الهبوط إلى الهاوية : فتح من فاعل إلى مفعول به
نضال حمد
يمكننا القول أن نكسة أوسلو التي كانت القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية من إبطالها الرئيسيين ،والتي مازال الرئيس الحالي للسلطة محمود عباس من أبطالها الأساسيين ورموزها الأوليين .تعتبر النكسة الأقوى والأعنف في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني الحديث. ويمكن تسميتها أم النكسات. لأنها نكست عقال عقال حركة فتح وعقال منظمة التحرير الفلسطينية، حيث تم فيما بعد خنق المنظمة وشطبها وتغييبها تماما لحساب السلطة المثقوبة والمنخورة، السلطة المرتهنة، التي ينخر فيها المفسدون، وتعبث بها الأذناب والأذيال. ونفس هؤلاء حولوا حركة فتح من فعل وطني لفاعل ثوري إلى مفعول به بأثر رجعي.
قامت القيادة الهرمة التي عمرت سياسياً واستنفاذاً طويلا بتأسيس أجهزة أمنية قمعية لبت بدورها كافة طلبات ومطالب الطرف الأقوى أي الاحتلال. فأعتقلت وأغتالت وسجنت وأمتهنت وأهانت المناضلين من أبناء فتح والفصائل الأخرى. ثم تطورت أمور هؤلاء القوم الذين بالصدفة هيمنوا على مقدرات المنظمة، الكيان الوطني الفلسطيني المعمد بدماء الشرفاء من شعب فلسطين. حيث صاروا المرجع للدول والحكومات في العالمين فحضروا بكل ما لديهم من مستزلمين ومستوزرين ومنتفعين ومرتهنين وباعة ضمائر وشراء ذمم. حضروا هم وغابت القضية الفلسطينية مع عنوانها الوطني ممثلاً بمنظمة التحرير الفلسطينية، وعامودها الفقري حركة فتح، هذا الفصيل الذي أنجب أبو علي اياد وأبو جهاد الوزير وسعد صايل وماجد أبو شرار وأبو اياد وبلال الأوسط ودلال المغربي وغيرهم من الشهداء والاحياء. لتحل مكانه سلطة لا حول لها ولا قوة، حالها كحال دويلات وجمهوريات الموز. وسبب تسلطهم وهيمنتهم يكمن أيضا في فشل وضعف وهزل القوى الفلسطينية المعارضة. حيث أن الأخيرة منظمات وأحزاب بلا برامج. ولهذا لم تتمكن من هزيمة معسكر أوسلو، فأي برنامج سياسي يتحتم عليه استثمار التضحيات الميدانية الضخمة كي ينجح ويستمر وينتصر.
لا بد للتاريخ أن يسجل ويدون في سجلاته تلك المهزلة الفلسطينية التراجيدية، وسوف يشهد التاريخ في المستقبل أن كل من اللجنتين المركزية لحركة فتح والتنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قد أساءتا في السنوات العشر الأخيرة للنضال الوطني الفلسطيني وللقضية الفلسطينية. وخربتا معظم ما بناه شعب فلسطين بتضحياته على مر سنين القرن الماضي، وفي الانتفاضتين الأولى المغدورة والثانية “المنصورة”… فكانتا كشاهد زورإذ مررتا ما عجزت قيادة أوسلو عن تمريره شعبياً. وبتلك التمريرات للاتفاقيات المضرة بالحقوق الوطنية الفلسطينية أصبحتا خارجتين عن القانون الثوري الطبيعي وعن الالتزام الوطني الثابت لشعب فلسطين الأصيل. خاصة أن اللجنة التنفيذية للمنظمة لم تعد شرعية منذ وفاة الرئيس عرفات. وذلك لكون إن سبعة من أعضائها إما ماتوا (سليمان النجاب، فيصل الحسيني، ياسر عمرو و ياسر عرفات) أو أسروا (عبد الرحيم ملوح) أو لا يستطيعوا الدخول إلى فلسطين لحضور الاجتماعات (فاروق القدومي). والعضو الأخير اسعد عبد الرحمن وهو مستقيل. وبحسب المادة 14 من النظام الداخلي لمنظمة التحرير الفلسطينية “إذا شغرت العضوية في اللجنة التنفيذية بين فترات انعقاد المجلس الوطني لأي سبب من الأسباب تملأ الحالات الشاغرة حسب نص البند (ب)، وإذا كانت الحالات الشاغرة تساوي ثلث أعضاء اللجنة التنفيذية يتم ملؤها من قبل المجلس الوطني في جلسة خاصة يدعى لها خلال مدة لا تتجاوز ثلاثين يوما”.
وبما أن حالات الغياب أكثر من الثلث وبحسب القانون فإن عمل اللجنة التنفيذية وما تتخذه من قرارات غير شرعي وغير قانوني ومخالف للدستور لأنه يتم باجتماعات للجنة التنفيذية بأقل من ثلثي الأعضاء.
لقد هدمت عملية أوسلو مع ما تلاها من أشياء مشئومة كل ما بنته السواعد الفلسطينية المقاتلة خلال الثورة الفلسطينية المعاصرة. وأكثر من ذلك فقد تحولت السلطة الفلسطينية الوليدة من رحم اتفاقيات أوسلو إلى تجمع كبير للفاسدين والمفسدين في الأرض. فسدوا جميعهم وهذا يعيدنا لقول السيد المسيح عليه السلام “إذا فسد الملح بماذا نملح؟” .. لم يعد هناك في السلطة ملح فقد فسد في الداخل ويحاولون إفساد ما تبقى في الخارج. لم يعد في صفوف السلطة مكانا للمناضلين وأصحاب المبادئ من أبناء جيل الثورة والتحرير والكفاح المسلح وينابيع الفتح.
أصبح مصير الشعب الفلسطيني معلق بأيدي مجموعة من المنتفعين، جلهم من المتسلقين وقادة المصادفة وعبيد البطاقة الممغنطة التي تصدرها سلطات الاحتلال. هؤلاء المزايدون على أهل فلسطين من اللاجئين خارج الوطن، هؤلاء الذين يعتبرون وجودهم في الداخل دليلا على نضالهم، مع أن النضال الوطني الفلسطيني الذي عرفناه ونعرفه لا يكون نضالا بالفنادق والسيارات الفخمة والشقق الضخمة. هؤلاء الذي يعتبرون نضال اللاجئين في الخارج دفاعا عن حقهم بالعودة مجرد موضة عابرة أو تسلية يلهو بها الشعب الفلسطيني اللاجئ خارج وطنه فلسطين. فمنذ عودة هؤلاء والتقائهم ببعض رموز السلطة في الداخل شكلوا قيادة جديدة للمنظمة وفتح، أصبحت فلسطين المحتلة كقطعة من الجبن السويسري المثقوب من كل الجهات. لقد عاد الذين عادوا عبر بوابة اتفاقية أوسلو سيئة الصيت والسمعة وبعد ذلك أصبحت حركة فتح كمريض دخل في غيبوبة. وأمتدت تلك الغيبوبة طويلا ولم تنفع كافة أنواع العلاج في إنقاذ المريض من المرض الخبيث الذي سيطر عليه، حتى انتشر فأمتد لكافة أنحاء الجسد الهزيل. ومما زاد المرض انتشارا وفتكا، هو قلة حيلة وتردد مواقف الرافضين لمشروع أوسلو في حركة فتح، حيث استطاعت قيادة سلام الشجعان شراء مواقف معظمهم ووضعهم مثل اللجنة التنفيذية (المشتراة) في خانة اليّك. وأوجدت تلك القيادة لهؤلاء وظائف فشغلتهم كموقعين وحملة أختام لتمرير ما لا يمكن أن يمر بالقانون.
تحولت الحركة الفلسطينية الأكبر من تنظيم ثوري إلى دولة وسلطة في المنافي ثم في أجزاء من الوطن مستعادة جزئيا. وطغت البيروقراطية وعم الفساد وأنتشرت المحسوبيات والشللية في السلطة وطغت الفوضى على أوضاعها. وأصبح الولاء الأكبر فيها “للمعلمين” و”العقداء” ولأصحاب المال وليس للمبدأ.
أنشأت فتح أجهزة أمنية ومخابراتية قادها بعض أكثر الناس فسادا، ومنها بالذات جهاز الأمن العسكري الذي كان يقوده عطاالله عطاالله أبو الزعيم، الذي اختطف في بيروت مناضلين عرب وسلمهم لحكومات قامت بإعدامهم. وإذا ما قمنا بدراسة عن تلك الأجهزة الفاسدة التي فرخت فيما بعد جهاز الأمن الوقائي في غزة والضفة حيث قام ويقوم الجهاز المذكور بأعمال سيئة وضارة. سنجد أن تأسيس جهاز الأمن الوقائي كان عملا غير صحيح. فهذا الجهاز لم يقاتل الاحتلال ولم يتصدى له في عملية السور الواقي ولم يواجهه عندما اجتاح الأراضي الفلسطينية المستباحة. لكن ومع هذا يوجد حالات فردية شريفة ومناضلة وملتزمة داخله، لكنها تبقى حالات فردية خاصة وقليلة تم اغتيال وملاحقة واعتقال وطرد معظمها. وعلى النقيض من المقاومة والشعب المكافح الصابر كان ولازال الوقائي يقوم باعتقال وملاحقة المناضلين، كما أنه يعتبر في غزة أكبر عامل للفوضى المسلحة والابتزاز واللعب بأمن المواطن وعمليات الاختطاف، التي لن يكون اخرها اختطاف مدير مكتب (القدومي) رئاسة اللجنة المركزية لفتح في خان يونس سليمان الفرا. والذي أعقبه إنذار للخاطفين من القدومي، فبيان مقتضب صدر عن مكتب ابو اللطف يعلن فيه فصل الأمن الوقائي من حركة فتح. لكن لا ندري مدى الإمكانيات التي تجعل القدومي قادرا على تطبيق قراراته. فالوقائي جزء من لعبة رئيس السلطة محمود عباس وهو جهاز له فروعه وتحالفاته مع الغرباءومصالحه مع الأعداء قبل الأشقاء. ولم يتمكن حتى الرئيس الراحل عرفات نفسه الذي سمح للثنائي دحلان والرجوب بقيادته أن ينهيه. منذ ذلك الحين فقدت فتح ومعها السلطة السيطرة على الأب الروحي للأمن الوقائي في غزة. كما لم يعد هناك في فتح من هم قادرون على إيقافه، لان فتح نفسها أصبحت تحت رحمة أموال الوقائي. وقد تكون نهاية حركة فتح على يد الأمن الوقائي الذي قد يخرجها من اللعبة ويعلن نعيها نهائياً على الأقل في قطاع غزة. وهذا ما لا يتمناه أي فلسطيني، لأن صحة فتح من صحة فلسطين وأهل فلسطين يريدون شفاء وتعافي حركة فتح حتى تتعافى قضيتهم أيضاً. لكن للأسف الشديد فالذين يحكمون غزة هم أمراء الحكم الذاتي المحدود، أمراء الأمن الوقائي الانتقائي أمراء السلطة العباسية، اذ يوجد الآن تحالف يضم محمد دحلان، محمود عباس ونصر يوسف ومن يتبعهم من المحسوبين في السلطة وفتح. هذا التحالف مدعوم من قادة المصادفة في المجلسين الثوري (فتح) والتشريعي (السلطة) ومن غالبية أعضاء اللجنة التنفيذية (م ت ف ) العتيدة التي كما أسلفنا فقدت شرعيتها.
من الواضح كذلك أن قيادة أوسلو الفتحاوية قررت الانقضاض على القدومي وتطييره من الساحة لأنه أصبح آخر عقبة في وجه سياستهم الداخلية والخارجية. ولو أن القدومي كان اقل ترددا في موقفه من عباس وجماعة أوسلو، ولو أن الفصائل الفلسطينية المعارضة كانت أكثر حنكة وأقل هرولة للقاء عباس الذي يريد ويصر على محاسبة بعضها بأثر رجعي أي محاسبتها على رفضها لعبة أوسلو الكارثية. لو أنها مجتمعة هي والقدومي ومحمد جهاد والكادر الفتحاوي الملتزم بالينابيع، بالإضافة للمناضلين والشرفاء من كتائب شهداء الأقصى ترسخ لتحالف واضح البرنامج والأهداف. برنامج مشترك أساسه العودة لمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، والقيام باستعادتها من الذين يستولون عليها، وكذلك تفعيلها عبر الانتخاب المباشر حيث أمكن (في أوروبا والمهاجر الأجنبية) أو عبر نظام النسبية حيث يمكن (المخيمات في الداخل والخارج). ربما سيكون بمقدورهم فعل شيء ما يجعل رئيس السلطة يتوقف عن المضي قدما في برنامجه التدميري الكارثي، ذاك البرنامج الذي يتمسك به عباس تمسكا يثير الاستغراب والريبة. لكن لكي يفعل أهل المعارضة ذلك مطلوب منهم تقديم برنامج وطني واقعي يكون بديلاً لبرنامج أبو مازن ومن معه من أهل اوسلو. برنامج يفعل لغة العقل المسنودة بلغة الحق المقدس.
رئيس السلطة محمود عباس يظن أنه بهندسته الأوسلوية أجبر الاحتلال على الانسحاب من قطاع غزة، وينكر بسخرية واستهزاء دور صواريخ القسام والأقصى وسرايا القدس وغيرها من صواريخ المقاومة المسلحة في عملية التحرير. مع العلم أن تلك الصواريخ صنعت توازنا معيناً ومعادلة ما، بينما هو لم يصنع من خلال أوسلو أي شيء ذات قيمة. وهو يظن أيضا أن من حقه العبث بمصير اللاجئين الفلسطينيين فتصريحاته السابقة في ألمانيا واللاحقة في بيروت حول توطين اللاجئين وعدم رغبتهم بالعودة تعتبر تصريحات ذات طابع توطيني بحت.
ولا يمكن تمريرها بغير هذه الصورة وبغير هذا المفهوم. لذا لو كان هناك تعددية حقيقية وقانون في المؤسسات الفلسطينية لكان يجب محاسبته على تصريحاته تلك. لكن واضح أنه لا يوجد مؤسسة بل توجد جماعة التقت مصالحها في ورثة الرئيس عرفات وأستولت على كل شيء. فأول ما فعلته محاولة شطب حقوق اللاجئين الفلسطينيين. وهذه الجماعة وزعت قبل فترة منشورا أو رسالة صفراء وهي صفراء المعاني أيضاً، صادرة عن وزارة المغتربين في السلطة تدعو فيها المغتربين الفلسطينيين (اللاجئين! صاروا مغتربين عند السلطة الفلسطينية) للتنسيق مع الجاليات والمنظمات اليهودية في أوروبا. يريدون للجاليات الفلسطينية ان تنسق وتعمل مع المنظمات اليهودية، هذا بعدما وصموا اللاجئين بالمغتربين، بينما المستوطن الصهيوني في الضفة والقطاع صار من المواطنين. هؤلاء أعداء حق العودة هم الذين شطبوا منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح. ونعطيكم مثالا على أحدهم وهو من كبار المفاوضين و قادة السلطة وفتح والمنظمة فقد علق على تساؤلات فتاة فلسطينية نرويجية كانت في عداد وفد من شبيبة حزب اليسار الاشتراكي النرويجي زار فلسطين المحتلة قبل أيام والتقى به، حين قالت له أن عليكم العمل أكثر من اجل حق العودة للاجئين، فكان جوابه : واضح أن اللاجئين وجدوا تسلية يلهون بها في الخارج.. هذا الشخص وأمثاله يعملون مع الغير بلا ملل وكلل من أجل شطب حقوق اللاجئين عبر مشاريع مشبوهة مثل بانوراما وجنيف وأخرى مريبة وغير واضحة وخطرة مثل تفاهمات عباس وعبد ربه مع شخصيات صهيونية .
13/8/2005