الهزيمة الثقيلة لـ”العدالة والتنمية” حزب “اخوان التطبيع” في المغرب..
الهزيمة الثقيلة لـ”العدالة والتنمية” في المغرب.. وقفات ورسائل
يغادر حزب العدالة والتنمية الحُكم مجلَّلاً بعار التطبيع مع “إسرائيل”، بعد أن قدَّم فقهَ المصالح على فقه المبادئ.
سجَّلت نتائج الانتخابات البرلمانية المغربية سقوطاً مدوّياً، وهزيمة سياسية مؤلمة لحزب العدالة والتنمية المغربي، وأظهرت احتفاظه بــ (12) مقعداً فقط من أصل (125) مقعداً فاز فيها في آخر انتخابات جرت عام 2016. في المقابل، اكتسح حزب التجمع الوطني للأحرار، محقّقاً (97) مقعداً، يليه حزب الأصالة والمعاصرة في المرتبة الثانية، وحصل على (82) مقعداً، تلاهما حزب الاستقلال في المرتبة الثالثة، حاصداً (78) مقعداً.
لم يتوقَّع أحد أن تكون الهزيمة وَفْقَ هذه الصورة، وخصوصاً أن كلَّ التوقعات كانت تشير إلى أن العدالة والتنمية سيتراجع إلى حدّ ما، وقد لا يتمكّن من الاستمرار في تشكيل الحكومة. لكن، مع هذه النتائج، بات حزب العدالة والتنمية خارج المشهد السياسي في المغرب، بعد سنوات طويلة من سيطرته على البرلمان والحكومة، حتى إن أمينه العام لم يتمكّن من الاحتفاظ بمقعده البرلماني على الأقل.
علينا أن نتوقَّف أمام المشهد المغربي وقراءته بعمق أكثر، وتفسير النتائج التي أفرزتها الانتخابات المغربية، والعوامل التي أوصلت العدالة والتنمية إلى هذه الانتكاسة. ووفق إجماع كثيرين، فإن السبب الحقيقي في هذه النتائج لم يكن وليدّ اللحظة، بل جاء نتيجة صيغة تراكمية، بدءاً بالتقصير في ملفات داخلية ذات أهمية للمواطن المغربي، تتعلّق بالصحة والتعليم والاقتصاد، وانتهاءً بالقشّة التي قصمت ظَهر البعير، أي “خطيئة التطبيع”، والتي رعاها حزب العدالة والتنمية، أو بشكل أدق جريمة التطبيع التي ورَّطَ فيها الدولةَ العميقة في المغرب، ومباركة سعد الدين العثماني للتطبيع، ورضوخه لتوجيهات الملك المغربي محمد السادس بشأن توقيع الاتفاقية المشؤومة.
شكَّلت هذه الخطوة السياسية (أي توقيع اتفاقية التطبيع) الضربة الموجعة للعدالة والتنمية المغربي، بعد أن اتَّضحت حالة التناقض الكبيرة بين تصريحات قادته والمواقف العملية، والتي أظهرت أزمة هوية حقيقية داخل الحزب الذي ارتضى لنفسه أن يكون أداة في يد الملك، ورفع شعار التطبيع من أجل فلسطين، حتى أصبح، في نظر المغاربة، حزب “عرّاب التطبيع” الذي تنازل عن قيم قاعدته الشعبية ومكانة فلسطين في قلوب المغاربة، فاستوجب العقاب من النواة الصلبة للحزب أولاً، ثم كان خيار المغاربة خيارَ التصويت العقابي، وصولاً إلى الخسارة الفادحة.
شهد حزب العدالة والتنمية المغربي مؤخَّراً هزّات داخلية كبيرة، دفعته إلى إطلاق حوار من أجل إيجاد إجابات بشأن القرارات الأخيرة التي اتُّخِذت. وزاد توقيع رئيس الحكومة المغربية والأمين العام للحزب، سعد الدين العثماني، على اتفاق تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، في حدّتها على الصعيد الداخلي.
ثمة وقفات ودلالات كثيرة تُسجَّل أمام مشهد نتائج الانتخابات البرلمانية المغربية المتوقَّعة. ولا شكّ في أن الهزيمة الثقيلة، والتي لحقت بحزب العدالة والتنمية المغربي، هي انعكاس طبيعي للأسباب والدوافع الداخلية والخارجية الكثيرة. فمثل هذه الواقعة يستوجب الدراسة الواعية والمراجَعة لما بات يُعرَف بالثنائيات المتناقضة.
الأسباب كثيرة وراء انتكاسة العدالة والتنمية. وانطلاقاً من العوامل والدوافع، يسجِّل المشهد علامات كثيرة، أبرزها اتخاذ المواطن المغربي سلوكَ التصويت العقابي لأداء الحكومة على مدى عشر سنوات، وحالة الانتقادات الكبيرة للأداء الاقتصادي الحكومي داخل المغرب، واتخاذ منطلقات وقرارات أحادية داخل الحكومة لا تتَّسق مع التوجهات الأساسية للحزب، الذي يحظى بشعبية على أساسها، كالموافقة على تشريع القنّب الهندي للأغراض الطبية والصناعية، والذي ترتّبت عليه أزمة داخل الحزب، أدّت إلى استقالة رئيس الوزراء المغربي السابق عبد الإله بن كيران، وتجميد عضويته في الحزب.
يُضاف إلى ذلك أن التعديلات التي جرت مؤخَّراً على قانون الانتخابات لم تكن في مصلحة الحزب، وكذلك الرضا بسياسة الاستعمال من جانب الديوان الملكي، والرضا بسياسة التماهي بديلاً عن سياسة المبادئ والثوابت، وانتهاج سياسة التبرير للقرارات المتخَذة، وغياب الخطط والبرامج، وتقديم سياسة الاستحواذ بديلاً عن سياسة الشراكة والمشاركة مع الأطراف الأخرى. والأسباب كثيرة لا مجال لحصرها. فكل ذلك جعل المشهد الداخلي للحزب، والمشهد الشعبي المغربي، يشكّلان صورة نمطية تعكس حالة عدم رضا، ووجود توجّهات جديدة في المشهد المغربي.
وجود أي حزب سياسي داخل السلطة أصبح اليوم مرتبطاً بثلاث قضايا أساسية، أُوْلاها المحافظة على المبادئ والثوابت، ثم القدرة على الاستجابة للمطالب الاجتماعية والاقتصادية، ثم الاقتناع الشعبي بشرعية الإنجاز من عدمها. وقتها، تحسم صناديق الاقتراع إلى أي جهة ستذهب الأصوات.
غرَّرت الإدارة الأميركية السابقة، بزعامة دونالد ترامب، بحزب العدالة الحاكم في المغرب، بشأن الاعتراف بالسيادة على الصحراء المغربية، وبعض من الامتيازات، في مقابل رشوة التطبيع. والحقيقة اليوم أن ما قبل نتائج الانتخابات البرلمانية المغربية ليس كما بعدها، فلقد سقط ترامب، وسقط العدالة والتنمية، وبقيت الصحراء الغربية منطقة متنازَعاً عليها.
يغادر حزب العدالة والتنمية الحُكم مجلَّلاً بعار التطبيع مع “إسرائيل”، بعد أن قدَّم فقهَ المصالح على فقه المبادئ. وهذه هي الحقيقة الواضحة والأبرز في المشهد المغربي، على الرغم من التفاصيل الأخرى التي يجب أن يقرّ بها كل أعضاء الحزب المغربي، بعيداً عن نظرية المؤامرة، والتي يحاول البعض استحضارها لتبرير الفشل، فالسُّنن لا تحابي ولا تجامل من ارتضى أن يتنازل عن قدسية القضية الفلسطينية من أجل وعود أميركية قطعها ترامب آنذاك، كما لا يمكن تبرير جريمة كجريمة التطبيع، تحت أيّ ظرف وزمان.
سقط اليوم حزب العدالة في الانتخابات البرلمانية بعد سقوطه في وَحْل التطبيع. فهذه الخسارة حتمية لكل مَن تسوّل له نفسه أن يبيع القضية الفلسطينية، أو أن يبيع أمانة الشعوب التي ائتُمِنَ عليها، ويطبّع مع “إسرائيل”. فالشعوب لا تنسى ولا تغفر لأي قوة سياسية، مهما كان لونها، أن تبيع فلسطين ومبادئ أمتها وشعوبها. فثبات العمل يكون في القيم والمبادئ والمنطلقات، حتى تبلغ الأهداف.
يتوجب على حزب العدالة والتنمية المغربي الاعتراف بالهزيمة، واستخلاص العِبَر من النتائج، وإعادة قراءة المشهد بطريقة مغايرة. فهذه النتيجة تضع حزب العدالة والتنمية أمام مفترق طرق حقيقي: إمّا الاندثار، وإمّا الإقرار بالأخطاء السابقة، بهدف تصويب المسار، سواء على الصعيد الداخلي، أو حتى الخارجي، تجاه القضايا الثابتة. فتجربة المغرب تقول، بوضوح، إن الشعوب العربية حيّة، ولديها انتماء كبير إلى قضيتها الكبرى فلسطين، وإنها تحاسب مَن تسوّل له نفسه المَسّ بها. ففلسطين الرافعة الخافضة، ومن يلعب بالثوابت فهو المتغيّر، لا محالة.
أمّا تداعيات المشهد الجديد في المغرب، وصعود التجمع الوطني للأحرار، أو، كما يقال، الحزب الأكثر قرباً إلى ملك المغرب، بالإضافة إلى الأحزاب الأخرى التي حصدت مقاعد، كحزب الاستقلال، فستُعيد تشكيل المشهد على وجه مُغاير لما كانت عليه السنوات العشر الماضية داخلياً. ولا يجب المبالغة كثيراً أمام تحديات داخلية يعيشها المغرب بفعل أزمات اقتصادية وأزمة “كورونا” وغيرها. أمّا السياسة الخارجية للمغرب فستبقى في يد الملك، ولن تتغير كثيراً تجاه القضايا الجوهرية في المنطقة، ولاسيما تجاه قضية التطبيع مع “إسرائيل”، أو التراجع عنها، أو حتى تجاه القضية الفلسطينية بصورة أساسية.