المنذور( رواية) إنسان بسيط يختلط فيها عالم الإنس والجن – رشاد أبوشاور
المنذور( رواية) إنسان بسيط
يختلط فيها عالم الإنس والجن
رشاد أبوشاور
هذه رواية كتبها رجل دين، شاعر، وروائي، وناشط ثقافي منفتح العقل والروح، مؤمن بالمقاومة، ومنحاز لها، هو فضل مخدّر، وقد صدرت له أعمال شعرية، وروائية، وكتابات حُرّة بلا تصنيف.
وقد صدرت نهاية العام 2019عن منشورات الملتقى الثقافي اللبناني، وهو لبناني، وأحسب أنه جنوبي.
أنا عرفته عن بعد، وقرأت بعض شعره، ولم ألتق به. هو مشغول بأسئلة الثقافة وأهميتها في حياتنا، وبدور المثقف المقاوم، متكئا على قناعاته الدينية الراسخة في وعيه، وهذا ما تبوح به الرواية.
يهدي روايته إلى بعض من ينطبق عليهم الإهداء: إلى تلك الروح التي تجمع بيننا ولو بحرف، وإلى كل من حمل تلك الروح فالتقينا: فضل مخدّر.
في المقدمة، وقبل أن تتوالى الفصول يصدّر الرواية: الحياة ليست بحثا عن الذات،ولكنها رحلة لصنع الذات. اخلق من نفسك شيئا يصعب تقليده.( سقراط).
ثم تتوالى فصول الرواية رشيقة، قصيرة، مرفوعة بلغة أنيقة لا تثقل على النص، ولكنها تأخذ القارئ إلى بيئة ريفية بسيطة بريئة مفعمة بالنقاء.
والمنذور نذرته أمه بعد ولادتها له بقليل، والداية أشاعت نذر الأم التي رحلت بعد ولادة الإبن، والأم لم تبح بسّر نذرها لطفلها، وبهدف النذر، وكأنه ( مكشوف) عنها!.
تتوالى فصول الرواية عن أسرار حياة المنذور الذي بات اسمه( زبيب)، والذي فقد والديه صغيرا، وتربّى برعاية جدّه، الذي بدوره رحل وتركه وحيدا يعيش في ( عرزال) بعد انهيار بيت الجد وموته.
تبدأ الرواية في فصلها الأول، الذي هو المدخل لأحداث حياة المنذور زبيب: هاجت الدنيا وماجت حول القرية، وثار الغبار كأن عاصفة مجنونة فار تنورها منذ انفلاق الصباح، وجهجهة الضوء الأولى، والناس في حقولهم ينظرون نحو مداخل القرية وأطرافها، غير واعين ما يحدث…(ص9)
نتعرّف إلى أن سبب هذا الهيجان هو هجوم الجندرمة بقيادة ضابطهم، وهم مع كل الهيجان الذي تتسبب به خيولهم العاجزة عن اقتحام قرية ( الشرقية) التابعة لمحافظة النبطية، والتي يقيم فيها ( زبيب)، والتي حضر إليها الضابط وجنوده لاسترداد جرّة ذهب وجدها زبيب، لا بد أن تُرّد للحكومة..ولكنهم يعجزون هم وخيولهم عن اقتحام القرية، لأن شيئا ما مجهولا يصدهم ويخيفهم، ويصابون بحالة ذعر مما يحدث معهم.
يعرف أهالي القرية من الضابط أنه يريد اقتحام القرية لأنه يريد رجلا اسمه( زبيب)، فيخبرون زبيب الذي يستغرب الأمر، ويتوجه إلى الضابط وعساكره، ويعترف للضابط بأمر جرّة الذهب التي وجدها، وينبئه بسّر الرجال الثلاثة الذي زاروه وشربوا وطعموا عنده، وأوصاه أحدهم وهو النبي( جليل)- هل سمعتم باسم هذا النبي من قبل؟ لاعجب فبلادنا تكتظ بأضرحة الأنبياء، والأولياء- أنه سيجد جرة ذهب في أرضه، وطلب منه أن يبني له مقاما، ولأخويه(تميم) و( فارس البطاح)ضريحين بقربه، وستبقى قطعة ذهب واحدة ينفقها على بناء قبر له بجوارهم، وأنه، هو، زبيب، سيموت بعد انتهاء البناء ودفن جثامين الثلاثة، وسيدفن قربهم.
ولأن الخيول عجزت عن اقتحام القرية خشية من أمر غامض أخافها، وزبيب اعترف باللقية، وأقر بالأمر على مسامع الحضور من أهل قرية ( الشرقية)، فقد انسحب الضابط وعساكره، بعد أن توعد زبيبا بالعقاب إن هو لم يقم ببناء الضريح ، ولم يمت بعد الفروع منه في الموعد المحدد!.
يسمع زبيب بذهول ترتيلاً فيخشع، وتمّس روحه، وذات مساء تحضر إليه صاحبة الصوت، وتستفسر منه إن كان يرغب في تعلّم ما كانت تقرأ، فيتحمس، وفي ثلاث ليال يحفظ (الكتاب) ،هو الأمي، ويتعلّق قلبه بتلك الفتاة( يمامة) التي تبادله الحب، وتشترط عليه أن لايبوح بالسر لأحد، لأنها من بنات الجان. لم يصن زبيب السر، فهجرته معشوقته الجنيّة، فندم وعاش متحسرا على فقدانها، وإن بقي شيء من الأمل في قلبه بعودتها وغفرانها له.
يحاول زبيب التعويض بحب ( حميدة) ابنة أم حميدة، التي تبادله الحب، والتي تكتب الشعر، ولكن زبيبا لا يشفى من حب ( يمامة) مع تقدمه في العمر.
يبدا برحلة البناء يعينه شاب اسمه صالح، يخلص لزبيب كأنه ابنه، يعرف بجوهر ما يفعله زبيب، وبنبوءة موته بعد الفروغ من إقامة الضريح، ودفن أجساد الثلاثة: النبي جليل وشقيقيه، ودفنه هو قربهم..لتكتمل النبوءة، ولتكتمل حياة( المنذور) التي تنبأت بها والدته التي ماتت عقب ولادته مباشرة.
ذات يوم يقع زلزال يهز المنطقة، ويدمّر البيوت، ويرج الأرض رجا، فيبادر زبيب للعون في إنقاذ الرعاة، والفلاحين، ومن تقطعت بهم السبل، وانخسفت الأرض تحت قطعانهم، وممتلكاتهم…
أمّا وقد انتقل الروائي إلى عالم الجن، وامتلاء قلب زبيب بالعشق لواحدة من بناتهم( المؤمنات) الخيرات، فإنه سيكمل فصول هذه الرواية بالدخول في عالم الجن، وحياتهم، وقيمهم، وعمرانهم، وسحر حياتهم…
والكاتب مؤمن، كما أسلفت، ب:وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون، وهذا نص قرآني، ولذا فهو منسجم مع قناعاته الدينية، وإن اختلف معه القرّاء العلمانيون الذين لا يؤمنون بوجود الجن على هذه الأرض.
ومع ذلك، فإن القارئ للرواية، متدينا، أو علمانيا، سيستمتع بوصف الروائي لعالم الجن، وسحر وجمال ذلك العالم المتخيّل، الذي وإن ذكره القرآن، فإنه لم يذكر تفاصيله المدهشة كما وردت في فصول الرواية.
كيف ينقلنا الروائي فضل مخدّر إلى عالم الجن؟
عندما وقع الزلزال، وهب زبيب للعون والمساعدة، داس من حيث لا يدري على أحد أبناء الجان، فثار والده، واندفع بنية قتل زبيب ثأرا لابنه، فاعترضت( يمامة) طريقه، وواجهته، وحمت زبيب حبيبها البشري منه، واشتبكت معه..وقتلته.
ولأنها ستتعرض للموت عقابا على فعلتها، فقد أوصت بان يخبر والدها ووالدتها حبيبها زبيب بموتها، فيتم اختيار بشري طيّب نقي النفس، يثق به الجن، وبخاصة والد يمامة وهو ملك من ملوك الجن، لأنه لا يفشي أسرارهم، ولا يستخدم علاقته بهم للإضرار بأحد..ويكون أن يختاروا ( المغربي) ليحمل الرسالة لزبيب الذي لا يحددون مكانه، واسمه، ولكن بعض صفاته…
يتعب المغربي حتى يصل إلى زبيب، ويبلغه برسالة يمامة، بحضور الرجل الصالح شيخ القرية، فيقلع عن فكرة الزواج من حميدة، ويبلغها بحقيقة ما جرى، وينهمك مع صالح في إتمام الضريح، ويدفن النبي جليل وشقيقيه، ويستعد للرحيل..كما في النبوءة!
يتوعد الضابط زبيبا إن هو لم يمت يوم الخميس الموالي لاكتمال بناء النبي جليل،ودفنه هو وشقيقيه،ويدفن قرب الأضرحة، ويكون أن يختفي زبيب فيحسب الضابط أن زبيبا هرب، لكن الشيخ يجزم بأن زبيبا هو أصدق من عرفته القرية، وأنه لا يمكن أن يهرب.
بعد يومين من الانتظار تظهر حميدة صائحة: اذهبوا إلى القبر. هل ذهبتم إلى القبر؟ نظروا إلى بعضهم متسائلين، وراحوا يركضون نحو المقام.
في القبر يجدون جسده حارا، فقد مات قبل قليل..وعندئذ يقررون تشييعه في شوارع القرية بما يليق به من المحبة والتقدير والتكريم.
ويكون فصل الختام: القصة لم تكتمل بعد..فماذا تبقّى لتكتمل القصّة؟
تصل زوجة صالح( جمالية) وتخبر الحضور، بأن صالحا قد أفاق من غيبوبة حزنه على زبيب، وسط ذهول الضابط والشيخ والحضور. يتوجهون إلى بيت صالح، الذي يخرج إليهم، طالبا منهم عدم تعزيته بزبيب قبل أن يخبرهم بأمر، ومن بعد لهم ما يشاؤون. مضى أمامهم حتى بلغ العرزال، فدخله، ثم خرج حاملا عصا زبيب، وأبلغهم أن زبيبا يشكرهم على كل مافعلوه له في دفنه. وأنا كنت غائبا عن وعيي ولكنه أخبرني بكل ما جرى عند قبره، بكل التفاصيل، بالدموع، وحسرات التفجّع نعم كنت أشاهد كل ما فعلتم، وقد ألقيت بنفسي في القبر وتمددت إلى جانبه، واحتضنته. ويخاطب الشيخ: عندما لقنته آخر عهد له في الدنيا، كنت أردد معك كل كلمة كنت تقولها. وعندما سكت الهمس عرفت أنكم ذهبتم. ابتدأ القبر يضئ ويتسع، وأحسست بزبيب يتنحنح ، ويقول: ابتعد عني..خنقتني يا ولد.( صفحة 250)
يكمل صالح في فصل لاحق – ولا أدري لماذا انتقل الكاتب إلى فصل جديد، فالسرد ينقطع ويفتر هكذا- جلست فإذا كلانا في بهو واسع.جلس زبيب ونظر إلي باشا وقال: اهدأ يا ولد، إنه يومي انا وليس يومك أنت…
-ولكنك…
-نعم أنا مت وانتهى الأمر.
-أين كنت، فقد بحثنا عنك في كل مكان…
-لا عليك من ذلك، ولا تهتم أين كنت، فقد مت منذ صبيحة يوم الخميس، ودفنت في ليلة الجمعة التي وعدني بها( النبي) في الرؤيا…
وروي زبيب كيف أن القبر انشق عنه، وأنه التقي بجده، وبالشيخ يمسد راسه وجده يقول: هذان أبوك وأمك…
في الختام يقدم الكاتب نبذة تاريخية عن ( مقام النبي جليل) الذي يقع في بلدة ( الشرقية)، ويوضّح في هامش الصفحة 257 : إن كلمة النبي الواردة هنا، والواردة في صفحات الرواية، هي حسب المتداول الشعبي لتسمية من نسب المقام إليه.مثل أغلب المقامات التي انتسبت تسميتها إلى أسماء تداولها الناس على انها أسماء أنبياء…
يوضّح الكاتب: لا يوجد رواية تاريخية، أو مسنودة علميا حول تاريخ أو كيفية بناء المقام في البلدة…
الرواية الشعبية المختصرة، والتي بدون تفاصيل، تناقلها أهل القرية جيلا عن جيل، ولكن الشاعر والروائي فضل مخدّر حولها إلى رواية، مزج فيها عالم البشر بعالم الجن، وفي ختام الرواية وضع صورا فوتوغرافية للمقام الذي لا يوجد فيه ضريح لزبيب…
وبعد، فإنني قد استمتعت بالرواية التي تتالت فصولها سلسة، وتجلت شخوصها بسيطة محبة تنتمي لبيئة عريقة تعود بجذورها إلى اليمن، والتي تعرف بجبل( عامل)، وإلى القائد ( بشّار) أحد أبرز القادة مع صلاح الدين الأيوبي محرر القدس.
———————————————
تنويه: الروائي الكبير نجيب محفوظ، في روايته( ليالي ألف ليلة) لجأ إلى عالم الجن متأثرا بعالم( الف ليلة وليلة).