الميرمية…قصة قصيرة لفيصل سليم التلاوي
يوم اشتريت ثلاث الشتلات من الميرمية بدينار واحد من آخر استراحة مررت بها،كان الأمر بالنسبة لي مجرد دعابة، فعلى الرغم من أنني مغرم بالميرمية، ولا أحب طعم الشاي دونها، إلا أنني اعتدت على اقتناء الميرمية المجففة وليس الخضراء.
وعندما وضعتها بحرص شديد بين أمتعتي في مؤخرة السيارة، وواصلت تفقدها وريّها خلال سفري الطويل الذي استغرق يومين كاملين من السير المتواصل، لم يكن الأمر أكثر من نكتة أو تسلية عابرة .
وعندما انقصفت واحدة من الشتلات خلال الطريق بسبب زحف إحدى الحقائب عليها، لم أجد في الأمر ما يستحق الاهتمام، ولا عندما ذبلت الثانية واصفرت أوراقها بسبب قلة تعرضها للشمس في المكان الذي أسكنتها فيه في زاوية الشرفة.
لكن ذلك حفزني إلى تدارك الثالثة، ونقلها من مكانها لتستقر على سطح المنزل داخل إصيص يمتلئ تربة طينية حمراء، لا مثيل لها في هذا المحيط الرملي الذي نعيش فيه. كنت قد أحضرت التراب من منطقة جبلية بعيدة في إحدى الرحلات، واستقر على سطح الدار عامًا كاملا ينتظر نبتة جديرة به، وليس هناك أعز من الميرمية، بسبب انعدام نظيراتها في هذا المكان .
أخذت النبتة تنمو على مهل، وأنا أراقب تتابع وريقاتها واحدة بعد أخرى، وأجلس قبالتها ساعات من النهار بعد عصر كل يوم . وفي أيام الخميس والجمعة أجاورها في الصباح مرة وفي المساء مرة أخرى .
كانت الساعات التي أمضيها بجوارها أقل بقليل من الساعات التي أمضيها مع طلابي في المدرسة، لكنها أكثر من تلك التي أمضيها مع أولادي داخل البيت .
وكبرت ميرميتي على مهلها، وغدت شجيرة ترتفع عن سطح الإصيص قرابة شبرين، وتشعبت منها الفروع، واكتست بالأوراق التي ينفح شذاها أنف من يقترب منها .
كنت أحرص على التقاط الأوراق القريبة من الأرض، أوالتي مالت إلى الصفرة، كلما رغبنا في التمتع بشرب الشاي بالميرمية،نُعِدُّهُ فوق جمرات من الفحم، نشعلها ونفترش السطح بجوارها، فنتخيل أنفسنا نتفيأ ظلالها الوارفة .
كنت أضن بالأوراق الخضراء النضرة والبراعم الطرية، أتركها تشرئب بأعناقها متطلعة نحو علو جديد.ومع أن أوراقها القليلة التي كنا نضعها في الشاي لم تكن تعطيه مذاق الميرميّة المميز، ولارائحتها النفاذة مثل تلك الأوراق الجافة التي نشتريها من السوق، ربما لكثرة ريّنا لها استعجالًا لنموها وارتفاعها .
لكننا كنا نكابر ونعاند أنفسنا، مدّعين أنه لاشيء أطيب من شاي بميرمية تقطفها بيدك عن أمها، وتودعها مباشرة في إبريق الشاي.
عندما زارني صديقي ممدوح،كانت جلستنا على السطح أمام الميرمية هي أمتع لحظات لقائنا، وكانت فرحته بها لا تقل عن فرحتي .
أفضيت إليه برغبتي في استغلال الإصيص الآخر الذي يمتلئ ترابًا، ويتوق إلى احتضان نبتة مناسبة وقلت :
– لو أخذت الأمر على محمل الجد من البداية، لأحضرت معي بعض شتلات من الزعتر.
قال ضاحكاً :
-الزعتر ؟ يكفيك ما تحمله من زعتر مطحون ” دُقّة ” قل قرنفلة، وردة جورية .
– وهل وجدت للميرميه الجافة روعةً مثل هذه التحفة النابضة بالحياة أمامك، حتى تجد للزعتر المطحون مثل روعة الزعتر الأخضر الذي يكبر على عينك، تقطفه بيدك أنى شئت، وتتذوق حرارة وريقاته طازجة في فمك؟
– عندها تحقق مقولتك التي ترددها منذ أن عرفتك :” حيثما شممت رائحة الزعتر والميرمية فتش عن الفلسطينية ” .
وعندما أرسل لي صديقي ممدوح رسالته الأولى بعد مغادرته، كان أول ما سأل عنه ميرميتي الغالية، وتمنى لي التوفيق في بحثي عن زعترة تجاورها.
عندما حل الخريف بدأت أوراق ميرميتي تصفر وتتساقط تباعا، وكنت احرص على التقاطها وتجفيفها وتخزينها .
ازداد تساقط الأوراق، وعّز عليّ أن يأتي يوم فأجدها أمامي وقد تعرت نهائيا من أوراقها، و غدت مثل حطبة جافة. ولم أتركها وشأنها لترتاح قليلاً، ثم تعاود النمو والاخضرار على مهل في مطلع الربيع القادم ، أردت أن أعاند نواميس الطبيعة، فأرغمها على البقاء في خضرة دائمة، ولم يطل بي التفكير، فقد دلتني نشأتي الريفية على الحل السريع . حفنتين من سماد طبيعي، من روث البهائم الجاف أخلطهما بتربتها، ثم شربة ماء هنيئة تبعث فيها الحياة من جديد، وتواصل خضرتها الدائمة .
– من أين آتي بالروث في هذه المدينة ؟
– لو استعنت بأحد طلابي ممن لديهم بعض الطيور أو الدواجن .
– لكن الأمر سيكون مثيراً للسخرية بين الطلاب .
عزمت على أن أبحث بنفسي، ومضى يومان وثلاثة وأسبوع .كلما خرجت في سيارتي لشراء غرض منزلي تعمدت إطالة الجولة، والمرور على أطراف البلدة، لعلني أعثر على بغيتي. على بقايا دمنةٍ أغرف منها حفنتين في كيس من البلاستيك، وأعود بها لإنقاذ ميرميتي .
وأخيرًا وجدتها، عثرت على كومة من روث البهائم الجاف في زاوية بستان في الطرف الشمالي من البلدة .رصدت المكان وعاينته عن بعد،ولكن كيف يمكنني أن أوقف سيارتي، و أتوجه صوب الدمنة لأغترف منها في وضح النهار؟
– لعل أصحابها يدخرونها لتسميد أرضهم مثلما كنا نفعل، لقد كنا نعد هذا الروث ثروة نطرحها في الأرض في أواخر الخريف، قبل موسم الأمطار والحرث، فتنبت الأرض في العام التالي غلة مضاعفة .
– ماذا لو ضبطوا الأستاذ المحترم متلبسًا بجريمة سرقة حفنتين من الروث ؟
– لا أظنهم يهتمون بهذا السماد ويحرصون عليه، بل يتمنون أن يأتي من يخلصهم منه . استقر رأيي على اختيار صبيحة يوم العطلة، عندما يتأخر الناس في نومهم، عندها أبادر إلى اقتحام الكومة، وأغترف ما أشاء وأمضي سريعًا دون أن يلحظني أحد.
وهكذا كان، عثرت في مشيتي لفرط السرعة وأنا عائد إلى السيارة، أداري بجانبي كيسًا صغيرًا، وانطلقت بسيارتي عائدًا إلى المنزل .
تلفت يمينا ويسارا وأنا أدخل الدار، ما اطمأننت إلا بعد أن أغلقت الباب خلفي، وصعدت مباشرة إلى السطح. جلست أمام ميرمتي العزيزة، ونبشت التراب من حولها، وخللته بالسماد الذي أحضرته، ثم طمرته وأتبعته بريّة غامرة، وغادرتها مطمئنًا مرتاح الضمير .
قبل أن ألج عتبة الباب عائدًا من المدرسة في اليوم التالي فجعتني ابنتي الصغيرة بالنبأ :
– ماتت الميرمية، ماتت من السماد .
ما دخلت المنزل بل هرعت إلى السطح، وجدتها قد ذبلت تمامًا وانكمشت على نفسها، وتضاءل حجمها، وعجزت عن مواراة عريها الكامل .
حاولت جهدي إنقاذها، نبشت التراب المختلط بالسماد، وقذفت به خارج الإصيص، وقمت بغسل التربة عدة مرات، في كل مرة أميل الإصيص جانبًا لينسكب ما تبقى من أثر الروث .
فرغت من محاولتي، وأملت أن أكون قد أنقذتها قبل فوات الأوان، وانتظرت على أحر من الجمر لأرى النتيجة في الأيام التالية .
في يومي الأول جربت ليَّ طرف غصن جانبي، فانكسر مثل عود جاف وتقدمت نحو غصن رئيسي فوجدت فيه بقية من رمق فأمّلت نفسي .
وفي كل يوم كانت يدي تتقدم خطوة أخرى، فينكسر الغصن يابسا لا حياة فيه، حتى كان اليوم الذي انقصف فيه بين يديّ جذعها الرئيسي وخلَّف حسرة في القلب .