الموقف من بوتين يصدّع جبهة بايدن – منير شفيق
بعد أكثر من شهر على الحرب في أوكرانيا تأكدت ثلاث حقائق: الأولى أن المبادرة العسكرية ما زالت بيد روسيا من حيث مجريات المواجهة العسكرية. وذلك على الضدّ مما أشاعته أجهزة الإعلام الغربية من فشل عسكري للحملة الروسية.
صحيح أن الجانب الأوكراني من جيش وميليشيات امتلكا أسلحة متطورة جداً في مقاومة الطائرات والدبابات. وقد تدربا، طوال ثماني سنوات، منذ 2014 على هذه المواجهة، وأراداها أن تكون حرب شوارع في المدن، أو حرباً ضد احتلال، فيما تحولت الخطة العسكرية الروسية إلى حرمانهما من هذه المعادلة في الاشتباك. مما أدى إلى تكتيك يتسم بالمحاصرة، وقطع الإمداد، والقصف المتواصل الذي يستنزف الدفاع، بأقل ما يمكن من الاشتباك الصفري. وبهذا أصبح الجيش الروسي، هو الذي يحدّد قواعد الاشتباك ومسار الحرب. وذلك بغض النظر عن طول أمدها. وقد كشفت المفاوضات التي جرت في جولتها الثالثة، أو الرابعة في تركيا عن قبول المفاوض الأوكراني بمبدأ حياد أوكرانيا الذي اندلعت الحرب من أجل تحقيقه. أما بقية شروط روسيا الأخرى فتحتاج إلى مدة أطول من الحرب حتى يمكن التوصل إلى اتفاق.
علماً أن اتفاقاً لوقف الحرب لا يمكن أن يحدث بموافقة أمريكية. فإدارة بايدن هي التي كانت وراء سياسات زيلينسكي الرئيس الأوكراني، في التسلح، وتهديد الأمن القومي الروسي، والذهاب بذلك حتى الحرب، وعدم القبول بالحياد، وبعدم التسلح ضد روسيا، مع الحفاظ على صداقة كل من الغرب وروسيا، بما في ذلك الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بعيداً من الناتو. فما زال بايدن وإدارته مصممين على اتخاذ هذه الحرب استراتيجية لإنزال هزيمة بروسيا حتى الإطاحة بفلاديمير بوتين.
الحقيقة الثانية أن النتائج التي وصلت إليها الحرب حتى الآن، إلى جانب المفاوضات للاتفاق على حياد أوكرانيا، تتطلبان أن يتحمل فولودومير زيلينسكي مسؤولية الذهاب إلى الحرب، وما جرّته من ويلات وخسائر في الأرواح والماديات ومستقبل أوكرانيا. وهو الذي كان معروضاً عليه، منذ البدء، إنهاء الحشد الروسي، وعدم الوصول لاندلاع الحرب مقابل حياد أوكرانيا، وعدم تسلحها ضد روسيا، وإيجاد تفاهم حول شرقي أوكرانيا.
الحقيقة الثالثة أن ما وصل إليه الرئيس الأمريكي جو بايدن من هدف يمسّ الرئيس الروسي بوتين، باتهامه بالجزار ومجرم الحرب، أحدث شرخاً في الموقف السياسي، ما بين أمريكا وأوروبا، خصوصاً فرنسا وألمانيا وإيطاليا. بل حتى رئيس الوزراء البريطاني جونسون، أعلن أنه لا يتبنى هدف الإطاحة ببوتين.
هذا وثمة إشارات أبداها بلينكن وزير الخارجية الأمريكية للتخفيف من تصريحات بايدن، وكذلك صدر مثلها عن البنتاغون. مما يدّل على ارتباك شديد، في إدارة الحرب الدائرة عملياً، بين أمريكا وروسيا.
إن الحرب على حدود أوكرانيا بين روسيا والحكومة الأوكرانية، وما تركته من آثار على الوضع الدولي، والعلاقات بين الغرب وروسيا، تظل في حدود الحرب الإقليمية ـ شبه الدولية. ولكن الحرب التي تشنّها إدارة بايدن على روسيا، والمتمثلة في الذهاب بالحرب في أوكرانيا إلى آخر مدى ـ إلى الحسم ضد بوتين، كما المتمثلة في العقوبات القصوى ضد روسيا واستمرارها إلى ما بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا، تعتبر حرباً عالمية بكل معنى الكلمة، سواء إذا استمرت تحت سقف الاشتباك العسكري الأوكراني، أو بعد انتهاء الحرب. لأن العقوبات التي تفرض على روسيا وإخراجها من منطقة “السويفت”، تعتبر حرباً. وهو ما عبّر عنه بوتين بصريح العبارة.
*ما وصل إليه الرئيس الأمريكي جو بايدن من هدف يمسّ الرئيس الروسي بوتين، باتهامه بالجزار ومجرم الحرب، أحدث شرخاً في الموقف السياسي، ما بين أمريكا وأوروبا، خصوصاً فرنسا وألمانيا وإيطاليا. بل حتى رئيس الوزراء البريطاني جونسون، أعلن أنه لا يتبنى هدف الإطاحة ببوتين*.
هذا يعني أن العالم الآن يواجه حربين كبريين حرب في أوكرانيا روسيا ـ أوكرانيا، وامتدادها السياسي والاقتصادي الأوروبي والصيني. أما الحرب الثانية فهي الأمريكية ـ الروسية الذاهبة إلى القطيعة والعدائية القصوى، إذا ما ترك الأمر لإدارة بايدن. وقد وضعت هدفها الإطاحة ببوتين. أي إيصال الاتحاد الروسي إلى ما هو، أضعف وأكثر تمزقاً، من عهد يلتسين.
هذه الحرب الثانية حين تتواصل، ولا سيما بعد انتهاء الحرب الروسية ـ الأوكرانية، تصبح الصين طرفاً مباشراً فيها، كما ستجد أوروبا نفسها أمام امتحان عسير يصعب عليها فيه مجاراة أمريكا إلى مستوى العداء المطلق ضد بوتين. ومن ثم إغلاق كل باب أمام إخراج العالم، من مواجهة انقسام عالمي، اقتصادياً وسياسياً، ومن ثم عسكرياً، ما بين كتلتين كبريين من جهة، وأمام عالم متعدّد الأقطاب الإقليمية الكبرى التي تقف على مسافة ما من الدول الكبرى العالمية، خصوصاً اليابان والهند، اقتصادياً، وإيران وتركيا والبرازيل وجنوب أفريقيا، سياسياً وتقنياً وحضارياً.
ثمة بُعد يجب التوقف عنده، قد يكون له تأثير كبير في السياسة الأمريكية، وهي الانتخابات النصفية الأمريكية التي تذهب أغلب التقديرات، إلى توقع أغلبية جمهورية في كل من مجلسي النواب والشيوخ (الكونغرس). وهو ما سيجعل إدارة بايدن مثل البطة العرجاء، كما يقولون، أو سيجعلها في حالة من الشلل، وربما ما هو أبعد من الشلل.
طبعاً هذا العامل الضاغط على سياسة إدارة بايدن، إذا وقعت في هذا المحظور، سيكون تأثيره في وضع أمريكا في ميزان القوى العالمي، أشد من تأثيره في الصراع الداخلي، بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري. وذلك لأن الصراع الدولي الذي تخوضه أمريكا في مرحلة ما بعد حرب أوكرانيا، قد يمسّ سيادة الدولار، وسيطرتها على المؤسسة المالية العالمية. وهو أمر يهمّ الجمهوريين بالقدر نفسه الذي يهم الديمقراطيين، لأنها معركة المحافظة، أو عدم المحافظة، على السيطرة الأمريكية العالمية.
بكلمة إن الإشكال الذي سيواجه أمريكا في حالة فوز الجمهوريين برئاسة المجلسين ـ أو قل في الأغلبية في المجلسين، سيرتطم بوجود إدارة بايدن الضعيفة، والمتناقضة، في داخلها، كما في موازين قوى ومعادلة دولية، أخذت رياحها تهبّ في غير مصلحتها.
وبكلمة أخرى، إنه عالم غارق في الفوضى والارتباك والاضطراب في صفوف الكبار. وهو الأفضل للمقاومين والصامدين والمظلومين والمستضعفين.