الهمس لأغصان الأشجار – قصة: رشاد أبوشاور
تيقنت أن مرضته هذه المرّة هي مرضة الموت، وهي وإن تشبثت بالأمل بشفائه، وحرصت على تقديم الأدوية له في أوقاتها علّها تسعفه، فقد باتت تشعر بالخوف من الوحدة وهي تراه شبه ميت، بالكاد يهمس بكلمات متقطعة بصوت واهن يشي بوهن جسده.
أخبرها الطبيب وهو يفرك يديه بأن الأعمار بيد الله، وأنه لم تبق أدوية لم يصفها له، ودعاها أن لا تفقد الأمل من رحمة الله..فرحمة الله فوق كل شيء.
هذا يعني أنه لا شفاء له، وانه لن يسعفه أي دواء، بل إن الطبيب نصحها: لا تتعبي نفسك، وادخري فلوسك لحاجتك..انقليه من المستشفى إلى البيت.
اتصلت بابنيهما وابنتيهما، وأبلغتهم أن والدهم يرقد ميئوسا منه، وأنه في آخر أيامه، وأنه يتأوه كثيرا، ويبدي حزنا كثيرا لا يبوح بأسبابه، وإن كانت تعرف أن بعدهم عنه، وعدم حضورهم لزيارتهما، سبب تأوه وحزنه وصمته الدائم وتجنب الحديث عنهم.
حضروا، وبعد السلام قرروا إعادة نقله للمستشفى رغم ممانعته، بهز رأسه، وبكلمات هي عبارة عن همهمات مع رجفات عصبية من راحتيه. هم أرادوا نقله للمستشفى، لا أملاً بشفائه، ولكن تعبيرا عن ندمهم، وتعويضا عن تقصيرهم.
في المستشفى جلسوا في قاعة الانتظار، وأحيانا وقفوا عند رأس والدهم الذي كان يفتح عينيه قليلاً ويشيح بوجهه عنهم، والذي ما أن يغادروا الغرفة حتى يهمس لزوجته:
حضروا لإلقاء نظرة الوداع علي وأنا أموت…
يمرر نظره على وجوههم شبه مغمض العينين، ويتنفس من أنفه وهو يغلق فمه، ولا يسأل عن الأحفاد، ولا عن أحوالهم، فهو اعتبرهم جميعا منذ سنوات غرباء، فسبع سنوات مرّت على عمل الإبنين في الخليج، ورحيل البنتين مع زوجيهما، لم ير وجه أي منهم جميعا، جعلت قلبه يتحجر من جهتهم، ويتجنب ذكر الجميع، رغم محاولة أمهم تخفيف غضبه، والتماس العذر لهما ولهن، فالغربة تشقي، وتنسي، وتفسد القلوب، والمجيء مكلف، والحياة صعبة يا ابن الحلال.
فتح فمه وشهق، وارتجف بدنه، والتوى رأسه على الوسادة، وهمد بدنه، فصرخت المرأة بما تبقى فيها من قوّة بدن، هي التي نيّفت على السبعين، والتي عاشت مع رجلها خمسين عاما. لم تندم على يوم عاشته معه، فقد عاملها بحب ولطف واحترام ولم يسيء لها يوما، ولا تطلعت عينه إلى غيرها…
عندما رأوا الدموع في عينيها وهي تفتح باب الغرفة أدركوا أن الأب مات. اقتحموا الغرفة وانحنىيا على سرير أبيهما وهما يجهشان، وناحت البنتان بلوعة، أمّا الأم فاحتضنت رأسه، وأسدلت غطاء رأسها على رأسها ورأسه، وعلى وجهه سالت دموعها وبللت شاربه وأنفه وفمه وذقنه، وهمست بصوت خافت: لمن ستتركني يا روحي؟! لمن ستتركني وحيدة بعدك؟!
حضر الطبيب، ورغم تيقنه بأن الرجل فارق الحياة إلاّ أنه جس نبض يده، وتأمل عينيه، وأبدى أسفه وترحم عليه، وأغلق جفونه، وربت على صدره وكأنه يقول له: هذه نومتك الأخيرة الطويلة.
يا حاجة وحدي الله، وترحمي عليه، وسامحيه…
قال الطبيب وهي يدي ظهره، فهو واثق من أن كلماته لن تخفف حزن المرأة التي فقدت رفيق عمرها.
قال أكبرهم:
إكرام الميت دفنه، لذا سندفن أبي اليوم ..عصرا، يا أمي.
ظلت صامتة ورأسها بين يديها.
تم غسله، ووضعت القطنة في شرجه، وملأت عيناه بالتراب. ثم حمل في سيارة الإسعاف، وخلفها سارت سيارات حملت الأقارب والجيران وبعض المعارف، ووري الثرى في قبر حفر سلفا، وقبلت التعازي لثلاث ليال.
الأم تغطي رأسها، وتغرق في الصمت، وجسدها يختلج كأن شيئا يمور في داخلها يرجه رجا. لا تنام، ولا تأكلن ولا تستجيب لرجاء ابنتيها بأن تأكل،أو تنام لترتاح قليلاً.
الأم لا تقول شيئا، والإبنان والبنتان يلحون عليها بأن تطلب منهم ما تريد، ولكنها سادرة في صمتها، وترد أحيانا على توسلاتهم: سافروا..روحوا..مع السلامة.
تهامس الشقيقان والأختان، وتمتموا، وقرروا.
انحنى الأكبر على رأس والدته وسألها:
يا أمي: إذا شئت يمكن أن نبيع البيت، وأن ندخر لك مبلغا، وندخلك مأوى العجزة، وهو أكرم لك وأليق..وسنطمئن عليك دائما عندما نحضر في الصيف!
رفعت رأسها ونقلت نظرها على وجوههم بعينيها المحمرتين:
يمكنكم أن تبيعوا البيت بعد موتي. أنتم تظنون أنني أعيش في هذا البيت وحدي، أليس كذلك؟ لقد عشت مع والدكم قرابة خمسين عاما، وهنا سأكمل معه، فهو مات بالنسبة لكم، ولكنه حي معي. بيعوا البيت وتقاسموا ثمنه بعد موتي، فهذا البيت بنيناه قبل أن ننجبكم..وأنتم لن تحافظوا عليه..مع السلامة، ارحلوا..عودوا من حيث جئتم.
نهضت ومضت إلى الحديقة الصغيرة وأخذت تتحسس أغصان الأشجار، وتنحني عليها وتهمس لها:
زارعك مات، ولكنني سأعتني بك، فقد أوصاني أن لا أهملك حتى تبقي خضراء.
تأمل الأخوان والأختان والدتهم، ثم غادروا دون وداع فالأم لم تمد يدها للأيدي التي امتدت.. مضوا حاملين حقائب صغيرة فيها غياراتهم القليلة، فهم حضروا في إجازة طارئة سريعة لإلقاء النظرة الأخيرة على الوالد.. وبيع البيت وتقاسم الحصص بحسب الشرع.
قصة: رشاد أبوشاور