اوروبا وترامب…كاثوليكية الزواج ونكد المساكنة! – عبد اللطيف مهنا
لا يوجد في الولايات المتحدة الأميركية ما هو الأميركي الأصلي سوى الهنود الحمر وتماسيح فلوريدا. كل أجناس وثقافات الأرض لها امتداداتها هناك، ومن مزيجها يتشكل بنسب تفاوتت هذا المصهر لتلك الأجناس والهاضم لثقافاتها أو مبدِّلها. ولأنها البلد ذو المنشأ الأوروبي الاستعماري الصرف، فإن ما يعرف ب”الواسب”، أي المهاجرين الأوروبيين البيض الأوائل، هم المنشئين لهذا البلد الذي وضع حجر أساسه، قبل أن يستقل ويكبر ويتوسع على ما هو عليه الآن، الاستعمار البريطاني وأعطاه الإنكليزية لغةً. لذا كان ولا يزال وسيظل يجمعه مع الضفة الأخرى للمحيط لأطلسي، أي أوروبا، منبته التاريخي بجذريه الحضاري والثقافي. وبالمقابل، أما وقد قطعت العولمة ذات المنبعث الأميركي مع شركاتها العابرة للقارات الأطلسي إلى القارة العجوز واجتازتها لتجتاح العالم، وكانت قد سبقتها وتعززت معها التأثيرات الثقافية الأميركية وفي المقدمة منها الهوليودية ونمط الحياة الأميركي، ازداد عمق تلكم الروابط بين هاتين الضفتين.
لكنما هذا كله وجه واحد لعملة هذه الروابط، أما الآخر فهو السياسي، حيث أنه، وإلى جانب موقع الزعامة الأميركية للمعسكر الغربي الإمبريالي دون منازع بعيد انتهاء الحرب الكونية الثانية، قد أعقب انتهائها وضع لبنة هذ الوجه الذي استمر حتى أيامنا هذه، والممكن اختصاره في الآتي، المظلة الدفاعية الأميركية لأوروبا، والمعبَّر عنها بحلف الناتو، مقابل ارتهان أوروبي للسياسات الأميركية الكونية، بمعنى التبعية لها. هذه المعادلة أفاد الأوروبيون منها في مسألة واحدة هي التخفف من كلفة الدفاع وتوفيرها لحساب دولة الرفاه، ناهيك عن أن ازماتهم المالية لا تسمح لهم بالإنفاق عليه. أما بالنسبة للأميركان فأفادتهم الذيلية الأوروبية في محاولاتهم توطيد دعائم هيمنتهم الأمبراطورية وبسط نفوذهم في العالم.
هذه التبعية لم تعف الأوروبيين من دفع كلفتها، لاسيما في العقدين الأخيرين، فمرارا ما استوجب عليهم دفع ما ترتب على حروب وسياسات واشنطن الاستباقية على شكل هبات ومساعدات لمن انتكبوا بها، أي مساعدتها على استكمال هيمنتها وتوطيدها، والمثال الأفغاني ماثل أمامنا، أو كان على الأوروبيين الالتزام بمقاطعة يفرضها الأميركان على بلد رغم أن انصياعهم لا يتفق مع مصالحهم الاقتصادية أو التجارية مع هذا البلد كإيران مثلاً.
عاصفة مقدم ترامب للبيت الأبيض حاملاً معه شعار أميركا أولاً هزت أعمدة تليد العلاقات الأميركية الأوروبية، لاسيما وأنه قد جلب معه كافة ما خصتها بها حملته الانتخابية الصاخبة من رياح مقلقة. اعتبر الناتو غير ذي جدوى، وطالب حلفاءه بالدفع مقابل حمايتهم، ورحب بخروج بريطانيا من اتحادهم، ولم يكتم كون صيغته أصلاً لا تعجبه. بيد أن كيل الأوروبيين قد طفح، ونقصد بهم دائماً الاتحاد مستثنين بالطبع بريطانيا، التي أسواء أيام كانت فيه أو بعدما باتت خارجه تظل اللصيقةً بالولايات المتحدة والمتحدة والمتناغمة مع سياساتها، طفح جراء ما كان لهم منه إبان قمة السبعة الكبار في تاورمينا وقمة الناتو في بروكسل.
في الأولى، لم يتفق المؤتمرون حول كل ما حضَّروه سلفاً ليتفقوا مع ترامب عليه، إلا على مسألة واحدة وهي “محاربة الإرهاب”. لم يتفقوا حول قضايا كانت من الأولويات لهم، كالتبادل التجاري، والهجرة، أو منع تنصله، الذي تم لاحقاً، من وثيقة باريس للتغيير المناخي. وفي الثانية، لم يغيِّر ترامب أو يبدِّل من مواقفه الانتخابية من الناتو، أو حكاية “الدفع أولاً” الأثيرة لديه…وفي الحالين، قمة تاورمينا وقمة بروكسل، عامل حلفائه الأوروبيين بفجاجة واستعلائية لم يعتادوا أن يلقوا مثلهما من الحليف الأكبر واللتين بلغتا حد التوبيخ، وغادرهم في حال من ازدادت لديهم صعوبة فهم سياساته، أو توقُّع ما قد يفاجئهم به، وبالتالي في حال لم يستطيعوا فيها كظم غيظهم وليس مجرَّد قلقهم.
احباط الأوروبيين بعيد قمتيهم مع ترامب كان وراء انتقاداتهم التي لاحقته مودِّعةً وهو يقفل عائداً إلى بلاده. لم تشذ عن كيلها له سوى الحركات والأحزاب الأكثر يمينية، المتطرفة أشادت بمواقفه والمتشددة لاذت بالصمت. حيث طرح الأوروبيون على أنفسهم سؤالا بدأ يقض مضاجعهم، وهو هل تغيَّرت القواعد التليدة المتوافق عليها منذ نهاية الحرب الكونية الثانية بين ضفتي الأطلسي؟! وكان الألمان هم أشد المنتقدين وأعلاهم صوتاً وأكثرهم غضباً، وأيضاً، الذين يبدوا أنهم باتوا يتجهزون لشغر الدور القيادي الذي بات عرضةً للهجر، ذلك كان في قول المستشارة أنجيلا ميركل: “علينا نحن الأوروبيين أن نجعل قدرنا بأيدينا”، وكان وزير خارجيتها قد عبر عن هذا الإحباط بعبارةٍ جامعة مانعة، حين قال: “إن الغرب بات أصغر الآن”!
على ضوء اضطراب مصالح الأوروبيين في ميزان التحولات الكونية المتسارعة، وحيرتهم بين مغريات بوتن الملوِّحة لهم بجزرة اوراسيا ووعود انبعاث طريق الحرير التي بات الصينيون ينفخون صبح مساء في سورها، وبين تليد وشائجهم التي اعتادوا على أنها لا تنفصم مع الضفة الأطلسية الأخرى، حيث تعيش الأمبراطورية قلق التراجع وأعراض سن اليأس، ما الذي سيحدث للزواج الكاثوليكي الأميركي الأوروبي، الطلاق المتدرِّج أم المساكنة النكدة؟!
لعله سؤال لا تقوى أوروبا في المديين القريب والمتوسط الإجابة عليه، وحتى ذلك الحين لا من خيار أسهل عليها من القبول بنكد المساكنة!!