باقة ورد مرمية على العتبة – قصة: رشاد أبوشاور
لم أعد أحتمل!
قلت هذا لنفسي وأنا اقف أمام المرآة متأملا تجاعيد وجهي، ثم استدرت وارتميت على الصوفا متكئا على وسادة وضعتها على ذراعها الخشبي.
لا، لم أعد أحتمل. يجب أن أراها وأصارحها بما احتفظت به في صدري من مشاعر انهكت قلبي على مدى سنين.
عدت إلى المرآة وكشطت الشعر عن صفحتي وجهي، ومسّدته بأصابعي المرتعشة متحسسا النعومة رغم التجاعيد.
ارتديت بدلتي الزرقاء الخفيفة الزرقة، والتي زادها الزمن بهوتا رغم قلة ارتدائي لها سوى في المناسبات، وقميصي السُكري- لا أحب القمصان الفاقعة البياض- ثٌمّ عدت للمرآة وتأملت قيافتي، وهززت رأسي القليلة الشعر مبديا الرضى.
لا صور على جدران الصالون، ولا في غرفة النوم، فلا أُسرة تخلّف الحسرات، ومن أردتها لي زوجة، وأُما لمن سننجب راحت لغيري، ولكن ها هي الفرصة تأتي لتمنحنا لقاء حرمنا منه، بعد رحيل زوجها!
علمت أنها تعيش وحدها، وها أنا عيش وحدي. هي لم تعش وحدها لأنها تزوجت، ولكنها تعيش حاليا وحدها، فهي تزوجت ممّن أنجبت منه ابنتيها وابنيها،الذين تفرّقوا قبل وفاة زوجها..الذي لم أُطق يوما رؤية وجهه، ولم أغفر له أخذها مني أثناء غيابي لاستكمال دراستي.
وقفت عند زاوية الشارع منتظرا خروجها، وبعد وقت طال رأيتها تخرج من مدخل البناية التي كانت تقيم في دورها الأول مع زوجها الراحل- لا أريد أن أترحم عليه، فقد كسر قلبي- بدت حزينة وأميل للبدانة، وتغطي رأسها بمنديل أسود، وترتدي فستانا أزرق ناعم الزرقة، لتوحي بأنها في حالة حداد، فخفق قلبي، وخشيت السقوط على الرصيف، فاستندت على الجدار.
اتجهت صوب الفرن القريب، ورأيتها تتناول رغيفين، ثم استدارت..ومشت بخطى بطيئة.
شجعت نفسي، ولمتها: تلكأت كثيرا، وأضعت سنوات..وأضعتها. ما زلت قويا تستطيع المشي، وخدمة نفسك، وأنت تشعر بالحاجة لأحد يؤنس وحدتك،لها هي تحديدا، بعدما تقاعدت من مهنة التدريس التي مللتها، وهي ترملت، وها هي قد تقاعدت مثلك، وتعيش وحدها بعد رحيل ذلك الشخص، فماذا تنتظر؟!
أنا أعرف بيتها، والحي، وشباك شقتها، والدكان الذي تشتري منه حاجياتها، والفرن الذي تتردد عليه لأخذ بعض الأرغفة، وخروجها مساء للتمشي على رصيف الشارع من أوله إلى آخره. أعرف نظراتها الحنونة للأطفال، ووقفاتها أحيانا وعقدها لذراعيها وكأنها تنتظر أحدا تأخر في الحضور.
درت على رصيف الدوّار، وباقة الورد لصق صدري، وفوح عطرها ينعش روحي، ويلهمني كلمات لم تخطر ببالي…
اندفعت حتى كادت سيارة، رغم أنها مبطئة، أن تدهسني وأنا أعبر مسرعا، وسمعت صوتا يرتفع ورائي:
-يعمي بصرك..
أُرتج علي وأنا أمد الباقة بيدين راجفتين وأنا أحدّق في وجهها. لهاثي يتصاعد، وفمي مفتوح بلا كلام. حين رفعت وجهها خفت خوفا لم أفهمه، خوفا مثل خوفي يوم اقتربت منها وهي في طريق العودة من المدرسة الثانوية بعد انتهاء دوامها. كانت معلمة..وأنا كنت معلما، ومدرستانا قريبتين.
يومها همست بغضب:
-ألا ترى الأولاد والبنات حولنا؟ أتريد أن تفضحنا؟!
أحبطت، وابتعدت منكسر النفس.
مرّات تنبهت لنظرة سريعة منها احترت إن كانت ساخرة زاجرة أم مشجعة، نظرة اربكتني و..أرعبتني، وحرمتني من البوح بمشاعري!
فجأة استيقظت على صوتها، وباقة الورد ترتجف بين يدي:
– تريد أن تفضحنا! ألا ترى الناس حولنا؟ تأتي بالورد بعد ست وثلاثين سنة وأربعة أيام؟ أهذا هو الحب؟ سنوات وأنت تتلكأ حتى. اضطررت للزواج من..والآن؟
رقّ صوتها:
-والآن ، ماذا تريد؟!
بصوت واهن راجف همست:
-أن نعيش معا.
وهي تتأمل وجهي، وتغضناته، وشيبه:
-بل تريد أن نموت معا،أهذا ما جئت من أجله؟!
تبعتها واهن الخطوات لاهثا.
أدخلت المفتاح في الباب، وأولتني ظهرها، وبعدما سمعت صوت المفتاح في الباب من الداخل..
انحنيت، ومددت الباقة أمام الباب، وكأنني أضعها على ضريح…