“انقسام” و “جواسيس”…تأمُّلات في سوريالية مرحلة! – عبد اللطيف مهنا
كنا في أيام خوالٍ نحذّر من أن تغدو الخيانة في ساحتينا الوطنية والقومية مجرَّد وجهة نظر.. ها نحن اليوم ومن أسف نعايش ما حذَّرنا منه وكنا نخشاه. ذلك ما هو الآن بادِ في أحط مستوياته المتمثلة في حمأة لوثة الاندلاق التطبيعي المخزي مع عدو الأمة الصهيوني، والاستتباع الدوني والعميل لعدو الإنسانية الأميركي.. في تعالي نعيق غربان الصهينة في خرائب فضائيات تشويه الوعي في بلادنا الواسعة مشرق ومغرب.. غربان منها ما سفل حتى لاك الرواية الصهيونية للصراع، وكاد أن يتهم الفلسطينيين بارتكاب ما تعرف ب”المحرقة”!
.. يقابله، ويرفده بوعيٍ ومن دونه، ما هو الأشد خطراً منه والأفتك، والمتمثّل في زعيق بوم جلد الذات، وعواء معشر ولولة تيئيس الأمة، ذلك بالإمعان في هجائها ماضياً وحاضراً، وحتى نعيها مستقبلاً، والاسفاف بجهالةٍ غاضبةٍ حد الشتيمة، والخبث الحاقد المستغل لفرصة اختلاط الحابل بالنابل لركوب موجة التشكيك في رموزها التاريخية، والإزراء بقيمها ومواريثها الثقافية والحضارية، هذه الثرية العريقة التي راكمتها عصورها التي رافقت التاريخ فرفدت واسهمت واغنت المسيرة الحضارية الإنسانية.
وكم، وكم، قلنا، ما زاد على قاله مالك في الخمر، في توصيف مثل هذه المرحلة العابرة، لكنها الكريهة والمقيتة وفائقة الانحطاط.. قلنا إنها هزلت وهزلت، وحتى بات المنطق فيها معوجَّاً ويمشي مقلوباً على رأسه، بيد أن سورياليتها العجائبية لا زالت تتبدى سادرةً في غيّها، ولا زالت تفاجئنا بمزيد من ابداعات كوميدياها السوداء.. ولنعد الآن لساحتنا الفلسطينية، ذلك حين ذلك حين نعرّج على ما سمعناه قبل مدة هي ليست بالبعيدة من رئيس سلطة “التنسيق الأمني المقدَّس” يتهم من يعارضوه ولا يتفقوا مع نهجه، ويخالفوه فيقاوموا محتلهم بأنهم “كلهم جواسيس”!
..الساحة الفلسطينية، ما خلا اوسلوييها، قابلت هذه المأثرة الأوسلوستانية جداً باجتراع مزيج من نقيضين في كأس واحد، هما الشعور بمهانة تدنّي اللحظة المنحدرة في ساحتنا وحالنا، والسخرية التي يشوبها غير قليل من المرارة، أو كما يقال، المضحك المبكي.. لاحقاً جاءنا التعقيب الأنسب على المأثرة الأوسلوستانية من الجنرال غادي ايزنكوت.. وجدناه بين طيات تعداده لمنجزات عهده في مهمته كرئيس لأركان جيش الاحتلال ذاهب للتقاعد.. وجدناه فيما قاله وأكَّد عليه، وهو يودَّع هذه المهمة في جلسة عقدتها حكومته خصيصاً لوداعه.. أخبرنا من هم الجواسيس!
في آخر سرديته لمنجزاته، كشف الجنرال عن أن سلطة السلطة بلا سلطة في كنف الاحتلال قد أحبطت مؤخراً عملية فدائية في الضفة خططت لتنفيذها خلايا المقاومة التابعة لحماس واعتقلت فدائييها وصادرت أسلحتهم ومعداتهم.. وشهد بأن “السلطة تحارب حماس بناءً على مصالحها، ومصلحة (إسرائيل)”.. وأوصى بأنه “من مصلحة إسرائيل تقوية الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة”!!!
ولا زلنا في ساحتنا، وننتقل إلى حيث الفصائل.. ولدينا مثلاً طازجاً: التجمُّع الديموقراطي الفلسطيني” يريد “إنهاء الآنقسام”.. بين من ومن؟
بين المفترض أنهما النقيضين في ساحتنا والمحال موضوعياً التقائهما، اللهم إلا على قاعدة التحاق احدهما بالآخر.. المساوم المتنازل، والرافع لشعار المقاومة حتى العودة.. وكيف السبيل لذلك؟!
بالدعوة إلى “الخروج نحو…خطاب وطني وحدوي يساهم في تعزيز الحالة الوطنية”.. وكيف الوصول إليه؟
ب”العمل على انجاز الوحدة الوطنية وبناء مشروع وطني”.. وكيف سننجز ونبني؟
عبر “حوار يؤدي لانتخابات مجلس وطني، وتشريعي، واحترام القرارات الصادرة عن المجلسين الوطني والمركزي”!!!
المفارقة هي أن ما تجمَّعوا ليتحفوا ساحتنا اليوم به، لطالما سمعناه منهم فرادى ومجتمعين منذ أن كان هذا “الانقسام”، كما لم تخلوا منه، ومن حينه، أدبية واحدة من أدبياتهم.
.. وكما كان في قديمه لا يزال هو هو في جديده، أي كل ما يدعو إليه هو إنهاء “الانقسام” بجمع طرفيه تحت الخيمة الأوسلوية إياها وفي ملعبها الكارثي إياه ولا يبرحه.. وماذا يعني؟
رتق اهتراءاتها وتعويم رموزها العميلة، وليس القطيعة المفترضة مع مستنقعها، والعمل على تجاوزها.. يعني مدها بالحياة، واستمرار المراوحة على هامشها وتحت سقفها.. يعني دوام “الانقسام”..؟!
.. لذا لا عجب إذا ما غادر ايزنكوت مهمته إلى التقاعد مطمئناً لاستمرارية منجزاته!!!