الولاية الثالثة … ترنيمة وداع حزينة لثورة يناير – زهير كمال
89.6% هي النسبة التي حصل عليها المرشح عبد الفتاح السيسي في انتخابات رئاسة الجمهورية في مصر.
الانتخابات تعني محاسبة الشعب لمن يتولى السلطة على ما قدمه خلال فترة حكمه، إما أن يعاد انتخابه أو أن يتم استبداله بغيره. هذه بدهيات أساسية في الديمقراطية والانتخابات النزيهة. من الطبيعي أن الناخب وبغض النظر عن مستوى وعيه، يفكر أولاً في وضعه الاقتصادي، هل تحسن خلال الفترة السابقة أم ساء، ثم بعد ذلك يفكر بالمشاغل الأخرى مثل السياسة والمجتمع.
تولى المرشح السيسي رئاسة الجمهورية لفترتين متتاليتين بلغتا 10 اعوام، فهل تحسن الوضع الاقتصادي ل 39702401 ناخب ( للتقريب 40 مليونا) ليعطوا المرشح السيسي أصواتهم؟
عندما تولى السيسي الرئاسة كان سعر الدولار الامريكي مقابل الجنيه 7.15 ، اصبح الآن 30.8 حسب أسعار البنك المركزي و 54.1 جنيهاً في السوق الموازية، وهذا المؤشر كاف لنعرف كم تدهورت القدرة الشرائية للناخب المصري خلال هذه الفترة ، فهل يمكن لهذا الناخب أن يعطي صوته للمسبب في هذا التدهور؟
الجواب: ممكن اذا كان تفكير المواطن المصري ( أن الشيطان اللي تعرفه أحسن من الشيطان اللي ما تعرفوش).
خلال فترة رئاسة السيسي برزت مشكلة مصيرية تهدد مصر ومستقبلها وهي بناء أثيوبيا لسد النهضة ورفضها الاعتراف بحصة مصر المقررة في الاتفاقيات السابقة.
كان حل الرئيس السيسي مبتكراً: عندما حضر رئيس وزراء أثيوبيا آبي أحمد الى القاهرة جعله يردد وراءه : والله العظيم لن أمسّ حصة مصر من مياه النيل.
لم نسمع عن حلول أخرى غير هذا الحل.
هل يمكن للناخب المصري أن يعطي صوته لصاحب هذا الحل العبقري الذي يشبه حل النعامة التي تضع رأسها في الرمال أذا صادفت خطراً ما.
الجواب: ممكن إذا كان المواطن المصري لا يعي خطورة جفاف نهر النيل ولا يقدر أن مصر هبة النيل.
قبل الانتخابات المصرية نشبت الحرب الإسرائيلية على غزة، قام الجيش الإسرائيلي بتدمير غزة وقتل وجرح مائة ألف فلسطيني ومنع عنهم الوقود والغذاء والدواء، كانت المطالبات ملحة بفتح معبر رفح أمام المساعدات العربية والدولية التي تدفقت لإعانة أهل غزة. جعل السيسي مصر رهينة لإسرائيل تتحكم في ما يدخل كمية ونوعاً . تبرأت إسرائيل في مرافعتها أمام محكمة العدل الدولية من الموضوع ولامت مصر بالكامل على منع دخول المساعدات.
هل يمكن للناخب المصري وهو يرى أشقاءه الفلسطينيين يعانون الأمرين في حرب مدمرة وهو يعرف أن الرئيس يتآمر على فلسطين وقضيتها مع العدو؟
الجواب: غير ممكن، ففي بيت كل مصري شهيد قتلته إسرائيل وليس من السهولة أن ينسى المصريون أعداءهم. إذاً كيف حصل المرشح السيسي على أربعين مليون صوت.
الجواب نجده عند لجنة الانتخابات ورئيسها الذي قال أن عدد الذين يحق لهم التصويت 66 مليون ناخب وأن عدد من أدلوا بأصواتهم قرابة 44 مليون بنسبة مشاركة تقدر ب 66.8%.
نسبة يحسد مصر عليها كل الشعوب الكسولة التي لا تتجاوز نسبة مشاركتها 30- 40%، وعلينا أن لا نغفل تفصيل من رشح نفسه ضد السيسي ومن منع من الترشيح ، رغم معرفتنا المسبقة أن النتيجة محسومة سلفاً.
كانت هذه المقدمة الطويلة ضرورية للدخول في السبب الأساسي لمعرفة ما يجري في مصر منذ خمسة آلاف عام حتى يومنا هذا، ويمكننا أن نقدم قاعدة عامة للعلاقة بين شعب مصر وحاكمها، وسنطلق عليها هنا لقب الفرعون، وهذه القاعدة تقول : إن مصر لا تثور على فرعونها وتصبر عليه الى أن يموت.( كانوا يودعونه الى مثواه الأخير بكل الإجلال والعظمة) وقد يكون هذا الصبر بالإكراه وباستعمال القوة ضد الشعب، ولكن النتيجة واحدة.
يرجع هذا الى طبيعة مصر التي شرحها جمال حمدان ووصفها ب شخصية مصر حيث تلعب خصوصية الجغرافيا دوراً في صياغة الشخصية، فمصر تمتد طولياً مع النيل وبعرض لا يتجاوز 15 كيلومتراً ، الأمر الذي يجعل الشعب المصري عائلة واحدة لها نفس التفكير والمزاج والانفعالات وغير ذلك مما يميز أعضاء الأسرة الواحدة.
منذ تولى السلطة الفرعون مينا مؤسس الأسرة الأولى في العام 3200 قبل الميلاد وحتى الأسرة 31 في الأعوام الأولى بعد الميلاد تولى السلطة في مصر 369 فرعوناً ومن الطريف ذكر أن 90 فرعوناً كانوا من الأجانب ابتداءً من الأسرة 15 المعروفين باسم الهكسوس وانتهاءً بالفرس واليونان والرومان الذين توزعوا على عدد من الأسر، هذا العدد يمثل ربع الفراعنة الذين حكموا مصر، ولباحث مختص يمكن معرفة عدد السنوات التي حكم فيها الأجانب مصر خلال هذه الفترة الطويلة.
كان انتهاء حكم الفراعنة الأجانب في مصر نتيجة لضعف الأبناء ولم يكن نتيجة للثورات المحلية، على سبيل المثال استمر حكم الهكسوس ما بين 100 – 200 عام، أصيبوا بالضعف بعد هذه الفترة وجاء فرعون آخر وتولى السلطة.
ولكن المحصلة أن شعب مصر يصبر على من يتولى السلطة حتى يموت، وأي تغيير تم في المنصب الأول كان بفعل صراعات في البلاط الملكي، على سبيل المثال تولى المماليك أو العبيد حكم مصر وتمت إزاحتهم بمذبحة القلعة التي قتل فيها محمد علي باشا 300 مملوك دفعة واحدة ثم أسس أسرة له حكمت حتى ثورة 1952.
أخترع المصريون ورق البردى والحبر وأداة الكتابة ضمن ما برعوا فيه من نقش ورسم ومعمار يمكن أن نطلق على هذه المهارات المختلفة أنها إتقان فن الصنعة، الأمر الوحيد الذي لم يبرعوا فيه هو الفلسفة والأدب الذي يحتاج طبيعة مجتمع مختلفة، ويمكننا ذكر مساهماتهم الفكرية والفلسفية خلال مدة 5000 عام بعدد بسيط لا يتعدى سطراً أو سطرين، بين ذلك كتاب الموتى الذي كتبه الكهنة للاسترزاق وترانيم الفرعون أخناتون في مدح آتون وإسهامات الكاتب المصري في عهد البطالمة الذي سجل تاريخ الأسر المصرية المختلفة، ولا نستطيع إضافة أقليدس وهيبسيكلس وكلاهما من الإسكندرية فهما محسوبان على الحضارة الإغريقية.
ربما يعترض البعض بالقول إن مكتبة الإسكندرية صرح شامخ فيها ما لا يقل عن 50 ألف مخطوطة وكتاب، ولكن كان معظم محتوياتها مكتوباً باليونانية ومأخوذاً من حضارة الإغريق إضافة لبعض المخطوطات والكتب من حضارات بلاد الرافدين. في العام 1952 قام الجيش المصري بانقلاب على ملك البلاد ذي الأصل الألباني، وأحد أسباب الانقلاب مسؤولية الملك عن صفقة أسلحة فاسدة للجيش تسببت بخسارته لحرب فلسطين عام 1948 فقد حصل الملك على كمية كبيرة من المال ليشبع إدمانه على لعب القمار.
قال الضابط جمال عبد الناصر: ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد، وحدثت طفرة في الفكر والفلسفة والفن والأدب والموسيقى غير معهودة في التاريخ المصري، توجت هذه الطفرة بحصول الكاتب نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب عن كتاب كان ممنوعاً للنشر في مصر.
استمرت هذه الطفرة قرابة عشرين عاماً عندما وضع (كبير العيلة) أنور السادات عدداً كبيراً من الأدباء والفنانين والصحافيين في السجون، وعبارة (كبير العيلة) التي أطلقها السادات هي أصدق تعبير عن نظرة الشعب المصري إلى الفرعون، شطب السادات كل منجزات عبدالناصر وحول اتجاه البلاد 180 درجة وكسر الحاجز النفسي بين العرب والعدو الإسرائيلي وتم اغتياله بعد أداء مهمته، ولأول مرة يقتل العسكر فرعونهم.
بعد ثلاثين عاماً من الحكم، أراد الفرعون الجديد حسني مبارك أن يبدأ أسرة جديدة تحكم مصر فقامت ثورة يناير المجيدة التي أجبرته على التنحي ووضعته في قفص الاتهام ولأول مرة يحاكم الشعب المصري فرعوناً، لم تكن المحاكمة عن فترة حكمه بل عن اتهامات بسيطة، استهجنت البيروقراطية المصرية المتأصلة عبر التاريخ محاكمة لفرعون، فخرج سليماً معافى.
بدأ الفرعون الجديد حكمه بمذبحة كبرى ليظهر لشعبه من هو السيد هنا وكال لثورة يناير كل التهم والموبقات التي حلت بمصر، ولم نكن نعرف أن مطالبة الجماهير ب ( عيش، حرية ، عدالة اجتماعية) كانت تمثل خطيئة كبرى! أما بالنسبة للفرعون فنعم.
ثورة يناير هي علامة فاصلة في التاريخ المصري، فلأول مرة في التاريخ يقوم الشعب المصري بالثورة على فرعون. نعم انتهت ثورة يناير بعدم اكتفاء الفرعون بدورتين انتخابيتين ولكنها ثبتت عدم جواز التوريث، وثبتت في وعي الشعب المصري أنه قادر على تغيير رئيسه، ولن تكون هذه الثورة يتيمة في مستقبل مصر.
النصر دائماً للشعوب والفجر قادم.