الواقع الفلسطيني وخياره – منير شفيق
ثمة شبه إجماع فلسطيني على دَعم الانتفاضة الفلسطينية التي انطلقت من المواجهات ضد إقامة الحواجز الحديدية في ساحة باب العامود، وامتدت لتدعم اعتصام أهالي الشيخ جراح في مقاومة اقتلاعهم من بيوتهم، وقد تركزت على الحشد في المسجد الأقصى للتصدي لأكبر هجمة كانت تُعد لاقتحامه من قِبَل جماعات الهيكل في إحياء ما يسمونه ذكرى احتلال القدس كلها عام 1967.
ثم جاء تدخل المقاومة في قطاع غزة بقرار تاريخي، عندما اشتد خطر اقتحام المسجد الأقصى، وذلك بإطلاق الصواريخ باتجاه القدس لمنع اقتحامه. وقد تحوّل إلى اندلاع الحرب الخامسة بين الجيش الصهيوني، وبين الشعب والمقاومة في قطاع غزة. وقد أدى هذا بدوره إلى اندلاع انتفاضة شبابية في مدن مناطق الـ48 وقراها. ومنها انتقل لهيب المواجهة إلى الضفة الغربية، مما وحّد الشعب الفلسطيني في كل الداخل وفي الخارج، وراء “انتفاضة فلسطين” وحرب سيف القدس.
وقد أدت نتائج هذه المواجهة إلى انتصار سيف القدس وفرض التنازلات على العدو الصهيوني، في مواجهات الشيخ جراح، وباب العامود، والمسجد الأقصى، كما في تثبيت معادلة قواعد الاشتباك الجديدة.
هذا الانتصار أدخل الوضع الفلسطيني في مرحلة جديدة؛ من حيث ميزان القوى والنتائج السياسية والواقعية التي نجمت عنه.
فمن الناحية العسكرية، كشفت حرب سيف القدس أن العدو لم يعد قادراً على الاكتساح البري، أو حسم الحرب في مصلحته، بالرغم من تفوّقه الهائل بقوة النيران لسلاح الجو والقصف، ولكن ثبت في الآن نفسه أنه غير قادر على صدّ صواريخ قطاع غزة، والتي لم يظهر في المعركة غير بعضها.
وأظهرت هذه المواجهات ارتباك الدول الغربية المؤيدة للكيان، وعلى رأسها أمريكا، كما عبّر الرأي العام العالمي، ولا سيما الغربي، من خلال خروج الملايين المنددة بعنصرية الكيان الصهيوني وعدوانيته، فضلاً عن التعاطف مع المقاومة الفلسطينية، وعدالة القضية الفلسطينية. ولهذا أبعاد مهمة حتى على موازين القوى العسكرية.
أما على المستويين العربي والإسلامي، فقد عُزلت الدول المهرولة للتطبيع، وأُسقط في يدها، فيما برزت إرهاصات شعبية جماهيرية، عززت موقف المقاومة، وأجبرت عدة دول على إعلان شجبها للموقف الصهيوني وتأكيد وقوفها إلى جانب الحق الفلسطيني.
على أن أخطر ما نجم عن هذه الانتفاضة الشعبية، وحرب سيف القدس، الحرج الذي وقعت فيه سلطة رام الله وقيادة “م.ت.ف”، إلى جانب انهيار خطها السياسي، وفشل جرها للساحة الفلسطينية إلى الانتخابات التضليلية، والمصالحة الوهمية أو إعادة بناء “م.ت.ف” غير الممكنة، والتهرب من مواجهة ما يجري من استيطان واحتلال واعتداءات على المسجد الأقصى، واغتيالات واعتقالات.
ثم جاءت غلطتها الفظيعة باغتيال الشاب المناضل نزار بنات، وبوحشية بالغة، مما فتح عليها غضباً شبابياً وشعبياً إضافياً، فزادها عزلة وارتباكاً، فإذا بها تتحوّل إلى الاعتقالات والقمع والعداء للشعب، وتزداد انغماساً في التنسيق الأمني، الأمر الذي سدّ الأبواب في وجهها لتستعيد زمام المبادرة، أو لتلعب أي دور سياسي داخلي أو خارجي يسوّغ وجودها.
لا تأتي أزمة قيادة محمود عباس نتيجة اتخاذ الأحداث مجرى غير ما كانت تسعى إليه فحسب، وإنما أيضاً انسداد الأبواب أمام أي مشروع تسوية تتقدم به أمريكا. فإدارة جو بايدن بالرغم من إشارتها بأنها مع “حل الدولتين” (التصفوي بالتأكيد)، إلاّ أن قرارها هو الابتعاد عن طرح أي مشروع تسوية. فمن جهة ليس ثمة استعداد لدى حكومة الكيان الصهيوني للعودة لبحث موضوع للتسوية، يتضمن من قريب أو بعيد الاقتراب من البحث في حل الدولتين. فليس في جعبتهم غير الإمعان في تهويد القدس وتغيير “الواقع القائم” في المسجد الأقصى، واستيطان الضفة الغربية. أما ما في جعبتهم لتقديمه لمحمود عباس، فهو تأمين الأموال التي تحتاجها السلطة، بعيداً من جيوبهم، مقابل مهمة القيام بالتنسيق الأمني ضد أية مقاومة أو انتفاضة ولضمان استمرار الاحتلال والاستيطان، أي جعل السلطة الحالية هدفاً قائماً بذاته ولذاته، وحتى أسوأ مما كان عليه حال قوات أنطوان لحد.
فعلى محمود عباس في هذه المرحلة الجديدة أن يحافظ على البقاء بين المطرقة والسندان، فمن جهة أمامه نموذج حالته في أثناء المواجهات الانتفاضية وسيف القدس، وأمامه وظيفته الراهنة بالإمعان في التنسيق الأمني، وفي كبت الشعب الفلسطيني، لا سيما الذين يتحركون غضباً ضد الجريمة النكراء الحمقاء الوحشية التي اغتيل فيها الشهيد نزار بنات من جهة، وأخيراً أمامه جمود أي تحرك سياسي يوصل أوكسجيناً لرئتيه.
حقاً إنها نهاية طريق فاجعة، والمشكلة الأخرى أن فتح “أسيرة الأطواق”.
وبكلمة، لا بدّ مواصلة طريق المواجهات الانتفاضية وسيف القدس، وذلك مع تذكر خمس حقائق تذكراً دائماً، وهي:
1- المصالحة الفلسطينية غير ممكنة في ظل قيادة محمود عباس وخطه السياسي وممارسته ووضعه. وهي غير ممكنة حتى لو خضعت – لا سمح الله – لشروطه وشروط بعض الوسطاء أو الدول العربية والغربية؛ لأن الصراع (الصدام أو الانقسام) حتمي عندئذ، فمجمود عباس سيتمسك بالقيادة أكثر.
2- العودة لمشروع الانتخابات سيزيد من الانقسام، وهذه تجربة انتخابات 2006، أما من يريدها لقيام قيادات جديدة فواهم؛ لأن القيادة في حركات التحرير الوطني، أو المقاومة أو الانتفاضات أو الحرب (حرب سيف القدس مثلاً)، تخرج من الميدان وليس من “صناديق الاقتراع”.
3- إعادة بناء “م.ت.ف” غير ممكنة، وبحثها سيؤدي إلى مزيد من الانقسام (من يقود).
هذا ولم يُثبت تاريخ المنظمة بأنها ضمانة للحفاظ على المبادئ والحقوق (على ميثاقها)، بل أثبتت بأنها قابلة لتوقيع اتفاقيات كارثية. كما لم تثبت أنها تحقق الوحدة الوطنية، والأسوأ شعار “الممثل الشرعي والوحيد” الذي شكل كارثة على المستوى الفلسطيني؛ لأن التمثيل يجب أن يكون مشروطاً بتحرير كل فلسطين، وإلاّ فعدم التمثيل أفضل. ثم لأن عبارة “والوحيدة” أعفت الدول العربية من مسؤوليتها المباشرة في القضية الفلسطينية، ودمرت المبدأ: إن قضية فلسطين قضية فلسطينية وعربية وإسلامية وإنسانية، فكيف تنفرد المنظمة بتمثيلها.
4- الحرص على المصالحة وإعادة بناء المنظمة واجها شرط الاعتراف بما يسمى “بقرارات الشرعية الدولية” (قرارات هيئة الأمم المتحدة). وكان الاعتراف بها جراً للقدم الفلسطينية إلى طريق التنازلات، فيما العدو لم يعترف بأي من تلك القرارات؛ لأنه يريد كل فلسطين، وفيما الدول الكبرى اعتبرت أن الحل يتم بالمفاوضات المباشرة بلا مرجعية لتلك القرارات التي وقعت عليها، وفيما كل من اعترف بها من الفلسطينيين والعرب والمسلمين قدم تنازلات مجانية، وعاد بخفي حُنين وسوء سمعة.
وأثبتت التجربة أن الاعتراف بتلك القرارات لا يحمي رأس أحد (الشهيد ياسر عرفات مثلاً)، ولم يمنع الاتهام بالارهاب.
5- أثبتت تجربة المواجهات الانتفاضية الأخيرة وحرب سيف القدس؛ بأنها طريق لوحدة الشعب الفلسطيني، وأثبتت أن مواقف الفصائل والنخب تتحد في ميدان المواجهة، وتحت سقف الانتفاضة والمقاومة والحرب (حرب سيف القدس).
وإن تشكيل جبهة متحدة لمواجهة تحديات الوضع الراهن لا يسمح بإثارة صراعات الماضي وإعادة إنتاج هياكلها وسلبياتها، وإنما الاتفاق لمواجهة خطر داهم، أو تحقيق إنجاز ممكن.