انتبهوا، فكلما خَفَتَ صوت النقد اشتد سوط الفساد وعلا صوت الدَّجل!!! – د. أيوب عثمان
انتبهوا، فكلما خَفَتَ صوت النقد اشتد سوط الفساد وعلا صوت الدَّجل!!! – د. أيوب عثمان
“… ولولا النقاد لهلك الناس، وطغى الباطل على الحق، ولامتطى الأرذال ظهر الأفاضل، وبقدر ما يخفت صوت الناقد يرتفع صوت الدجّال”؟ ما أصدقه من قول صدح به الشاعر بيرم التونسي، وما أروعنا- بل وأعدلنا- من بشر إن فهمنا أو حاولنا أن نفهم قول بيرم التونسي في معرض حديثه عن الفن والمرأة. فالدفاع عن النقد إنما هو دفاع عن الفكر والرأي وعن حرية التعبير عنهما، ذلك أن هذه الحرية ذات مكانة عميقة في حياة الآدمي، وهي من أهم عوامل الخلق والإبداع والتطور والتنمية لديه،
ولأن الآدمي هو كائن فكري، فإن الفكر يحتوي كل أفعاله وأقواله وأنشطته الذهنية وحتى الجسدية التي لا يأتي إليها ولا يتجه نحوها إلا استناداً على فكرة قائمة عنده ومتوفرة لديه. ولأن حركة الفكر الآدمي هي الأهم في حياتنا لما يتأتى منها من آراء وأفكار وأنشطة عقلية وبدنية تترجمها صور متعددة ومتنوعة من الإبداع الآدمي الذي يعبر عن نفسه في إنجاز علمي أو أدبي أو فني أو اجتماعي في جو تسوده الحرية ذات الأوجه والتفاصيل والمفردات والبدائل المتعددة، الأمر الذي يعين الفكر الآدمي فيدفعه إلى مزيد من الاختراق والاجتياز والإبحار في شتى تفاصيل الحياة والكون، دونما حدود تحده أو تحدده أو قيود تكبّله وتقيده. غير أن حركة الفكر الآدمي حينما تتعرض للاستعباد أو الاستبداد، فإنها تقع تحت وطأة حدود وقيود ليس لها في القانون أو المنطق شيء. ليس النتاج ساعتئذٍ إلّا التراجع والانكفاء. وعليه، فلا إبداع ولا نماء ولا تطور ولا عطاء ولا إصلاح ولا تجديد ولا بناء، فيعمّ القهر ويتوقف المستنير عن الفكر ليسود ما تخلف منه ويتنشر الجهل.
ما سبق يشير إلى- بل يؤكد على- أن الأهمية العليا للنقد ومكانته في سياق الحرية التي في القلب منها ومركزها حرية الكلمة والتعبير عن الرأي التي هي أمّ الحريات، والتي بدونها لا توجد حرية. فحرية التعبير عن الفكر والرأي هي حرية لا علاقة لها- البتة- بمدى الصوابية فيها أو بمدى قبولها من المجتمع أو رفضها، شريطة ألا تكون حمالة لإساءات حددها القانون ووصفها وأنذر بعقوبات على مرتكبيها. وتأييداً لإطلاق حرية التعبير عن الرأي والفكر وعدم ربطها بمستوى سلامة التعبير أو تعليقها على مدى الصحة فيه، فقد صدر عن المحكمة الدستورية المصرية العليا في حيثيات حكم لها في شأن حرية التعبير عن الرأي، على نحو عام، قولها: “… حق الفرد في التعبير عن الآراء التي يريد إعلانها ليس معلقاً على صحتها، ولا مرتبطاً بتمشيها مع الاتجاه العام في بيئة بذاتها، ولا بالفائدة العلمية التي يمكن أن تنتجها، وإنما أراد الدستور بضمان حرية التعبير أن تهيمن مفاهيمها على مظاهر الحياة في أعماق منابتها بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها على العقل العام، فلا تكون معاييرها مرجعاً لتقييم الآراء التي تتصل بتكوينه ولا عائقاً دون تدفقها. وحيث إن من المقرر كذلك أن حرية التعبير، وتفاعل الآراء التي تتولّد عنها، لا يجوز تقييدها بأغلال تعوق ممارستها، سواءً من ناحية فرض قيود مسبقة على نشرها أو من ناحية العقوبة اللاحقة التي تتوخّى قمعها، بل يتعين أن ينقل المواطنون من خلالها- وعلانية- تلك الأفكار التي تجول في عقولهم، فلا يتهامسون بها نجياً، بل يطرحونها عزماً ولو عارضتها السلطة العامة- إحداثاً من جانبهم وبالوسائل السلمية- لتغيير قد يكون مطلوباً. فالحقائق لا يجوز إخفاؤها، ومن غير المتصور أن يكون النفاذ إليها ممكناً في غيبة حرية التعبير” (القضية 6/15 جلسة 1/4/1995).
وكان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10/12/1948 قد اهتم بدعم الحريات العامة وإشاعتها، لا سيما قيم الحرية وحرية التعبير عن الرأي والفكر بشتى الوسائل والصور، فجاء في المادة (19) منه أن “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية”.
وحرية الرأي وحق الفرد في التعبير عنه ليسا في حاجة إلى ترخيص من سلطة أو موافقة من مرجع أو جهة على نحو مسبق، حتى ولو كان الفرد صاحب رأي لا يشاركه ولا يؤيده فيه أحد. لننتظر جيداً أو نفكر كم يستحق فولتير الاحترام منا إذ يقول مخاطباً من يختلف معه في الرأي: “إني أستنكر ما تقوله، ولكنني أدافع حتى الموت عن حقك في قوله”.
وللتمييز بين ما يسمى نقداً وما يسمى قذفاً أو سباً أو تشهيراً، فقد عرف المشرع المصري في المادة )302 عقوبات) بأنه “يعد قاذفاً من أسند لغيره أموراً لو كانت صادقة لأوجبت عقاب من أسندت إليه (المقذوف) بالعقوبات المقررة أو لأوجبت احتقاره عند أهل وطنه”. وطبقاً للشراح، فإنه يلزم- لثبوت جريمة القذف- ركنان أحدهما مادي والآخر معنوي. أما المادي فيقوم على ثلاثة عناصر: أولها النشاط الإجرامي الذي هو فعل الإسناد، وثانيها موضوع هذا النشاط الذي هو الواقعة المحددة التي من شأنها أن توصف بأنها جريمة توجب- لو صحت- إنزال العقاب بمرتكبها، أو توجب احتقاره عند بني وطنه، وإن لم تشكل جريمة، وثالثها الصفة العلنية للواقعة.
أما الركن المعنوي فهو القصد الجنائي بالمعنى البديل، وهو الركن الذي تكمن فيه- بصورتيه العمد والخطأ وليس على مجرد الفعل المادي للجريمة- خطورة الجريمة على المجتمع، باعتبار أن ذلك هو المعيار الجوهري الذي يتم من خلاله تحديد مدى العقوبة التي يستحقها القاذف.
ولأن القذف فعل لا يتم ارتكابه إلا “عمداً وقصداً”، بمعنى أن القاذف لا يأتي إلى ارتكابه بطريق الخطأ ودون إرادة، قاصداً إيذاء المقذوف وتحقيق الإضرار له، فإنه ينبغي تمييز النقد عن القذف، فبينما يستهدف النقد الحرص على الصالح العام والدعوة إلى الانحياز له والغيرة عليه، وإن استخدم الناقد قارص الكلم في تعبيراته ومفرداته، مهاجماً الفساد، وداعياً إلى محاربته، بغية إصلاح مؤسستة أو مجتمعه، فإن القذف يستهدف النيل من المقذوف والتشهير به، دونما أدنى شعور منه بالغيرة على الصالح العام، ودون أدنى حرص منه على الإصلاح والتصويب والتطوير تحقيقاً للنفع العام.
ولأن القذف جريمة لا يرتكبها إلا القاذف، وإنما يرتكبها “عمداً وقصداً”، كما أسلفنا، فإنها لا تثبت إلا إذا تحقّق الركن المعنوي فيها فيتوفر عند من ارتكبها القصد الجنائي بعنصريه وهما العلم والإرادة: العلم بأن الواقعة التي تسبب القاذف بها تشكل جريمة قذف، وأن الإرادة لدى القاذف كانت متجهة لارتكاب فعل القذف.
أما القذف المسند إلى المقذوف فهو جريمة تكيّف قانوناً على أحد وجهين: إما أنها توجب عقاب المقذوف أو أنها تستدعي احتقاره، فإذا ثبت أن القاذف ما كان يعتقد أن الواقعة لا تستوجب عقاباً، كما أنها لا تستجلب احتقاراً، فلا عمدية منه إذن، ولا قصدية له، وبذلك تنتفي تهمة القذف عنه، على أن منتهى القول في القذف الذي يكيفه القانون على أنه جريمة، أنه يجب أن تتوفر فيه جميع أركان الجريمة بجميع عناصرها، غير أنه إذا تخلف ركن واحد أو عنصر واحد من أركان الجريمة وعناصرها- طبقاً للدكتور/ محمود نجيب حسني في كتابه “شرح قانون العقوبات”، وطبقاً للمستشار/ حسين عامر والمستشار/ عبد الرحيم عامر في كتابهما “التعسف في استعمال الحقوق وإلغاء العقود”- فإن الجريمة تنتفي لعدم توفر شروطها القانونية”.
والركن المعنوي (أي القصد الجنائي) للقذف هو المعيار الأكثر حسماً للتفريق بين جريمة القذف وحق النقد. أما النقد فليس جريمة، ولأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، فإن ممارسة حق النقد- وفقاً لمبدأ الشرعية- مباح حيث القانون لا حرّمه ولا جرّمه. غير أن الإشكالية تتأتى في أحوال كثيرة من الخلط والتشابه وعدم القدرة على التفريق بين حق النقد وحرية التعبير بصفتها أفعالاً مباحة وجريمة القذف أو السب أو التشهير بصفتها أعمالاً مجرَّمة، لا سيما وإن البعض ينشغلون في البحث عن أركان جريمة القذف وما يلزم ذلك من تحميل عبء الإثبات على المتهم قبل أن ينتبهوا إلى تحديد الفعل ذاته وتكييفه، ليتبيّنوا عما إذا كان الفعل يشكل جريمة قذف من خلال المقارنة بين أركان الجريمة، لا سيما في ركنها المعنوي، وأركان الفعل المباح والمستثنى من المؤاخذة.
حري بالذكر أن المشتكى عليه إذا دفع أمام القاضي- أثناء نظر دعوى القذف- أن ما أتى عليه ما كان إلا ممارسةً لحرية التعبير، بصفتها حقاً دستورياً ينعم به، وأنه لم يقصد- الإساءة إلى شخص المقذوف أو إيذاءه، فإن القاضي لا يجد أمامه سبيلاً إلا أن يفصل في هذا الدفع، ذلك أن عدم وجود نص قانوني يعالج دعوى القذف باعتبار أنها تشمل حق الادعاء وحق الدفاع، وتحديداً مع النصوص الدستورية التي أباحت حرية التعبير وحق النقد لكل ما يتصل بالصالح العام، فقد قضت محكمة النقض المصرية في حكم لها أن “للصحافة الحرية في نقد التصرفات الحكومية وإظهار قرائها على ما يقع من الخطأ في سير المضطلعين بأعباء الأمر وإبداء رأيها في كل ما يلامس الأحوال العامة” (نقض 10 أبريل 1930).
هذا، وتعدّ ممارسة حق النقد- في الفقه القانوني- مسوغاً من مسوغات إباحته مهما كانت صفة من تم توجيه النقد إليه، شريطة الآتي:
-
أن يستهدف النقد أفعال الأشخاص العموميين وتصرفاتهم وإجراءاتهم، لا شرفهم وشخصياتهم. فإذا انصب النقد على فعل أو تصرف أو خطة أو برنامج لشخصية عمومية اعتبارية أو على إجراءات حكومية أو مذهب سياسي أو بحث علمي أو كتاب أو عمل أدبي أو فني، أو على أفكار أو أعمال أو إجراءات من حيث إظهار عيوبها ومساوئها وسلبياتها والتحيّز بالأفضليّة لغيرها، دونما مس بشرف أو بكرامة الأشخاص الذين قاموا عليها أو روّجوا لها أو آمنوا بها، حتى ولو ذكرت أسماؤهم، فلا جريمة قذف في هذه الحالة لعدم توفّر أركانه. وفي الفقه أمثلة على ما أوردنا: فالقول إن الوزير الفلاني أداؤه ضعيف أو أن مستواه لم يكن كما توقعنا منه عند استيزاره، أو أنه المسؤول عن أرواح الضحايا، أو أن وزارته فاسدة يعشش الفساد في أركانها وتجب إقالته ومحاكمته، فلا قذف- البتة- في كل ذلك، طالما أن الغرض من النقد هو كشف تصرفات الوزير للشعب وإطهار سلبياتها ليطلع عليها ويفهمها ويدرك حقيقتها وأهميتها وأبعادها، فلا تعد جرائم ، الأمر الذي تحدده السلطة التقديرية للمحكمة.
-
أن تكون الواقعة صحيحة، أو أن يتوفّر الاعتقاد بصحتها.
-
أن يكون للواقعة التي انصب النقد عليها أهمية جالية لنفع أو دافعة لضرر، ومرتبطة بالصالح العام. فالقول إن المحامي الفلاني يعامل زبائنه بأسلوب غير مؤدب أو أن الطبيب الفلاني لا يفهم علم النفس ولم يتعلم كيف يعامل مرضاه ليساعدهم على الاستشفاء، أو أن الأستاذ الجامعي الفلاني قد سطا على كتاب بكامله من تأليف غيره، أو أن الباحث الفلاني لم يعتمد في بحثه على مصادر موثوقة كما لم يعتمد المنهج العلمي في بحثه، أو أن رئيس وأعضاء مجلس أمناء مؤسسة قد اقتسموا الوظائف، فقام بعضهم بتعيين ابنه وآخر بتعيين قريبه وآخر بتعيين زوج ابنته وآخر بتعيين جاره، فكل ذلك النقد مقيد للمجتمع من حيث الغيرة والحرص على الصالح العام. وفوق ذلك، فإن حق الرد على هذا النقد مباح ومكفول.
-
عدم إساءة استعمال الحق في توجيه النقد، مع مراعاة أن حالات كثيرة يستوجب النقد فيها استخدام عبارات قاسية، فإن ثبت أن الموضوع الذي وجه الانتقاد لشخص مسؤول بسببه هو أمر يستحق النقد، فلا يكون الكاتب الناقد في هذه الحالة قد أساء استعمال حقه في النقد.
-
عدم وجود سوء نية عند ممارسة حق النقد: حسن النية شرط من شروط القواعد العامة للإباحة، ولأن الأصل في كل شيء الإباحة، ولأن الأصل في الإنسان أن يكون حسن النية، فإن على من يتناقض مع هذا الأصل الذي يعدّ قاعدة مستقرة أن يثبت ذلك. فالأصل في حسن النية أن يعتقد الناشر الناقد بصحة الواقعة التي يسندها إلى من وجه نقده إليه، وإن يكون هدفه من نقده هو تحقيق الصالح العام وليس الإساءة لشخص بالقذف أو السب أو التشهير.
أحكام قضائية تساعد على التمييز بين حق النقد وجريمة القذف:
)… )حرص) الدستور على أن يفرض على السلطتين التشريعية والتنفيذية من القيود ما ارتآه كفيلا بصون الحقوق والحريات العامة على اختلافها كي لا تقتحم أحدها المنطقة التي يحميها الحق أو الحرية أو تتداخل معها بما يحول دون ممارستها بطريقة فعالة، ولقد كان تطوير هذه الحقوق والحريات وإنمائها من خلال الجهود المتواصلة الساعية لإرساء مفاهيمها الدولية بين الأمم المتحضرة، مطلبا أساسيا توكيدا لقيمتها الاجتماعية، وتقديرا لدورها في مجال إشباع المصالح الحيوية المرتبطة بها ولردع كل محاولة للعدوان عليها. وفى هذا الإطار تزايد الاهتمام بالشئون العامة في مجالاتها المختلفة، وغدا عرض الآراء المتصلة بأوضاعها، وانتقاد أعمال القائمين عليها مشمولا بالحماية الدستورية تغليبا لحقيقة أن الشؤون العامة، وقواعد تنظيمها وطريقة إدارتها، ووسائل النهوض بها، وثيقة الصلة بالمصالح المباشرة للجماعة، وهى تؤثر بالضرورة في تقدمها، وقد تنتكس بأهدافها القومية متراجعة بطموحاتها إلى الوراء، وتعين بالتالي أن يكون انتقاد العمل العام من خلال الصحافة أو غيرها من وسائل التعبير وأدواته حقا مكفولا لكل مواطن، وأن يتم التمكين لحرية عرض الآراء وتداولها بما يحول – كأصل عام – دون إعاقتها أو فرض قيود مسبقة على نشرها، وهى حرية يقتضيها النظام الديمقراطي، وليس مقصودا بها مجرد أن يعبر الناقد عن ذاته. ولكن غايتها النهائية الوصول إلى الحقيقة من خلال ضمان تدفق المعلومات من مصادرها المتنوعة، وعبر الحدود المختلفة، وعرضها في آفاق مفتوحة تتوافق فيها الآراء في بعض جوانبها أو تتصادم في جوهرها ليظهر ضوء الحقيقة جليا من خلال مقابلتها ببعض، وقوفا على ما يكون منها زائفا أو صائبا، منطويا على مخاطر واضحة أو محققا لمصلحة مبتغاة ومن غير المحتمل أن يكون انتقاد الأوضاع المتصلة بالعمل العام تبصيرا بنواحي التقصير فيه، مؤديا إلى الإضرار بأية مصلحة مشروعة، وليس جائزا بالتالي أن يكون القانون أداة تعوق حرية التعبير عن مظاهر الإخلال بأمانة الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة أو مواطن الخلل في أداء واجباتها، ذلك أن ما يميز الوثيقة الدستورية ويحدد ملامحها الرئيسية هو أن الحكومة خاضعة لمواطنيها، ولا يفرضها إلا الناخبون. وكلما تنكل القائمون بالعمل العام – تخاذلا أو انحرافا – عن حقيقة واجباتهم مهدرين الثقة العامة المودعة فيهم، كان تقويم اعوجاجهم حقا وواجبا مرتبطا ارتباطا عميقا بالمباشرة الفعالة للحقوق التي ترتكز في أساسها على المفهوم الديمقراطي لنظام الحكم، ويندرج تحتها محاسبة الحكومة ومساءلتها وإلزامها مراعاة الحدود والخضوع للضوابط التي فرضها الدستور عليها.
ولا يعدو إجراء الحوار المفتوح حول المسائل العامة، أن يكون ضمانا لتبادل الآراء على اختلافها كي ينقل المواطنون علانية تلك الأفكار التي تجول في عقولهم، ولو كانت السلطة العامة تعارضها– إحداثا من جانبهم وبالوسائل السلمية – لتغيير قد يكون مطلوبا. ولئن صح القول بأن النتائج الصائبة هي حصيلة الموازنة بين آراء متعددة جرى التعبير عنها في حرية كاملة، وأنها في كل حال لا تمثل انتقاء من السلطة العامة لحلول بذاتها تستقل بتقديرها وتفرضها عنوة، فإن من الصحيح كذلك أن الطبيعة الزاجرة للعقوبة التي توقعها الدولة على من يخلون بنظامها، لا تقدم ضمانا كافيا لصونه، وأن من الخطر فرض قيود ترهق حرية التعبير بما يصد المواطنين من ممارستها، وأن الطريق إلى السلامة القومية إنما يكمن في ضمان الفرص المتكافئة للحوار المفتوح لمواجهة أشكال من المعاناة – متباينة في أبعادها – وتقرير ما يناسبها من الحلول النابعة من الإرادة العامة، ومن ثم كان منطقيا، بل وأمراً محتوماً أن ينحاز الدستور إلى حرية النقاش والحوار في كل أمر يتصل بالشؤون العامة، ولو تضمن انتقادا حادا للقائمين بالعمل العام، إذ لا يجوز لأحد أن يفرض على غيره صمتا ولو كان معززا بالقانون، ولأن حوار القوة إهدار لسلطان العقل، ولحرية الإبداع والأمل والخيال، وهو في كل حال يولد رهبة تحول بين المواطن والتعبير عن آرائه، بما يعزز الرغبة في قمعها، ويكرس عدوان السلطة العامة المناوئة لها، مما يهدد في النهاية أمن الوطن واستقراره…. إذا كان ذلك، فإن الطبيعية البناءة للنقد لا تفيد لزوما رصد كل عبارة احتواها مطبوع، وتقييمها- منفصلة عن سياقها- بمقاييس صارمة، ذلك أن ما قد يراه إنسان صوابا في جزئية بذاتها، قد يكون هو الخطأ بعينه عند آخرين، ولا شبهة في أن المدافعين عن آرائهم ومعتقداتهم كثيرا ما يلجأون إلى المغالاة، وأنه إذا أريد لحرية التعبير أن تتنفس في المجال الذي لا يمكن أن تحيا بدونه، فإن قدرا من التجاوز يتعين التسامح فيه. ولا يسوغ بحال أن يكون الشطط في بعض الآراء مستوجبا إعاقة تداولها”. (حكم المحكمة الدستورية العليا بمصر في القضية رقم 37 لسنة 11 قضائية “دستورية”)
وفيما يتعلق بنشر أخبار يتبين فيما بعد انها كاذبة، فقد استقرت احكام محكمة النقض المصرية منذ خمسينيات القرن الماضي على ان مجرد نشر أخبار كاذبة لا يعد جريمة ما لم يتحقق الركن المعنوي بعنصريه العلم والإرادة، أي علم الناشر يقينا أنه ينشر أخبارا كاذبا واتجاه إرادته الحرة للقيام بهذا الفعل، فإن تبين أنه غير عالم بكذب الأخبار أو أنه كان عالما بذلك ولكنه أجبر على نشره تحت ضغط الإكراه أو التهديد أو أنه نفذ أوامر رئيسه الذي لا يمكن له عصيان أوامره، فإنه لا مسؤولية ولا جريمة في مثل هذه الأحوال، ومن أحكام محكمة النقض المصرية في هذا المقام على أنه يجب- لتطبيق المادة 188 من قانون العقوبات الخاصة بنشر الأخبار الكاذبة مع سوء القصد- أن يكون الخبر كاذبا وأن يكون ناشره عالما بهذا الكذب ومتعمدا نشر ما هو مكذوب، فإذا كان الحكم لم يورد شيئا عن كذب الخبر في ذاته ولا عن علم الطاعن بكذبه فانه يكون قاصرا لعدم استظهاره عناصر الجريمة التي دان الطاعن بها”. (الطعن رقم 451 لسنة 22 جلسة 20/5/1952).
هذا، وقد جاء في دفع ضد طعن تقدمت به جهة حكومية ميزت قرارا اعتبرت فيه المحكمة أن الأقوال المنسوبة للمتهم هي من قبيل ممارسة حق النقد وحرية التعبير، (.. وفعل الإسناد هو العنصر الأول من عناصر الركن المادي لجريمة القذف، والمقصود به أن ينسب المتهم واقعة محددة إلى المجني عليه، وبالقراءة الدقيقة لتفاصيل العبارة المنسوب إلى المتهم أنه قذف بها الشركة المدعية بالحق المدني، نجدها وقد خلت من أي واقعة منسوبة إلى الشركة أو ممثلها المفوض العام /…، بل أن المتهم حريص على مصلحة الشركة، وقد عبر عن ذلك بقوله: “إن عدم تنفيذ الحكومة لوعودها يمثل إهداراً للصناعة الوطنية”. وحرص المتهم على عدم إهدار الصناعة الوطنية غير منفصل عن حرصه على مصلحة الشركة التي تعتبر إحدى مكونات هذه الصناعة، وفى ذلك تقول محكمة النقض: “أن محكمة الموضوع إذا كانت قد انتهت في حكمها انه يبدو من سياق المقال أن المتهم قد ضمنه نقدا لسياسة استيراد الأدوية واستهجانه لتلك السياسة القائمة على مجرد إرسال بعض الموظفين إلى الخارج بحجة العمل على تفريج أزمة الأدوية دون أن يؤدى ذلك إلى نتيجة فعالة وإنما هو يطالب باتخاذ سياسة أكثر فاعلية في معالجة أمر يهم أفراد الشعب جميعا، وأنه واضح من سياق المقال أن المتهم لم يكن يقصد من الألفاظ والعبارات التي أوردها بهذا المقال السب والقذف في حق المدعي بالحق المدني، وإنما كان يقصد نقد سياسة رأى أنها بحالتها هذه لا يمكن أن يكون من شأنها توفير الدواء ووضع حل حاسم وسريع لتلك الأزمة وأنه ما دام أن هذا النقد كان موجها للمصلحة العامة ولم يكن يقصد منه مجرد التشهير لعدم وجود ما يدعوه لذلك، يكون ما ورد في هذا المقال هو من قبيل النقد المباح….ولما كانت محكمة الموضوع قد اطمأنت في فهم سائغ لواقعة الدعوى أن العبارات المنشورة في المقال الذي حرره المتهم لا يقصد منها سب الطاعن أو القذف في حقه أو إهانته أو التشهير به وإنها من قبيل النقد المباح، وكان النقد المباح هو إبداء الرأي في أمر أو عمل دون المساس بشخص صاحب الأمر أو العمل بغية التشهير به أو الحط من كرامته وهو ما لم يخطئ الحكم في تقديره، ذلك أن النقد كان على واقعة عامة وهى سياسة توفير الأدوية والعقاقير الطبية في البلد وهو أمر عام يهم الجمهور….وعليه فان النعي على الحكم بالخطأ في تطبيق القانون يكون على غير أساس…” (الطعن رقم 33 لسنة 35 جلسة 2/11/1965).
وعن حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية جاء في حكم للمحكمة الدستورية العليا، أن حقوق الانسان وحرياته التي كفلها الدستور لا يجوز عزلها عن بعض أو تجزئتها، إذ من المتعين توافق هذه الحقوق لتتكامل بها الشخصية الإنسانية في أكثر توجهاتها عمقا ونبلاً، وان الأصل في الحقوق المدنية والسياسية هو اتسامها بإمكان توكيدها قضاء وإنفاذها جبراً، أنه يتعين امتناع الدولة من التدخل في نطاقها دون مقتضى. أما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فلا يتصور ضمانها إلا من خلال تدخل الدولة ايجابيا لتقريرها عن طريق الاعتماد على مواردها الذاتية التي تتيحها قدراتها ولهذا قد لا تنفذ نفاذا فوريا بل تنمو وتتطور بالنظر إلى مستوياتها وتبعا لنطاقها.(الحكم الصادر في القضية 30 لسنة 16 قضائية “دستورية جلسة 6/4/1996، والمنشور في الجريدة الرسمية العدد 16 في 18/4/1996).
وبعد، فإن معيار التمييز بين جريمة القذف والسب والتشهير وممارسة حق النقد وحرية التعبير، إنما يستند إلى الآتي:
-
الفيصل هو النصوص الدستورية المتعلقة بالحريات العامة التي هي الأصل عند النظر في شكايات القذف والسب وتلفيق الأخبار.
-
يتشابه الركن المادي لجريمة القذف أو السب في كثير من الحالات مع الأركان المادية لممارسة حق النقد وحرية التعبير، غير أن الفرق الرئيس بينهما إنما يمكن في طبيعة القذف والنقد واختلاف الركن المعنوي، ذلك أن قصد القاذف إنما هو الإساءة المقصودة للمقذوف والتشهير به لأغراض شخصية بحتة، بينما يهدف الناقد إلى ممارسة حقه في النقد وحريته في التعبير عن رأيه تحقيقاً لمصلحة عامة عبر دعوته- على سبيل المثال- إلى تطوير الأداء وتحرير العمل من المعوقات والبيروقراطية أو الإبلاغ عن فساد مالي أو إداري أو لفت الانتباه إلى رفض ما هو موجود على جدران قاعات الدرس من العبارات الحاطّة بالكرامة الآدمية والخادشة للحياء العام، فاستخدام كلٍّ من الناقد والقاذف عبارات وجملاً وتراكيب وألفاظاً متشابهةً أو متقاربة قد يؤدي إلى أن يوصف أحدهما بأنه كان يمارس حقه الدستوري في النقد وحرية التعبير عن الرأي، فيما يُوصف الآخر بأنه مرتكبٌ لجريمة القذف، استناداً على الاختلاف في الركن المعنوي للجريمة أو القصد الجنائي عند كلٍّ منهما.
وعليه، فإن الفصل في القضية ينبغي ألا يتم بكشف أركان الجريمة لوحدها، وإنما بإجراء المقارنة بين أركان ممارسة الحريات العامة وحق النقد مع أركان الجريمة ليتبين أيهما الأقرب إلى العقل، تأسيساً على أن ملاحقة جرائم الفساد الإداري مثلاً والاختلاس والرشوة وعدم الكفاءة المهنيّة وسوء التخطيط وسوء التصرف، هو أمر ضروري، مع اعتبار أن كل اعتداء على مصالح عموم الناس، أهم بكثير بالنسبة للمجتمع وللصالح العام من حماية الاعتبار الشخصي. غير أن الإشارة في هذا السياق واجبة مع التشديد والتأكيد أن جريمة القذف والسب لا تتحقق ولا تثبت حال توفر أي سبب من أسباب الإباحة.
وللتأكيد على مبدأ “رجحان الحق”، فينبغي القول إنه إن تساوت أدلة رجحان ارتكاب جريمة القذف مع أدلة رجحان ممارسة حق النقد، فإن ممارسة حق النقد هي الأولى بالرجحان لا لشيء إلا لأن الشك إنما يفسر دائماً لصالح المتهم، ولأن الأصل في الإنسان براءته وحسن نيته، فيما الأصل في الأشياء إباحتها، ما لم يجرِ تقييد ما يراد تقييده من بينها.
أما آخر الكلام، فلنُعِد قراءة المقال من أوله قراءة نابهة معمّقة في سياق ما قاله فولتير الفرنسي: “إني أستنكر ما تقوله، ولكنني أدافع حتى الموت عن حقك في قوله”، وما قاله بيرم التونسي شاعر العامية المصري التونسي الأصل: “… ولولا النقاد لهلك الناس، وطغى الباطل على الحق، ولامتطى الأرذال ظهر الأفاضل، وبقدر ما يخفت صوت الناقد يرتفع صوت الدجّال”.
بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جامعة الأزهر بغزة