الأرشيفوقفة عز

الى صديقي البولندي الراحل لوسيان كرسمالسكي.

عندما أكتب عن لوسيان، لا بد لي من العودة ثلاثين عاماً وأكثر إلى الوراء، إلى زمن شبابي وحياتي الجديدة في بلاد جديدة. إلى فترة جميلة من عمري، تعرفت فيها على تقاليد وعادات وحياة الشعب البولندي عن قرب، من داخل بيوته. فقد تعرفت على لوسيان في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، في مدينة زغوجيلتس البولندية. كان شخصاً مرحاً، مضيافاً، محباً للآخرين، مرحباً وصاحب نكتة ودعابة ومزاج رايق. كما كان يحب طهي الطعام ويجيد صناعة الحلويات البولندية اللذيذة.
كان لوسيان، حتى وفاته، أباً محبوباً من قبل نجليه كريستيان وماتشيك، ورفيق عمر وحياة، وقلب وحب للسيدة إليزابث التي لطالما رحبت بي في بيتها، أنا وعائلتي – عائلتها.
عندما تعرفنا في ذلك الزمن، كانت بولندا لا تزال تحت الحكم الاشتراكي في زمن حلف وارسو والاتحاد السوفيتي. كانت حياة الناس آنذاك بسيطة وبلا تعقيدات كثيرة. كان طموح أي بولندي هو السفر إلى خارج بلاده، للحصول على فرصة عمل تساهم في تحسين وضعه الاقتصادي. لكن السفر في زمن الاشتراكية كان ممنوعاً إلا بإذن من الدولة، وحتى الحصول على جواز سفر كان يتطلب موافقة من مؤسسات الدولة. لذلك، كنت كلما سافرت إلى برلين الغربية، مروراً بشرق ألمانيا وشرق العاصمة المقسمة، أتوقف عند لوسيان في بيته الذي كان يقع بالقرب من الحدود البولندية الألمانية في زغوجيلتس وغارلتس.
عندما تغير النظام في بولندا، وسقط الحزب الحاكم وسقط السوفيات ومعسكرهم بالضربة القاضية، تدفق البولنديون والألمان الشرقيون إلى برلين الغربية. وبعد ذلك بوقت قصير، سافر لوسيان إلى ألمانيا ومن ثم إلى فرنسا للبحث عن فرص عمل. لكن سفراته لم تدم طويلاً، فعاد إلى مدينته وبلاده حيث كان يعمل في وظيفة جيدة هو وزوجته. شيد لوسيان منزلاً في مدينته، واقتنى سيارة جديدة، وصار لفترة من الزمن من مدمني الشيشة العربية، ثم أقلع عنها لاحقاً. وزار العديد من البلدان العربية، منها مصر.
استضفناه في منزلنا بالنرويج هو وعائلته كثيراً، كما كان يفعل هو دائماً، ويستضيفنا في منزله في كل سفراتتنا إلى بولندا. هناك كنا نلتقي، ونتحدث، ونتحاور، أحياناً نصرخ ونختلف، وتعلو أصواتنا خاصة في الموضوعات السياسية التي تخص بولندا. كان هو من قيادات نقابة التضامن البولندية في مكان عمله وفي مدينته، بينما كنت أنا ولا أزال يسارياً، يساري الهوى، رغم أن يسار بولندا لم يكن يستهوني كثيراً. لم أكن من المعجبين به لا في ذلك الوقت ولا في هذه الأيام. ولكن يساريتي تختلف عن يسارية ما يسمى يسار بولندا، إلا مع فئة قليلة منهم عشت معها في ذلك الوقت، وأعيش هذه الأيام مع بعضها حيث تربطني بهم صداقات رائعة.
لقد كان لوسيان صديقاً عزيزاً، وآلمني كثيراً خبر وفاته المفاجئ. لكنها الحياة التي تجعلنا في لحظة نمضي إلى عالم آخر، تاركين خلفنا تجربتنا وذكرياتنا وحكاياتنا والناس الذين أحببناهم وأحبونا.
يا صاحبي، ماذا أقول لأحبابك الذين يشتاقون إليك؟
أقول لهم: تذكروا أجمل اللحظات التي قضيناها معاً، ولا تنسوه ليبقى حاضراً معكم ومعنا.
سلام يا صاحبي.
02-12-2024
نضال حمد