق العربية والإسلامية، بل ولأحرار العالم، وفي فلسطين أيضاً.
وبهذا تصبح إقامة علاقات بين المقاومة ودول العالم متعثرة ومعرقلة منذ البداية، لأن الكثير من هذه الدول، بعد التنازلات التي قُدِّمت فلسطينياً وعربياً، اعتبرت أن حلّ الدولتين عبر المفاوضات هو السقف الذي يجسّد مصلحة الشعب الفلسطيني، ويمثل الحلّ “العادل” والمعقول. أما الذي يجعله يبدو كذلك بالرغم مما تضمن من ظلم وغبن وتصفية للحقوق والثوابت الفلسطينية، إنما هو رفض العدو الصهيوني لتطبيقه. وذلك دون أن يُلحَظ بأن هذا الرفض يقوم بسبب السعي الصهيوني لاقتلاع كل الفلسطينيين، وتهويد كل فلسطين، أي أصبح حتى مجرد بقاء من تبقى من الفلسطينيين في فلسطين، ولو تحت نظام أبارتايد، مرفوضاً من الجانب الصهيوني.
لهذا لا يمكن اعتبار أيّ حلّ حلاً عادلاً أو معقولاً، وفي مصلحة الشعب الفلسطيني استناداً إلى رفضه وعدم تطبيقه من جانب العدو الصهيوني. فلطالما بُرِّرَّت التنازلات المُهينة التي قُدمت عربياً وفلسطينياً استناداً إلى رفض قادة الكيان الصهيوني لها. فالرفض الصهيوني منذ أول مشروع حلّ طُرح قبل 1948، أو بعده، كان جزءاً من هدف اقتلاع كل الفلسطينيين والحلول مكانهم، وتهويد فلسطين كاملة.
الأمر الذي يجب أن يكون واضحاً لكل فلسطيني ما هو المشروع الصهيوني، ومن ثم يُصبح الهدف الفلسطيني هو هدف التحرير، وهو الذي يجب أن تقوم العلاقة على أساسه، وأن يُسقط حلّ الدولتين باعتباره حلاً تصفوياً، فضلاً عن عدم إمكان تطبيقه. وهذا ليس بسبب الموقف الثابت لأصحاب المشروع الصهيوني المحتلين لفلسطين فحسب، وإنما بسبب عدم استعداد أية دولة، خصوصاً من الدول الكبرى، أن تأخذ إجراءً يضغط على الكيان الصهيوني، بما فيه التهديد بسحب الاعتراف وقطع العلاقات السياسية والاقتصادية.
فقد أثبتت التجربة العالمية أن الدول الكبرى التي تنادي بالحلّ على أساس الدولتين لا تمارس ضغطاً ملموساً، وهي غير مستعدة لبذل أي جهد لإجبار الكيان الصهيوني على تنفيذ الحل. بل أثبتت التجربة، لعشرات السنين، أن هذا الشعار يُرفع ليقوم بفعل المخدر والغطاء لبعض الفلسطينيين المتهالكين على التسوية، فيما يمضي الكيان الصهيوني في تثبيت الاحتلال، والتوسّع بالاستيطان والتهويد، بل حتى دون الإشارة إلى أن الذين يرفعون هذا الشعار يمضون في تعزيز علاقاتهم السياسية والعسكرية والاقتصادية مع الكيان الصهيوني، مما يدعمه للمضيّ في مشروعه الاقتلاعي التهويدي.
أمام هذه الحقائق المستندة إلى التجربة التاريخية التي لا يمكن أن تُدحض، فإن أمام المقاومة وهي متمسكة بموقفها من الثوابت والحقوق الفلسطينية الكاملة، ومن استراتيحية التحرير، أن تركز على هدفين رئيسين يمكن تحقيقهما في الوقت الراهن، وهما دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من الضفة الغربية والقدس، بلا قيدٍ أو شرط. وهما هدفان لا تستطيع دولة في العالم أن تناقش عدالتهما، أو ضرورة أن ينفذهما الكيان الصهيوني وأنفه راغم.
فهنالك اعتراف مُهر بقرارات لهيئة الأمم بأن الضفة الغربية وشرقي القدس وقطاع غزة، بالإضافة إلى الجولان وسيناء، قد احتُلت في حرب عدوان 1967. وهنالك اعتراف دولي شبه إجماعي بأن الاستيطان يشكل جريمة حرب، إضافة إلى لا شرعيته وعدم جوازه. ثم أضف بيتاً من الشعر آخر، يقول إن القانون الدولي لا يُعطي الاحتلال أي حق لاستثمار احتلاله، أو طلب أية مكافأة مقابله، إذ عليه أن يرحل بلا قيدٍ أو شرط.
من هنا يمكن أن تُشكِّل المقاومة إجماعاً شعبياً فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ورأياً عاماً عالمياً على حقها في المقاومة والانتفاضة لدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من الضفة الغربية والقدس، بلا قيدٍ أو شرط، تماما كما حدث مع قطاع غزة حين دُحر الاحتلال وفُككت المستوطنات، بلا قيدٍ أو شرط، تحت شعار رفعه شارون أسماه “فك الارتباط”، أو وفقا لمصطلح أوسلو “إعادة الانتشار”.
فأمام الكيان الصهيوني إذا ما واجه انتفاضة شاملة، طويلة الأمد نسبياً، وواجه مقاومة كما واجه في حرب سيف القدس، أن يَرحل وأنفه راغم، ويُفكك المستوطنات من الضفة والقدس، بلا قيدٍ أو شرط، أو إذا شاء تحت إعلان “فك الارتباط”، أو “إعادة الانتشار”. وبعدئذ لكل حادث حديث، حيث يتوجب على كل طرف في فلسطين أن يرتب أوراقه للراهن الجديد وللمستقبل، وكذلك بالنسبة إلى دول العالم وسياستها بالنسبة إلى الوضع الجديد.
إن التركيز على الهدفين المذكورين: دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، وبلا قيدٍ أو شرط، ومن خلال استراتيجية ومقاومة وانتفاضة، يفتح آفاقا واسعة أمام المقاومة للحوار على المستوى الدولي، وإقامة علاقة متينة وبنّاءة مع الدول، ولا سيما الصين وروسيا وغيرهما، ليتحوّل تأييدها من شعار “حلّ الدولتين” إلى دعم الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال وتفكيك المستوطنات.
وبهذا يستعيد الشعب الفلسطيني زمام المبادرة في بناء علاقاته الدولية، وفي الحشد في دعم عدالة قضيته المتمثلة راهناً بدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، بلا قيدٍ أو شرط، الأمر الذي سيهيئ للإعداد لتحرير كامل فلسطين من النهر إلى البحر، ومن الناقورة إلى أم الرشراش.