بالون أبو مرزوق يؤتي أكله – عبد الرحمن شهاب / مدير مركز أطلس
عندما اضطر الرئيس ياسر عرفات – رحمه الله – إلى التصريح بأن الميثاق الوطني الفلسطيني مناقض لما سيذهب اليه، ذهب بعيداً عن العرب وعن السياسيين، وهناك توارى خجلاً من اللغة العربية وأعلن عن تقادم الميثاق مستخدماً مفردة فرنسية “كادوك”، وعندما أراد الغاءه في غزة اضطر الى ان يجمع ويجند أعضاء مجلس وطني مقربين من جميع الأطياف السياسية، رغم كل التوقعات التي كانت تشير الى ان منظمة التحرير قد اختارت خيار المفاوضات، وكل بالونات بسام أبو شريف الناطقة عن حال ياسر عرفات، والتي هيأت الأجواء لاستيعاب التوجه الجديد، والتي كان لها صدىً استنكارياً من قبل السياسيين والمثقفين الفلسطينيين وجبهات الرفض والتيارات التي تقف بالمرصاد لكل من خالفها، وكان السياسيون الفلسطينيون وقيادة المنظمة يضطرون للتنصل من أي علاقة بهذا البالون رغم علمانية مشروع منظمة التحرير الفلسطينية التي لا ترى بعداً عقائدياً للتعامل مع قضية فلسطين، ولا تتعامل بالفتاوى الشرعية في السياسة.
في المقابل؛ فقد طالعنا الدكتور موسى أبو مرزوق بتاريخ 11/9 بتصريح مفاجئ ومهم، ليس من المهم الخوض في الرسائل المقصودة من وراء هذا التصريح، ولكن المهم انه تحدث بلسان عربي مبين عما أسماه بـ “كسر الطابو”، ومن هنا فلا يمكن ان نتهم صحفياً بتغيير المحتوى، فقد كان تصريحاً متلفزاً لقناة ليست معادية ولا متربصة لحماس.
الأمر المثير والغريب، انه لم يكن هناك ردود أفعال سوى الرد الرسمي لحماس، أما المثقفين والصحفيين السياسيين وأشباههم في هذا الوطن لم يقفوا كثيراً على هذا البالون الكبير، والذي هو بمثابة “الضربة في البرج الضخم”، سوى استثناءات قليلة، أغلبها على الشبكات الاجتماعية، والتي لا تخلو من المناكفات الحزبية.
أقول وبصراحة للإعلام الفلسطيني الذي يعطل يوم السبت بسبب عدم وجود مواد للأخبار لأن مصادر أخبارهم تعتمد على ردود فعل العدو، فلا ردود فعل ثقافية وسياسية لدينا، لأننا نكتب فكرنا وسياستنا وانتصاراتنا وهزائمنا بناءً على ما يقول العدو، وكتعبير عن رد فعل للاحتلال، إن تفسيري لعدم أخذ تصريح أبو مرزوق حقه من المعالجة الصحفية والفكرية يعود لأسباب منها:
أولاً: اعتاد السياسيون الفلسطينيون أن يقدموا تصريحاتهم المهمة للصحافيين (الإسرائيليين)، لأن ذلك بالنسبة لهم أجدى وأسرع للنشر، وأوثق في ايصال الرسالة لصانع السياسة (الاسرائيلية).
ثانياً: وبناءً على أولاً، فإن الصحافيين الفلسطينيين تعودوا ان يسمعوا التصريحات الفلسطينية المهمة من قبل الصحافة (الاسرائيلية)، واللافت هنا ان الصحافة (الاسرائيلية) تعمدت تجاهل تصريح أبو مرزوق، وكأن حماس لم تقدم شيئاً يستحق الذكر، ومن هنا فإن لا وعي الصحافي الفلسطيني أعطى أوامره للوعي الاعلامي ان هذا الخبر لا يستحق الوقوف عليه، لأنه لو كان مهماً لاستفادت منه الصحافة (الاسرائيلية).
ثالثاً: المتابعون من الكتاب والمثقفين الحقيقيين في الوطن العربي والإسلامي، والذين لهم رؤيا عميقة في دراسة الواقع الاقليمي والدولي، وهؤلاء قلة في هذا الزمن، ربما يكونوا قد اعتبروا هذا التصريح هو أمر بسيط مقارنة بما هو قادم، وسياق طبيعي تسير فيه الحركات التي ترفع شعارات أيديولوجية كبيرة وفي نفس الوقت تطمح لأن يكون لها نصيب من الواقع، وبذا تصطدم الأيديولوجيا بالواقع.
رابعاً: الكثير من الكتاب والصحفيين والسياسيين لم يقفوا أمام هذا التصريح لا مهنئين بنضج لدى حركة حماس، ولا متهمين اياها بالتراجع والنكوص، لأن جزءاً منهم لديه حيرة في فهم ملامح المرحلة القادمة للانسجام وتكييف ذاته معها، فهل مثلاً ستبقى حماس تحكم غزة فيسارع بتقديم التهنئة للفريق الذي سيفاوض (إسرائيل) لاحقاً، أم يستنكر ذلك لأن حماس لم تصل الى تلك النقطة، أم ان حماس ستترك الحكم في غزة، وعليه بالتالي ان يقلل من كتاباته كي يسهل عليه القفز من السفينة حسب اتجاهات الريح؛ بمعنى انها مرحلة تعقد على المتابعين تحديد الوجه واتخاذ موقف.
خامساً: الأخطر من كل ذلك هو العقل الجمعي المجتمعي وموقفه، والذي هو الأهم من كل ما سبق؛ فبالنسبة لهذا العقل، فإن أبو مرزوق قد لامس فؤاده ولامس مصالحه الحقيقية عندما تحدث عن المفاوضات مع (إسرائيل) لشعب مكلوم ومرهق، وقبل ان يتوقف نزيف الدم فإن هذا الشعب يفكر بمستويين: مستوى قريب، ومستوى بعيد.
– المستوى القريب: إن هذا الشعب آثر السكوت عن هذا التصريح وتمنى بصمت ذهاب حماس للمفاوضات، لأنها تحقق له هدفين:
الهدف الأول: لم يعد هناك أحد أفضل من أحد، فحماس والمنظمة جميعهم كتبوا أفكاراً ومواثيق حزبية، تطالب بكل فلسطين، وكلهم قدموا البطولات، وكلهم تراجعوا عن ذلك، وكلهم فاوضوا في النهاية، وكلهم في النهاية سيجنبوننا الحرب وقد تعود العلاقة مع الاحتلال الى بداية الثمانينات، وحتى من تعذر عليه تجاوز الفقه والفتاوى، اعتبر ذلك ممكناً من أجل التقاط الأنفاس.
الهدف الثاني: التقارب الحمساوي تجاه المفاوضات مع (اسرائيل) قد يجعلها تتقارب سياسياً من المنظمة، وهذا الأمر بشكل من الأشكال قد يوحد النظام السياسي الفلسطيني.
– المستوى البعيد: إذا كان هناك تغيراً في العقل الجماعي بهذا القدر من إعادة التشكل؛ فإن الكفيل بإعادة العقل الى سابقه هو فقط الاحتلال، فعندما تتوفر لقمة العيش والمسكن والملبس للشعوب، فإنها – أي الشعوب – تتحول للبحث عن الحرية، وأول من تطالبه بالحرية هو من أعادهم من البحث عن الحرية الى البحث عن الخلاص الفردي ولقمة العيش، وأول من تحاسبهم الشعوب هم المثقفين عندما تنزع منهم الثقة وقد تكون هذه المحاسبة أثناء بحثها عن الخلاص الفردي فتستمع إلى ما يقوله المثقفين وتكذبهم، ولكن تقول في خاطرها لا بد من انتفاضة ثقافية ثالثة.
بالون أبو مرزوق يؤتي أكله – بقلم: عبد الرحمن شهاب / مدير مركز أطلس