انتقاد الواقع الاجتماعي في فلسطين في رواية “أبو جلدة” لحلمي أبو شعبان
الكاتب والناقد/ ناهــض زقــوت
إن الذاكرة الوطنية لا يدركها النسيان حين تكون تلك الذاكرة معمدة بالدم، فما زالت السهول والوديان والجبال في فلسطين مزروعة برايات البطولة، ربما لا يدركها الكثيرون أو تغطت بطبقة من الرماد، ولكنها ذاكرة تشي بها الأرض حين تنبش ترابها، فتخرج حكايات البطولة لتروي فصول الدم، فذاكرة الأرض لا يصيبها الخرف أو النسيان.
أبو جلدة والعرميط .. ثائران ضد الظلم:
بعد ما يقارب الثمانين عاماً ما زالت مغارة أبو جلدة في أعالي جبل طمون في محافظة طوباس مزاراً للعديد من الباحثين والسياح والهواة والمغامرين، فهي التي شهدت مأمنه وكفاحه ضد الظلم والاستعمار، فأصبحت من أشهر المعالم الأثرية في قرية طمون، تلك القرية التي شهدت ميلاد ونضال الثائر الفلسطيني أبو جلدة ورفيقه العرميط.
لقد فاقت شهرتهما الآفاق، وكتبت عنهما الصحافة المحلية والعربية: كالدفاع، وفلسطين، والجامعة الإسلامية، والمقتطف، والمقطم، والصحافة الأجنبية في بريطانيا وفرنسا وأمريكا، فقد كتبت مجلة (لو) الفرنسية عن أبي جلدة تقول: “تجاوزت شهرة أبو جلدة حدود ما أحرزه مفتي فلسطين الأكبر، وأصبح معروفاً أكثر من مدير المهاجرة والباسبورت المستر جامسون”. ونسج الأهالي القصص والحكايات حول بطولاتهما، وتغنى بهما الشعراء والزجالون حتى تحولا إلى أسطورة في النضال ومقاومة الاحتلال البريطاني.
أبو جلدة والعرميط فلاحان فلسطينيان من نابلس، فأبو جلدة وهو أحمد حمد المحمود من قرية طمون شرقي نابلس، والعرميط هو صالح أحمد مصطفى العديلي من قرية بيتا جنوب نابلس. فر أبو جلدة من الخدمة العسكرية في زمن الدولة العثمانية، وعمل عتالاً في ميناء حيفا، وهناك تعرف بأوفى أصدقائه ورافقهم في رحلة الكفاح ضد الاحتلال البريطاني. تأثر بالمثقف والأديب سليمان العامري، وبالشيخ عز الدين القسام أثناء سماعه الخطب في مسجد الاستقلال في حيفا. أما رفيقه العرميط فهو من مواليد أواخر العهد التركي، وكان وحيداً لوالديه، وعرف بنشاطه وحيويته وجرأته منذ الصغر، وكان يعد الأقوى بين أبناء جيله، وعمل بالزراعة والفلاحة كسائر عائلته وأهل قريته.
أسس أبو جلدة خلية ثورية لمقاومة الاحتلال البريطاني يسانده عدد من الرجال، وعين العرميط نائباً له مطلق الصلاحيات، وذلك في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، وتحديداً في السنوات من 1930 إلى 1934، وقد أرهقت هذه الخلية السلطات البريطانية طوال تلك السنوات في عملياتهم الفدائية، كما أن أبو جلده ورفاقه لم يرحموا الفلسطينيين (سماسرة الأرض) الذين ازدادت ثرواتهم في العهد التركي، وأرهقوا الفلاحين حتى عجزوا عن سداد ديونهم واضطروهم للتنازل عن أرضهم. هؤلاء وضعهم أبو جلدة ورجاله في صف الإنجليز والصهاينة، ووجهوا لهم ضربات قاسية. كان اسم أبو جلدة مثار رعب للجنود البريطانيين، وكبار جنرالاتهم، وللتابعين محلياً لهم، فهو يضرب ويختفي، ولا يترك أثراً، واستنفذت السلطات البريطانية طاقات قصوى في القبض عليهما من خلال استخدام قوات شرطة ترتدي الزي الفلاحي، وزرع العسس والمخبرين لمتابعتهم، ونصب الكمائن على الطرقات، ومطاردتهم في كل مكان، والاعلان عن جائزة مالية وصلت إلى 350 جنيهاً لمن يساعد في القبض عليهما، ونشر الإشاعات التي تقول بأنهم لصوص وأشقياء وقطاع طرق، وعلى الناس الحذر من عصابتهم، وتبليغ مركز الشرطة عن أية أدلة أو معلومات تفيد في الوصول اليهم، لذلك لبس أبو جلدة البدلة العسكرية وحذاءً بساق طويلة، وزين كتفيه بسيوف ونجوم، كإعلان هوية ودلالة على مقاومته، ورفض لما وصم به من شقاوة وقاطع طريق.
اتبعت خلية أبو جلدة أسلوباً شبيهاً بحرب العصابات في المقاومة، والقائم على الضرب والهرب والتسلل والمباغتة والكمين، واتخذت من مغارات الجبال مسكناً وموطناً فلم تستطع القوات البريطانية الوصول إليهم، كما كانوا على وعي كافٍ بالخطر الذي يحيط بهم فعمدوا إلى تغيير أماكن تواجدهم باستمرار والتنقل الدائم بين الشمال والجنوب، وقد وجد أبو جلدة والعرميط ورفاقهما المساعدة والعون من قبل الفلاحين، وكانوا يقدمون لهم الطعام والشراب والمأوى والمبيت، وذلك تقديراً لهما على شجاعتهما ومواقفهما المشرفة في مقاومة الاحتلال.
في نيسان/ ابريل عام 1934 وقع أبو جلدة والعرميط في كمين محكم نصب لهم بعد وشاية أحد الجواسيس، وتم القاء القبض عليهما، واقتيد الأبطال إلى سجن المسكوبية بالقدس، وحكم عليهما بالإعدام، ونفذ الحكم في 26 يونيو 1934. بعد استشهادهما دخل البطلان التراث الشعبي الفلسطيني من أوسع أبوابه، فتناقلت الألسن قصتهما وحياتهما وبطولاتهما مصاغة ما بين الحقيقة والخيال، وأنشد الفلاحون الأغاني والأهازيج باسميهما.
الثائران .. وخلودهما في الذاكرة والأدب:
بعد سنوات من استشهادهما يكشف الكاتب والأديب نجاتي صدقي في مذكراته عن التقائه بالثائرين أبو جلده والعرميط في سجن المسكوبية في القدس حيث كان معتقلاً آنذاك يقول: “تعرفنا في السجن إلى رجلين شغلا حكومة الانتداب مدة طويلة في حرب العصابات. وهما أبو جلدة والعرميط، لقد ألف هذان الفلاحان مجموعة لمحاربة الاحتلال البريطاني مثل كثير من المجموعات المنتشرة في البلاد والمؤلفة غالباً من الفلاحين الذين باتوا بلا أرض أو عمل”. ويصف هاتين الشخصيتين قائلاً عن أبي جلدة بأنه “رجل نحيل الجسم، قصير القامة”، أما عن العرميط بأنه “رجل قوي البنية، شديد البأس”. كما يخبرنا عن مطلب العرميط من أمه حين زارته، إذ قال لها “أن تحضر معها خنجراً في الزيارة القادمة لأنه سيضعه معه في قبره، وسيذبح به الخائن الذي وشى به. بينما كانت أخر كلمات أبو جلدة الذي تقدم إلى حبل المشنقة غير آبه بالضباط البريطانيين قائلاً: “بخاطركم يا شباب.. فلسطين أمانة في أعناقكم.. إيّاكم أن تفرطوا في حبة رمل من أرض فلسطين”.
وقد تخلدت سيرة أبو جلده ورفاقه إلى جانب الأغاني والحكايات الشعبية، في الكتابات الأدبية وقصائد الشعراء، فهذا الشاعر اللبناني سلام يواكيم الراسي (1911-2003) يرثي أبا جلدة بعد إعدامه بقصيدة يصفه فيها بأنه “نبي الأمة” بعنوان (هل من نبي في فلسطين يسلم؟). ونشرت مجلة اللطائف العصرية في بيروت لصاحبها ومحررها أديب يوسف صادر رواية عن أبي جلدة بعنوان (الرواية التامة: الثائر أبو جلدة) وذلك في عددها الصادر في 6 أيار/ مايو 1934. وقد اتخذت الكاتبة الفلسطينية حنان بكير من هذه الرواية/ الوثيقة مادة لكتابة روايتها (قصة الثائر محمد محمود أبو جلدة) الصادرة عن دار نلسن في بيروت سنة 2014. ونشر الكاتب المصري توفيق حبيب ضمن كتابه (أبو جلدة وآخرون) الصادر في القاهرة سنة 1935 ملامح من سيرة وحكايات أبو جلدة متوافقة مع رواية السلطات البريطانية عنه. وكتب الشاعر هارون هاشم رشيد سيرته في كتاب (أبو جلدة والعرميط: يا ما كسرا برانيط – حكاية حقيقية من بطولات المقاومة الشعبية الفلسطينية) الصادر عن دار مجدلاوي في عمان سنة 2007. وقامت مجموعة من الفنانين والكتاب الفلسطينيين بصياغة قصة أبو جلدة والعرميط في (كتاب قصص مصورة) وصدر عن مجموعة معتوق، وعرض في بينالي الشارقة 13، في آب/ أغسطس 2017.
أبو جلدة .. كتابة مغايرة:
رغم هذه الكتابات التي أشار إليها الباحثون والنقاد إلا أنهم لم يذكروا من بينها أول كتاب عن أبي جلدة في التراث الأدبي الفلسطيني، وهي رواية (أبو جلدة) للكاتب الفلسطيني حلمي أبو شعبان، والصادرة في طبعتها الأولى عن مطبعة الجامعة الاسلامية في يافا سنة 1934، وأعادت نشرها في طبعة ثانية وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله سنة 2022، ضمن سلسلة الموروث الثقافي.
تعد رواية (أبو جلدة) أول رواية تنشر لكاتب فلسطيني من سكان مدينة غزة قبل النكبة. فكاتبها هو الأديب والصحافي حلمي مصباح أبو شعبان من مواليد حي الزيتون بمدينة غزة سنة 1911، تلقى تعليمه الابتدائي في المدرسة الرشيدية (مدرسة هاشم بن عبد مناف)، ثم أرسله والده للكلية العربية في القدس.
بدأ حياته الصحفية محرراً في جريدة صوت الحق لصاحبها المحامي فهمي الحسيني. ثم عمل كاتباً في بلدية غزة سنة 1930، ثم عين سكرتيراً وأمين صندوق لبلدية غزة سنة 1934. في سنة 1946 خاض انتخابات بلدية غزة ممثلاً عن منطقة الرمال، وأصبح عضواً في مجلس البلدية.
افتتح سنة 1940 أول مكتبة في مدينة غزة (المكتبة الهاشمية)، وبذلك افتتح المجال لاستقبال الصحف والمجلات والكتب المصرية في غزة. عمل مديراً لأول فرع للبنك العربي في غزة سنة 1945، كما تولى على مدار عشر سنوات مناصب إدارية رفيعة في فروع البنك العربي بمصر، وبقي في عمله حتى نكسة حزيران 1967 حيث قدم استقالته، وغادر إلى مصر مع أبنائه، وعاد إليها في سنة 1972.
كان شاعراً وأديباً وصحافياً، وقدم برنامج “حديث المساء” في إذاعة “هنا القدس” سنة 1936. وكتب عشرات القصائد وعدداً من الكتب، والعديد من المقالات الوطنية والسياسية والاجتماعية والانتقادية في الصحف والمجلات الفلسطينية والعربية قبل النكبة، وقد أجرى العديد من اللقاءات مع مسؤولين، وكان يدونها تحت عنوان (من منازلهم) وينشرها في جريدة غزة التي أسسها خميس أبو شعبان سنة 1951. توفي في مدينة غزة يوم الأربعاء 11/1/1978.
عتبات النص:
يتخذ الكاتب عدداً من العتبات النصية في داخل متون الكتاب، بخلاف عتبة العنوان التي تعد واحدة من العتبات، وهذه العتبات تشكل مدخلاً تفسيرياً وعتبات سياقية متوافقة مع ما يحتويه السرد من أحداث، وجاءت كالتالي: “معجب، عفريتي، نزهة، ما قال، أبو جلدة، الدرس القاسي، الزعيم، العرميط، ولهذا أنا معجب”. أما عنوان الرواية (أبو جلدة) نجد الغلاف يحمل إلى جانب العنوان صورة أبو جلدة نفسه، كأن الكتاب يوحي للقارئ أن الكاتب يتحدث عن الثائر أبو جلدة وبطولاته، ولكن حينما يتعمق في النص، يكتشف أن الكاتب لم يسع إلى كتابة رواية عن حياة أبو جلدة وأعماله وأفعاله، ونضاله ضد القوات/ السلطة البريطانية، والأسباب التي دفعته للنضال، كما أنه لم يوضح هل كتب هذه الرواية في حياة أبي جلدة، أم بعد اعدامه لأنه أعدم في نفس عام صدور الرواية؟.
لقد اتخذ الكاتب من هذه الشخصية وسيلة أو صوتاً يعبر من خلالها عن انتقاد السياسية العامة في فلسطين، وشخوصها من السياسيين، وكان قاسياً في انتقاده للسياسيين وممارساتهم، وكذلك العرب في تخليهم عن فلسطين وثرواتها، وفي موقف الناس ونفاقهم. بمعنى أن أبا جلدة في انتقاده هو السارد من خلال حواره مع الكاتب الذي أطلق على نفسه “الصحفي الصغير” ، وفي الحقيقة أن أفكار ورؤى أبو جلدة هي نفسها أفكار ورؤى الكاتب/ السارد نفسه.
وفي هذه الرواية يحاول الكاتب أن ينفي عن أبي جلدة تهمة أنه قاطع طريق، ويؤكد أن ثائر وطني، ويكشف سر إعجابه وإعجاب الناس والإعلام بهذه الشخصية البسيطة المعجونة بتراب الأرض، ولم تلوثها مباهج السلطة، ولم تسع نحو الكراسي والمجد الشخصي الزائف.
الأحداث وبناء الرواية:
يتخذ الكاتب من ضمير الأنا المتكلم والحوار وسيلتين في سرد الأحداث، واستخدام هذا الضمير يدل على طغيان الجانب الذاتي على النص بغرض إثبات الانتماء والهوية، وتوصيل رسالته الانتقادية للقارئ.
ليس ثمة مكان محدد لسرد الأحداث، إنما المكان فلسطين وهي التي تشكل الفضاء العام للأحداث، وعندما زار أريحا وكانت مكان اللقاء مع أبي جلده قدم وصفاً عاماً يهدف من خلاله توصيل فكرة ضياع بحيرة لوط (البحر الميت) من أيدي العرب إلى الأيدي الغربية، يقول: “أمامي مروج خضراء، بديعة التنسيق، ومساحات واسعة من الموز وبين هذه وتلك “بحيرة لوط” الهادئة الصامتة، فتخيلتها حزينة باكية لأن الأيدي العربية لم تعرف قيمتها، فتهاونت في إعطائها للأيدي الغربية”(ص٣٩).
أما بالنسبة للزمان فلم يشر الكاتب إلى زمن سرد الأحداث، كما أنه لم يشر كما ذكرنا إلى أنه كتب هذه السردية في حياة أبو جلدة أو بعد اعدامه، ولكننا نستشف الزمن من تناقله لروايات الناس وحكاياتهم عن أبي جلدة، بأن الزمن هو حضور أبو جلدة على مسرح العمل النضالي. وثمة دلالة أخرى قد نستشف منها الزمن، وهي وجود الكلب (معتوق) مع أبي جلدة حين مقابلته للسارد، وذكره بأن هذا الكلب هو كلبه الأمين المخلص الذي يعتمد عليه أكثر من العصابة(ص40). إن وجود الكلب ودلالات وصف أبو جلدة له بالوفاء والاخلاص يعطينا دلالة على الخيانة التي تعرض لها أبو جلدة من أحد رفاقه، فقد أصبح الكلب أكثر وفاءً واخلاصاً من الإنسان، وهذا يعني أن الزمن بعد اعدام أبو جلدة. لهذا يبقى الزمن ملتبساً ولكنه لا يؤثر على أحداث الرواية.
وفي بناء الحكاية تغيب الشخصيات وتبقى شخصية السارد (الصحفي الصغير)، وهو الكاتب نفسه، المهيمنة على السرد، فنحن أمام راوٍ وحيد، ولكنه يستعين بأدوات شخصية كي تساعده في رواية حكايته دون أن يبرز ملامحها، فهذا العفريت قرين السارد، وشخصية أبو جلده، والأصدقاء الذين يذهب معهم في نزهة إلى أريحا، لم نتعرف على أحد منهم، غير إشارة أنه ذاهب مع أصدقائه في سيارتهم.
نجد شخصية العفريت يستلهما على طريقة الشعراء الأقدمين الذين كان يقال عنهم أن لكل شاعر شيطان يهديه إلى قول الشعر. يسجل الكاتب لنفسه عفريتاً يرشده ويستعين به في جلب المعلومات وتفسير بعض الغوامض، يقول: “لست بحاجة لتقديم عفريتي إلى القراء، فكما أن للشاعر شيطاناً، كذلك للكاتب عفريت، وقرائي يعرفون مدى تأثير عفريتي على قلمي، فأستميحهم العذر إذا احتجت إليه، واستعنت به في مهمتي الشاقة فهو عندي جاسوس “لاسلكي” ، ومنجم وكل شيء، ولا طاقة لي على بعده”(ص٢٥). لقد أصبح العفريت أداة من أدوات السارد في بناء الأحداث، فعندما سأله السارد عن أبي جلدة، قال له أنه شخصية خطيرة، وسوف يجمعه معه في يوم من الأيام دون أن يشعر به. وهذا ما تحقق عندما جمع بينهما العفريت أثناء استراحة السارد عند صخرة في أريحا، وعندها ظهر أبو جلدة وتبادلا الحديث، ولم يعرف السارد هل هو في وعي أم حلم، وهل كان صحواً أم مناماً، وهذا ما فعله العفريت معه “دون أن تشعر”.
إن علاقة الكاتب بالعفريت علاقة قوية وذات جذور في مسيرته الصحفية، فهو كان يكتب مقالاته في جريدة “مرآة الشرق” تحت باب بعنوان (خطط عفريت).
أما شخصية أبو جلدة فهو أصل الحكاية، ولكنه يتسامى في حكايته عن سيرته وحياته الشخصية والنضالية، فلم يذكر غير اسمه وحديث الناس والإعلام عنه يقول: “رجل فلاح اسمه محمد المحمود من قرية طمون بجوار نابلس، اعتقلته السلطة وهو متليس بجريمة نكراء، فأودعته السجن، وهرب أبو جلدة من السجن، وأصبح في نظر العدالة مجرماً فاراً”(ص٢٠). كان بالنسبة للسارد مثار رعب وخوف، فهو في نظره “رجل جبار تعنو له الرقاب، وترتعد من رؤيته الفرائص”(ص٣٠)، وقد وصل به الأمر أن قرأ “الصمدية” تعوذاً من اسم أبو جلدة، وقد سخر منه صديقه حينما شعر بخوفه، فاقترح عليه أن يقطع له “الخوفة”. إن الكاتب يحاول أن يعكس صورة أبو جلدة في أذهان الناس والدرجة الكبيرة التي وصل اليها، فقد أصبح شخصيةً مرعبة الكل يهابه ويحسب له ألف حساب، حتى الشرطة البريطانية منتشرة على الطرقات لتعقبه.
وفي نفس الوقت كانت بالنسبة للسارد مثار إعجاب. ويكشف عن اعجابه بهذه الشخصية التي لم يلتق بها حقيقة إنما كما يرى النائم، فهو تخيل لقاءه مع أبي جلدة وحديثه معه، هذا الحديث الذي شكل شخصية أبو جلدة، وعبر من خلاله عن السياسة العامة وانتقاده للسياسيين، ومن هنا جاء سر الاعجاب به. ولكننا ندرك أن أبا جلدة هو فلاح بسيط لم ينل قسطاً من التعليم حتى يتحدث في السياسة وينتقد السياسيين، إلا أن الكاتب اتخذ منه أداة لتوصيل أفكاره لما يمثله من رمزية نضالية لدى الجماهير.
الخيال الشعبي .. وانتقاد الواقع:
تعد الشخصيتان أبي جلدة والعرميط من أكثر الشخصيات التي هيمنت على الذاكرة الشعبية، ونسج الخيال الشعبي حولهما العديد من الحكايات والروايات التي توحي بقدراتهما الأسطورية في مواجهة القوات البريطانية، وقد أشار السارد إلى العديد من هذه الحكايات التي تشير إلى أن أفعالهم فوق العادة (ص٣٥-٣٦). نجد عشرات القصص والحكايات رويت عن أبو جلدة، وهي قصص يتداولها الناس، إلا أن السارد/ الكاتب يؤكد أنه “لا يصدق كل ما يقال عن أبي جلدة”(ص٣٥) ولكنه ينقل للقراء بعض هذه القصص كنوع من نقل أحاديث الناس التي تعبر عن شجاعته واقدامه، لذا ينقل هذه الأحاديث على لسان أخرين يرددونها بكل إعجاب. كما يشير إلى أن أغلب الصحف في فلسطين تملأ أعمدتها بأخبار وحوادث عن أبي جلدة، ويؤكد في موضع آخر عن رؤيته لهذه الأخبار قائلاً: “ولسنا نثق بكل ما يقال عنه، وإنما أوردنا ذلك على سبيل التفكه واطلاع القراء على ما يقال”(ص٣٦).
يفتتح الكاتب روايته بسؤال يستمده من حكايات الناس ورواياتهم عن أبي جلدة، فهو يكتشف أن هذه الحكايات هي تعبير عن اعجاب الناس بهذه الشخصية، ويؤكد أنه هو نفسه معجب بأبي جلدة، رغم الخوف منها، فهذا الخوف هو انعكاس لما في نفسيات الآخرين منه، ويتساءل عن سر الاعجاب بهذه الشخصية “فهل هو ساحر، أو جاء يحمل عصا موسى، أو لديه مزايا قلبته من مجرم فار إلى بطل يتحدث عنه الناس”(ص21)، ويسجل في فصل (معجب) دلائل هذا الاعجاب عند الناس، حتى لم يبق أحد وإلا معجب به، فقد تحول من مجرم فار من وجه العدالة إلى بطل وطني يتحدث عنه الناس. بل وصل الحال بالباعة المتجولين أن ينادوا على بضائعهم باسمه فيقولون: “تفاح أبو جلدة يا تفاح، مال أبو جلدة يا رطب، عنب أبو جلدة الله ينصرك يا عنب”(ص19).
ويبرر دور الحاضنة الشعبية بما طرحه صديقه عليه من قصة عصابات الأناضول ومكانتها عند الناس، والفرق بينها وبين عصابات أخرى(ص٣١-٣٢)، لقد أشار الكاتب إلى هذا المثال لكي ينفي ما أطلقته السلطات البريطانية على أبي جلده وأعوانه من أنهم عصابة، أي قاطعي طريق ومجرمين، وبالتالي يؤكد أن أمثال هذه العصابات كان موجوداً في كل زمان ومكان، وأن مفهوم “عصابة” ليس بالضرورة تحمل معنى الإجرام، بل إن عصابة تعني جماعة من الناس يسعون وراء هدف محدد، وتربطهم مصلحة مشتركة، وهذا ما كان من نظرة الأهالي إلى أبو جلدة وعصابته فهم من يعينون قومهم على رفع الظلم وحمايتهم. وبالتالي وجدت أمثال هذه العصابات حاضنة شعبية تساهم في اطالة أمدها، لما كانت تقدمه للناس من اعانات وهدايا. وهذا بالتالي ينعكس على عصابة أبو جلده ورفاقه، فهم كانوا يحاسبون الأغنياء وسماسرة الأرض على أفعالهم، وليس فقط مقاومة الجنود البريطانيين واليهود، لذلك احتضنتهم الناس ووفرت لهم المأمن والمأكل والمشرب.
يبتعد الكاتب/ السارد عن حكايات الناس ويقدم شخصية أبو جلدة بطريقة مغايرة، فهو رجل سياسية ويفهم خفايا السياسيين وأفعالهم، يستشف منها الأسباب التي دفعت أبو جلده وأمثاله إلى الخروج ومقاومة السلطات البريطانية، وتتلخص في فشل السياسيين في الدفاع عن فلسطين وشعبها، يقول أبو جلده في حواره مع السارد: “عيوبنا لا تحصى، ولكن قل لي أي خير ترتجيه أمة قادتها موظفون لدى السلطة”(ص٤٣). فيجد نفسه أمام رجل غير عادي، ويعبر السارد عن اندهاشه من معرفة أبو جلدة بالسياسة، حين يبدي معرفته السابقة بالصحفي الصغير من خلال مقالاته في الصحف، وحينما يبدي اعجابه عندما يقوم كلبه (معتوق) بتمزيق الصحف التي في حوزة السارد، مما يعطي دلالة على رفض ابو جلدة للصحافة والاعلام وكره السياسة، فهؤلاء السياسيين في نظره هم الذين ضيعوا ثروة البحر الميت، يقول: “هذا البحر الميت منبع ثروة عظيمة في فلسطين خسرها العرب أو ضيعتها السياسة من العرب”(ص٤٢). ودلالة هذا الحديث يرجع إلى منح الامتيازات للشركات اليهودية لاستخراج الاملاح من البحر الميت لصالح اليهود وليس لصالح العرب. لذلك يطرح أبو جلدة على السارد سؤاله الاستنكاري: هل في فلسطين عربي واحد حزين على ضياع هذا الكنز”(ص٤٢).
يمثل اللقاء بين السارد وابو جلدة جوهر الرواية، فهو اللقاء الذي يكشف عن موقف أبو جلدة من الواقع الفلسطيني سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي، ويكشف من خلاله أن ضياع فلسطين كان بسبب هؤلاء السياسيين الذين يعملون موظفين لدى الاحتلال، فيقول: “إن الوظائف العالية أصبحت وقفاً على طبقة الذوات المسيطرين على الحركة الوطنية وقادة المظاهرات، عملاً بقاعدة اطعم الفم تستحي العين”(ص٤٣)، فكيف يرتجى منهم الخير، وينتقد مظاهراتهم متسائلاً ما الفائدة منها، وحينما يرد السارد: اسمعنا صوتنا للخارج”. بكل سخرية يقول أبو جلدة: “أي صوت مخنوق هذا الذي بعثتموه، لم يسمع العالم غير أنين الجرح وحشرجة أرواح القتلى”(ص٤٣). كما ينتقد الانتخابات وانشغال السياسيين والأهالي بها(ص٤٨).
ولا يكتفي ابو جلدة بانتقاد السياسيين بل ينتقد أيضاً الواقع الاجتماعي حيث الشبان يتلهون بمصاحبة اليهوديات، وانغماسهم في الشراب، وموقف الناس ونفاقهم الذي جعلهم يقولون “عن السمسار “زعيم”، وعن الخائن “الوطني الكبير”، ونغدق الألقاب على هؤلاء ونحن واحسرتاه في دور الانتحار”(ص٤٤).
إن الحوار بين السارد/ الصحفي الصغير وأبو جلدة يعبر عن أزمة الواقع السياسي – الاجتماعي الفلسطيني في ظل الاحتلال البريطاني، وانتقاد دور السياسيين وتعاونهم مع سلطات الاحتلال، وانشغالهم بالصراعات الحزبية والعائلية، والبحث عن الكراسي والمجد الشخصي، دون الاهتمام بمصالح الشعب والوطن. ويؤكد أبو جلدة أنه لا بوجد بين عرب فلسطين من يتأثر أو يغار على ضاع البلاد، غير كلبه معتوق الذي فهم مغزى الحديث فعفر نفسه بالتراب.
لقد تعلم السارد درساً قاسياً من أبي جلدة، مما زاد اعجابه، بل كشف عن سر اعجاب الناس به، وعبر عن رؤيته لابي جلدة فهو زعيم وليس قاطع طريق يقول: “لا يزال يسمو هذا الرجل في عيني شيئاً فشيئاً، إنه ليس كلاماً ولكنه أستاذ (برفسور) فتارة يحدثك في السياسة، وطوراً في علم الاجتماع، وحيناً في علم النفس … الرجل زعيم، الزعامة تخلق الرجال وتكون الشعوب”(ص٥١).
الرؤية الكلية للنص:
إن هذه الرواية لم تكتمل أركانها الفنية، ولم يصنفها كاتبها على أنها رواية، بمعنى أنه لم يسجل على غلافها أنها رواية، بل ترك للقارئ تحديد ماهية هذا الكتاب. ونحن لا نعتبرها رواية بالمعنى الفني للرواية بل هي أقرب إلى الحكاية أو القصة الطويلة، فهي لا ترتقي للرواية التي تمتلك الشروط الفنية من حيث تبلور الشخصيات والأحداث والزمان والمكان والحبكة، فقد اتخذ الكاتب من نفسه سارداً يروي الحكاية، وجعل من شخصية أبو جادة صوته المعبر عن رؤيته وأفكاره تجاه السياسيين وأفعالهم، وذلك في سعيه لانتقاد السياسة العامة في فلسطين، ليؤكد أن أبا جلده وأمثاله ثاروا على الاحتلال البريطاني نتيجة تراجع السياسيين عن دورهم في النضال، وخضوعهم للسياسة البريطانية من أجل مصالحهم الذاتية.
ورغم ذلك تبقى هذه الرواية خاضعة لشرطها التاريخي في كتابة الرواية، التي كانت تستمد شروط كتابتها بما يتوافق مع رؤية الناس للرواية، بأنها رواية اجتماعية تعليمية تهذيبية، فلم يخرج الكاتب عن هذه الشروط، بمعنى أنه سعى لتقديم رؤية انتقادية اجتماعية للواقع السياسي في فلسطين، من خلال رسالة تعليمية للناس بأن السياسيين هم سبب البلاء في البلاد بتعاونهم مع السلطات البريطانية، وأن صراعهم ليس من أجل الوطن بل من أجل مصالحهم الذاتية. وبالتالي هو يؤكد دوره كمثقف في التصدي لهؤلاء السياسيين في كشف عيوبهم وممارساتهم التي لا تعبر عن انتمائهم للوطن بل للكرسي وحب الظهور.