الوقوع المجاني في فخ صفقة القرن – منير شفيق
يتحدث الكثيرون عن صفقة القرن، وعن ماهيتها، وبنودها، رغم عدم الإعلان رسميّاً عنها. ما يوجد هو مجرد سياسات وإجراءات للولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يمثل وقوعاً في فخ الصفقة، وانصياعاً للحرب النفسية التي تُشَنُّ على القضية الفلسطينية.
لو تابعت المتحدثين عن”صفقة القرن” ممن يقولون بأن هناك صفقة قرن، وأنها قيد التنفيذ، لوجدتهم يعتبرون أن سياسات الإدارة الأميركية الحاليَّة، ما أُعلِن منها، وما سيُعلَن، هي في حد ذاتها صفقة القرن.
ولكن هل هنالك حقّاً صفقة تم إبرامها بين أطراف دولية، أو إقليمية، أو عربية، أو فلسطينية لحل القضية الفلسطينية، أم هل ثمة مفاوضات جارية فيما بين أولئك الأطراف، أو بعضهم، أو حتى بين طرفين منهم حول صفقة القرن؟ الجواب هو أنك لن تجد هذه الصفقة، أو حتى أي مفاوضات عليها. ومع ذلك تجد الكثيرين يستطردون في الحديث عنها في محاضرات تدوم لساعات، أو ندوات تستمر لعدة أيام تحت عنوان صفقة القرن، وكأنها تمت، أو أنها على قيد التفاوض، وقد وصلت لنهاياتها. ولكن في الحقيقية لا يعد ذلك إلا تناولاً لسياسات الولايات المتحدة، وما تتخذه من خطوات، وذلك لتأكيد أن هناك صفقة قد أُنجزت، أو قيد الإنجاز، أو أنها ستنجز في نهاية الأمر.
منذ أن قامت قضية فلسطين هنالك سياسات للولايات المتحدة، وثمة إجراءات ومواقف أميركية على الدوام. ولكن ما من أحد أطلق عليها اسم “صفقة القرن”. لم يحدث هذا قَط، إلا مع إدارة دونالد ترمب، وبعد أن أدلى بتصريحاته بالوصول إلى إبرام “صفقة نهائية” (Final deal). وقد ترجم المصريون مصطلح “الصفقة النهائية” إلى صفقة القرن. وإذا بالترجمة هذه تُعمم وتتحول إلى”صفقة قرن” مُنجَزة، أو قيد الإنجاز، أو سوف تُنجز.
كان دونالد ترمب قد أوحى مع تلك الإشارة حول الصفقة النهائية، أنه سيعلن لاحقاً عن ماهيتها، وكلَّف صهره المحبوب جيرار كوشنر ومعه جيسون غرينبلات بالملف الفلسطيني، والعمل على إنجازها. ولكن المتحدثين عن “صفقة القرن” التقطوا التسمية أو الترجمة المصرية، وراحوا يتقوَّلون ماهيتها قبل أن تُعلن. وبالرغم من تأجيل إعلانها مرات ومرات، فقد استمر اعتبار السياسة الأميركية وأية إجراءات أميركية، هي الصفقة في حد ذاتها، وأن ما ينتظر حل القضية الفلسطينية هو ما تصرِّح به أميركا كما هو، وما تأخذه من خطوات عملية هو “صفقة القرن”. أي الحل النهائي للقضية الفلسطينية. ومن ثم فنحن في رأيهم نعيش في زمن “صفقة القرن”. ونشهد على إنجازها دون أن يكون إلى جانب أميركا طرف ثانٍ، كحكومة نتنياهو على سبيل المثال والتي لم تعلن هي أيضا٬ً عن موافقتها بخصوص صفقة القرن المفترضة.
أما عدم الإعلان عن الصفقة رسميّاً، أكانت موجودة أم لا، أم أنها ستوجد؟ أو الإعلان عن أي طرف سواء من دول العالم، أو الدول الإسلامية والعربية، أو حتى الأطراف الفلسطينية، مَن أعلن تأييده لها أو لسياسات الرئيس ترمب فيما يتعلق بالقدس ونقل السفارة أو موقفه من وكالة الغوث، فكل ذلك غير مهم في رأيهم. بل حتى لو كان ثمة إجماع من دول مجلس الأمن، عدا أميركا، أو إجماع إسلامي وعربي وفلسطيني يعارض ترمب في موضوع القدس، فهذا أيضاً ليس مهمّاً. بل وأن تكون سياسات ترمب وإجراءاته في حالة عزلة دولية وإسلامية وعربية وفلسطينية، فليس مهمّاً أيضاً.
المهم وحسب المثل الشعبي “عنزة ولو طارت” فثمة “صفقة قرن” حسب رأيهم، وهي ماضية في طريقها كاسحة ماسحة، واضحة المعالم، وهي مستقبل القضية الفلسطينية، قبل أن تُعلن، وقبل أن يُوافَق عليها. وهذا مما لا شك فيه لا يمت للسياسة بأية علاقة.
وثمة صنف آخر من الذين يتحدثون عن صفقة القرن يصلون باستنتاجاتهم إلى حد أن الصفقة قد أُنجزت، أو أنها ستُنجز حتماً، إلا أنهم يستدركون بعد شرح طويل، بأن ثمة معارضة لها، والأغلب أنها لن تنجح. وأكثر الذين عارضوها وتوقعوا فشلها يعترفون بوجودها، باعتبار كل ما تقوله وتفعله أميركا هو صفقة القرن في التطبيق العملي، ومن ثم فالقضية الفلسطينية تحت التصفية ونحن نعيش زمانها. والدليل إعلان دونالد ترمب أن القدس عاصمة “دولة إسرائيل” ونقل السفارة إليها، وضم القنصلية الأميركية في القدس لها، ووقف المساعدة المالية لوكالة الغوث.أي يلتقي المعارضون للصفقة هنا مع المروجين لها.
والأنكى من ذلك أن البعض قد ذهب عمليّاً وموضوعيّاً إلى اعتبار الوضع في قطاع غزة، وما يمكن أن يُعلن من تهدئة (وقف إطلاق النار بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية، وقف إرسال بالونات وطائرات اللهب، مع استمرار مسيرات العودة الكبرى، ومع استمرار حفر الأنفاق، والتسلُّح)، جزءاً من صفقة القرن. ويستنتج أن بقاء المقاومة العسكرية في غزة واستمرار انتفاضة مسيرة العودة هو جزء من مؤامرة “صفقة القرن” وتصفية القضية الفلسطينية. ولكي تبلغ المهزلة حدَّها الأعلى فقد اعتبروا استمرار التنسيق الأمني واستمرار الاستيطان والاحتلال في القدس والضفة الغربية هو الترجمة الحقيقية لمعارضة صفقة القرن مقابل “استسلام غزة لها”!
فيا لصفقة القرن التي هي في عالم الغيب، ويا للإدارة الأميركية كم هي محظوظة بهذه الغيبوبة في قراءة الوضع الراهن، واختلال موازين القوة فيه. ولكن لا بد من الاعتراف في النهاية بأن البعد المتعلق بالحرب النفسية في هذه المعركة قد مال لصالح الرئيس ترمب من خلال هذا النهج في معالجة “صفقة القرن”، إنه في اختصار الوقوع المجاني في فخ صفقة القرن.