اوروبا وترامب…و”اميركا أولاً” – عبداللطيف مهنا
لم يهبط ترامب في البيت الأبيض من المرّيخ. اميركا حملته للمكتب البيضاوي وسلَّمته عنانها. الإمبراطورية في سن اليأس، التحوُّلات الكونية المتسارعة، تهتُّك سطوة آحادية القطبية، عنصرية احفاد المؤسسين البيض المعتَّقة اخرجها من مكامنها رعبها من التحوُّل الديمغرافي لصالح الملوَّنين واللآتين والمنحدرين من شتى أقوام الأرض، فعل العولمة الأميركية الأصل والتي اتاحت للشركات الأميركية النهمة الرحيل بمصانعها إلى حيث استغلال الأيدي الرخيصة في بلاد الله الواسعة تاركةً خلفها البطالة في دنيا “حزام الصدأ”، كلها أمور تضافرت للإتيان برافع شعار “اميركا أولاً” والمعبِّر عنه بفجاجته المميزة في سياساته اليومية والاستراتيجية.
ترامب ليس بالغبي ولا الأهوج أو المتهوِّر، ولا الجاهل بالعالم من حوله، أو من لا يمتلك رؤيةً استراتيجيةً، كما يحلو للبعض نعته، وتبسيط زائد هو توصيف حلفائه له بأنه ذاك الذي يصعب التنبوء بخطواته وعودته عنها. هو يعني ما يقول لأنه ليس بظاهرة عابرة، وإنما تعبِّر عن شريحة، بل كتلة صماء من الأميركيين تعادل ثلثهم، وهو عندما يغرِّد بعجائبه في “تويتر” يوجِّه رسائله لهؤلاء أولاً قبل اميركا، ولأميركا قبل حلفائها، ومن بعد لباقي العالم.
لأنه كذلك، ربما السر في أن اميركا الراهن قد اختارته سمسار عقارات، ولأن هذه هي خلفيته المهنية، فالسياسة عنده صفقات، ولا يرى العالم إلا من خلال دولار، وعبر هذه الرؤيا يرى مصالح بلاده، وبها يقيس علاقاتها بالعالم بمن فيه، أصدقاء وحلفاء وتابعين واعداء، والأهم أنه ليس في وارد التسليم بتراجع السطوة الأميركية الكونية ولا الهيمنة الاقتصادية على العالم ويكابر لمنع هذا التراجع.
الذي يعنينا في هذه العجالة هو التطرُّق إلى أثر هذه ال”اميركا أولاً” على علاقات الولايات المتحدة بالعالم وارتداداته عليها. مفارقة الجموح الجامع بين الانكفائية والعزلة في صورتها الحمائية والتشبُّث باستمرارية الهيمنة على قرار واقتصاد العالم، بمعنى وقف بوادر الانحدار الإمبراطوري. لكن قبله، لا بد من الإشارة إلى ثابتة أميركية ربما كان ترامب الأشد اخلاصاً لها من اسلافه، وهي النظرة الأميركية التليدة لدولة الكيان الغاصب في فلسطين باعتبارها امتداداً عضوياً للولايات المتحدة، لا سيما وقد اختلقت استيطانياً وعلى صورتها، أي بحلول المستعمرين محل أهل البلاد الأصليين وقيامها على جماجمهم…لذا أوكل أمر “صفقة القرن”، أو تصفية القضية الفلسطينية، لفريق من ادارته هو يهودي وصهيوني بالكامل يرأسه صهره كوشنر، كما يفسِّر كون مواقف ادارته المتعلّقة نتنياهوية بكاملها، أو كأنما هو عضو في حزب “إسرائيل بيتنا”!
فيما يتعلق بالأعداء، هدد الكوريين الشماليين، قبل انفراجة القمة المزمعة مع زعيمها كيم ايل اون، بسلاحه النووي، وانسحب من الاتفاق النووي الإيراني. ووصفت استراتيجية الأمن القومي الأميركي المعلنة الصين وروسيا ب”قوتين غريمتين…تسعيان للنيل من نفوذ وقيم وثروة اميركا”. أما بالنسبة للأصدقاء والحلفاء، فهو يتعامل مع جارته المكسيك باستعلاء فج، وقلب ظهر المجن لجارته كندا، وعليهما وعلى أوروبا فرض ضريبة ال25% على واردات بلاده من الصلب و10% على الألمينيوم، ناهيك عن وصفه لحلف الأطلسي، الناتو، بالعديم الجدوى والفعالية ومطالبته للأوروبيين بالدفع مقابل الحماية، وإذ هو خرج من اتفاقية المناخ فاغضبهم، جاءت الحمائية تنذر بحرب اقتصادية معهم، واكتملت بتوعُّد شركاتهم بالعقوبات إذا استمرت بالعمل في إيران…أما بالنسبة للعرب فهو لا يرى في أصدقائه منهم سوى حقل صالح للابتزاز!
من شأن هكذا سياسة بداية أن تدفع كل من الصين وروسيا إلى التقارب الأكثر، والذي إن هو لا يصل حد التحالف فسيكون دونه بقليل، والمؤكد هو التوجّه نحو تعزيز شراكتهما الاستراتيجية القائمة لتأمين نفسيهما من نذر حرب اقتصادية تلوح وتصر خطواته على اشعال فتائلها، والتعاون وزيادة التنسيق معاً ومع غيرهما لدفن آحادية القطبية وتكريس عالم متعدد القطبيات مكانها. واوروبياً، وإذ يقول ماكرون، إنه “لا يمكن التفكير بأمن أوروبا من دون الولايات المتحدة”، فإن القارة العجوز، أما وقد اهتزت الثقة بين ضفتي الأطلسي إلى ابعد حد لم يكن ليتخيله أحد فيها مسبقاً، وشاءت أم أبت، لسوف تدفعها مصالحها التي تتهددها حمائية وسياسات ترامب إلى التفكير منفردةً في أمنها، وأن يراجع ماكرون مقولته هذه مكرهاً.
ليس من السهل على أوروبا مغادرة الخيمة الأميركية على المدى المنظور، وستحاول جهدها دون نجاح يؤمل الضغط لضبط البوصلة الأميركية، لكن الضرر الذي ستأتيها به حمائية ترامب، ومردود عقوباته على روسيا وإيران، أو أثره على شركاتها، وتداعيات ذلك على وحدتها، أمر ليس بمقدورها احتماله. أول الغيث هو التغيير الوزاري الإيطالي الذي جلب المناكفين لبروكسل والرفضين للعقوبات على روسيا…هل باتت اوروبا موضوعياً وجهاً لوجه أمام مغريات الخيار الأوروآسيوي؟!
…يتصرف ترامب وكأنما الصينيين لا يغطّون عجز ميزانيته بترليون وثمانمائة مليون دولار قروضاً أو سندات، وأن الكوريين الشماليين، الذين اصبح زعيمهم نجماً حينما بات نداً لترامب، لا يراقبون هم والإيرانيون التحولات الكونية ولا يدركون بوادر الضعف في الامبراطورية الآفلة…لن يسلِّمه الكوريون سلاحهم، ولن يخضع الإيرانيون لابتزازه، وسيزيد الروس من تلويحهم للأوروبيين بالفضاء الأوروآسيوي.