المهندس الراحل عبد اللطيف علي حمد – بقلم نضال حمد
بدون سابق إنذار وفجأة إنطفئ النور في الدار.. أظلمت الدنيا وعتمّت الأعين وغابت الرؤية.. هكذا بدون مقدمات اخترق أذني صوت محدثي على الهاتف، بلغني النبأ المفاجئ والحزين “هيك .. خبط لزق” مثلما يقول مثلنا العربي الشامي، قال لي بدون مراعاة: مات عبد اللطيف حمد .. توفي اليوم “أبو أنس” نتيجة نزيف في إمعائه .. لم يتمكن الأطباء من إنقاذه .. ترحمت عليه وقدمت العزاء لمحدثي فهو أيضا من لحم الرقبة وقريب لي وللراحل عبد اللطيف. لكنني قلت بيني وبين نفسي، عبد اللطيف لم يكن كهلاً، كان في بداية الخمسينيات من عمره، كله نشاط وحيوية ويعيل أسرة كاملة، ويقوم بمساعدة والدته المقعدة ووالده العاجز(توفيا فيما بعد). ويمارس عمله كمهندس ناجح بشكل يومي واعتيادي في الصناعة السورية، بالرغم من الموت والحرب والدمار والارهاب والرعب، الذي اجتاح سوريا ولم يوفر أحداً خلال أربع سنوات من جحيم ما سمي بالربيع العربي.
يوم الرابع من آب – أغسطس 2015 توفي ابو أنس حمد، المهندس الكيميائي الفلسطيني بقلب سوري، المولود على شارع فلسطين قرب الجسر في مخيم اليرموك. يعرفه ويعرف عائلته كل فلسطيني عاش هناك في تلك الحارة وربما في المخيم بشكل عام. فوالده الحاج والمربي الفاضل الأستاذ علي حمد – أبو حسين، أحد أشهر المعلمين الفلسطينيين في سوريا ودمشق. أما والدته فهي الحاجة زهيا الزغموت – أم حسين- أيضا صفصافية معروفة بطيبة قلبها ومسك كلامها وحديثها البلدي الجليلي. كانت مرحة وطيبة وكريمة وصاحبة واجب، وتحفظ أغاني الصفصاف والجليل، وتتذكر بلدتها جيداً. كنا عندما نزورهم في البيت نستمع لحديثها العذب بلهجتها الصفصافية الجليلية. غالباً ما كان حديثها يشبه السجع. كما أنها شقيقة امرأة عمي علي أحمد حمد، العمة سهام التي هي أيضاً “أم حسين” كما شقيقتها. ما زرت يوماً دار العم الأستاذ علي والعمة زهيا في مخيم اليرموك إلا وكانت قلوبهم وبيوتهم مفتوحة كما قلوب أبناءهم وأنسبائهم. لي معهم ذكريات جميلة ومتعددة وعلى مدار سنوات طويلة لن ولا أنساها ما دمت حياً.
عبد اللطيف حمد كما كل أقرانه من الفلسطينيين في مخيم اليرموك وفي عموم مخيمات ومدن وبلدات سوريا درس في مدارس الانروا. في مخيم اليرموك تدرج بالمدارس وبعد ذلك أصبح طالباً جامعياً يدرس في جامعات دمشق، التي لا تفرق بين السوري والفلسطيني، فسوريا كانت ولازالت بالرغم من جراحها بلداً لكل العرب. تخرج عبد اللطيف حمد مهندساً في الكيمياء، أحب الكيمياء وأبدع فيها. علمت وسمعت لكنني لست متأكداً أنه بعد التخرج عمل في التصنيع الحربي في المصانع العربية السورية. يعني أنه عمل لأجل عروبته ولأجل تعزيز نهج الكفاح والتحرير والعودة الى فلسطين.
ما خلت زيارة لي الى الشام دون اللقاء بعبد اللطيف، الانسان الناجح والطيب، الشخص القريب والأخ والصديق. كان نعم الانسان الخلوق والمهذب والمتعلم والواعي والمحترم. ذات يوم من شهر تموز – يوليو سنة 2002 أردت زيارة دمشق برفقة نجلي يعقوب، الذي كان لازال طفلاً في ذلك الوقت، فقد وعدته أن يزور الشام ويتعرف عليها، فهي أول عاصمة في التاريخ ومن اقدم مدن الدنيا وأعرقها. فيها المساجد والكنائس والحارات العتيقة وكل ما يمتع الناظرين، بالإضافة لعبق الياسمين المنبعث من حدائقها ودورها وشرفاتها، ورائحة التنباك والمعسل التي تغطي مقاهيها الكثيرة العتيقة والحديثة. أردت ليعقوب أن يزور المسجد الأموي ليرى عراقة الفن المعماري الاسلامي. يومها ذهبنا الى هناك برفقة أخي عبد اللطيف ونجله أيضاً. توجهنا ليلاً لأن الجو في النهار كان ساخناً جداً ولا يطاق. فالشمس في شهر تموز – يوليو كانت حارقة وأنا ويعقوب إبني كُنا قد تعبنا من مشاوير السفر والنهار الطويل، الذي قضيناه في زيارة الأقارب والأصدقاء والرفاق في مخيم اليرموك. كُنا انطلقنا فجر ذلك اليوم من مخيم عين الحلوة في لبنان باتجاه مخيم اليرموك في سوريا. في تلك الزيارة السياحية لمعالم دمشق القدمية كان عبد اللطيف دليلنا السياحي والذي أصر على أن نتناول بوظة بكداش الدمشقية، الشهيرة في سوق الحميدية الدمشقي الشهير، الذي يعج بالزوار والمتبضعين.
مات المهندس الانسان، الشاب الشهم، الرجل المحبوب، رحل بسرعة عن عالمٍ ماعاد له ولا للإنسانية، عالم ذبح الشام بسيوف الأعداء والأشقاء وبخناجر غريبة وأخرى قريبة، حطها الروم خلف ظهرها، كما كانوا حطوها لسيف الدولة الحمداني في سابق الزمان. رحل عبد اللطيف وهو يحمل تلك المشاهد المؤلمة والمحزنة لسوريا التي ولد وعاش فيها خمسون سنة يتمتع بجمالها وهدوؤها وتعايش أهلها وشعبها. ربما قبل الرحيل كان قد بكى على الشام.. نحن أيضاً بكينا على سوريا وشامها وعلى عبد اللطيف الذي اختطفه الموت باكراً. وعلى كل ضحايا سوريا.
ستبقى حاضرا معنا يا قريبي وصديقي فنحن لا ننسى الأحبة.
نضال حمد
07-4-2021
المهندس الراحل عبد اللطيف علي حمد