بحثاً عن القضية المقدسة في “حروب” العرب على عروبتهم!
طلال سلمان :
اختفت فلسطين أو هي تكاد تختفي من جدول أعمال ما تبقى من دول عربية، وهي لم تعد كثيرة في أي حال.
.. واختفت أخبار النضال الفلسطيني عن الصفحات الأولى للصحف ومقدمات أخبار التلفزيون، ولم تتبقَّ إلا أخبار باهتة عن أنشطة رئيس “السلطة”، وهي بمجملها زيارات أو لقاءات ثانوية مهمتها تذكيرية… وبالمقابل صار استذكار غزة نادراً، ولا يرد إلا عند زيارة أحد المسؤولين الغربيين بالضرورة، لأن لا زوار عرباً لهذا القطاع المنكوب.
صار عند العرب، في مختلف أقطارهم، ما يشغلهم عن فلسطين وقضيتها التي كانت مقدسة..
[ فسوريا غارقة في دمائها نتيجة الحرب فيها وعليها… وقد نال اللاجئون الفلسطينيون إلى سوريا بعض ما نال أشقاءهم السوريين من قتل وحصار وتجويع ونزوح إجباري بعد اجتياح بعض المخيمات من حول دمشق ومناطق أخرى، وقد جاءت نسبة كبيرة من هؤلاء الذين يجبرون على النزوح للمرة الثالثة إلى لبنان الذي يعاني اللاجئون الفلسطينيون فيه من ضيق أبواب الرزق، خصوصاً مع إقفال معظم مجالات العمل أمامهم، وبالذات أمام متخرجي الجامعات، بذريعة منعهم من منافسة المتخرجين اللبنانيين الذين “يهجّون” إلى أنحاء عديدة بحثاً عن فرصة عمل.
ولعل النازحين السوريين في الداخل أو إلى الخارج يزيدون أضعافاً مضاعفة عن اللاجئين الفلسطينيين.
[ أما العراق فمشطر بالفتنة من قبل أن تقتحم ثلث مساحته أو يزيد جحافل “داعش” عبر حدوده مع تركيا كما عبر الصحراء الممتدة بينه وبين سوريا التي اتخذ هذا التنظيم الإرهابي من مدينة الرقة فيها “عاصمة” له وأخضعها لشريعته ثم تقدم شمالاً في اتجاه حلب وجنوباً في اتجاه تدمر.
[ وأما تونس فما إن تخرج من آثار جريمة إرهابية حتى تدهمها عملية داعشية جديدة، فضلاً عن تسرب نسبة ملحوظة من شبابها للالتحاق بتنظيم داعش والقتال ضمن صفوفه في كل من سوريا والعراق..
[ وأما ليبيا التي فقدت دولتها التي لم تكن دولة في أي يوم، فهي ممزقة الجنبات، والقتل فعل يومي يتوسع حتى يكاد يشمل مختلف أنحائها شرقاً وغرباً ووسطاً وجنوباً وهو الذي بات يشكل معبراً للداعشيين القاصدين الساحل… ربما للوصول إلى أوروبا.
[ وآخر ما استجد هذه الغضبة السعودية على اليمن مقطع الأوصال بالجوع والانقسامات، إلى حد الحرب، ومعها المجلس المذهب للتعاون الخليجي.
أما دولة العدو الإسرائيلي فلم تكن يوماً مطمئنة إلى يومها، وربما إلى غدها، اطمئنانها في هذه اللحظة… فالفلسطينيون مشغولون بانقساماتهم المتوالدة من ذاتها وأخطرها التي بين “السلطة” في رام الله وبين “حماس” التي تكاد تكون سلطة موازية في غزة التي تعيش هذه الأيام ذكرى السنة الأولى على الحرب (الإسرائيلية) الرابعة أو الخامسة أو السادسة على هذا “القطاع” المعزول عن سائر فلسطين بالحواجز (الإسرائيلية) والمحاصر براً وبحراً وجواً… وقد زاد من حدة أزمته خصام القاهرة مع “حماس” نتيجة الاشتباك بين النظام المصري و “إخوان مصر”، وهو قد تطور عنفاً إلى ما يشبه “الحرب المفتوحة” سياسياً وأمنياً. وكنتيجة لرفض النظام الفصل بين “إخوان مصر” و”إخوان فلسطين” وغزة منها بالذات، فإنه يمتنع ـ حتى هذه اللحظة ـ عن فك الحصار على غزة وفتح المعابر ليتمكن أهالي هذا القطاع من ممارسة الحد الأدنى من الحياة الطبيعية.
ربما بدافع اليأس من الذات، فضلاً عن اليأس من “العرب” تستسلم “السلطة” في رام الله للأمر الواقع، فتغدو أشبه ببلدية موسعة، تلتزم بتنفيذ قرار الاحتلال (الإسرائيلي) الذي يستطيع خنقها في أي لحظة، بينما هي تبحث عن تأمين الرواتب والنفقات الشهرية لموظفيها المدنيين كما رجال الشرطة والأجهزة الأمنية، وتحاشي الاصطدام بالمحتل.
لقد نسي العالم إلا بعضه الألماني مأساة غزة المهدمة بيوتها ومؤسساتها الفقيرة وصولاً إلى المساجد والمستشفيات والمستوصفات… وهي لا تزال، في العديد من الأنحاء، ركاماً ينتظر من يرفعه ويعيد البناء. لكن أغنياء العرب، لا سيما في السعودية والخليج بما في ذلك قطر التي فتحت خزينتها ذات حرب مضت على هذا “القطاع” وجاء شيخها حمد والسيدة عقيلته موزا، فجالا فيها وقدما تبرعات سخية لإعادة الإعمار. أما في ظل الشيخ تميم فلا زيارة ولا تبرعات وإن استمرت قناة “الجزيرة” تواصل الدعم الإعلامي المفتوح!
إن الدول العربية الفقيرة أو المفقرة، كمصر وسوريا وتونس والمغرب واليمن ولبنان، تبحث عمّن يساعدها. ولا تمكنها ظروفها الحالية وقدراتها المحدودة على تقديم مساعدات مؤثرة تسهم في “نجدة” فلسطين… حتى البيانات السياسية، بغض النظر عن جدواها، لا وقت لها الآن.
على أن ما يقلق أن “السلطة” تأخذ عن النظام العربي بعض أسوأ ما فيه، ومن ذلك التركيز على شخص “السيد الرئيس” الذي لا يكف عن تحقيق الإنجازات، والذي لا يخجل تواضعه أن ترفع صورته خلفه مباشرة في أي احتفال أو في حتى اجتماعات مجلس الوزراء.. متقمصاً دور القائد الراحل ياسر عرفات.
كذلك فقد تجدد الصراع الذي لم يتوقف أصلاً بين “السلطة” و “حماس”، فشهدت مدن الضفة وقراها اعتقالات واسعة النطاق لكادرات “حماس” الذين يعاملون وكأنهم “اختراق” لأمن السلطة وتهديد لسيطرتها..
لكن هذا الجو المقبض لا يعني أن النضال الفلسطيني قد توقف، إذ لا يكاد يمر يوم إلا وتشهد أنحاء الضفة بما في ذلك القدس عمليات فدائية بالمتيسر من الإمكانات وأدوات الصراع اليدوي (الحجر والخنجر ومهاجمة رجال الشرطة وزرع متفجرات بدائية في بعض وسائل النقل إلخ).. فضلاً عن الاشتباكات المنتظمة كل يوم جمعة أمام المسجد الأقصى في القدس، وإضرابات الجوع في السجون.
بالمقابل، فإن ضغوط المؤسسات الصهيونية داخل الولايات المتحدة الأميركية قد بلغت ذروتها بعد الزيارة الأخيرة لرئيس الحكومة (الإسرائيلية) نتنياهو إلى واشنطن، والتي لا هو طلب ولا الرئيس الأميركي أوباما سعى إلى اللقاء معه، بل لعله قد واجه “تظاهرة الغضب (الإسرائيلي)” بموقف أثبت فيه الحرص على كرامة “الرئاسة” موجهاً أعنف نقد صدر عن رئيس أميركي لمسؤول (إسرائيلي) في مستوى رئيس الحكومة.
وبالطبع فإن لقاءات المسؤولين العرب، جماعية كالوفد الملكي الخليجي، أو انفرادية، في واشنطن، لم تعد تتطرق إلى القضية الفلسطينية، إلا لماماً ومن باب دغدغة الرأي العام العربي، بأن فلسطين لا تزال في البال.
ومن الصعب أن يتذكر المواطن العربي، داخل فلسطين أو خارجها، متى استمع من مسؤول عربي إلى تصريح له معنى أو بيان يستذكر ثوابت “القضية المقدسة” التي شكلت لفترة طويلة مصدراً لتعظيم شأن المسؤول العربي أو شهادة بوطنيته فضلاً عن عروبته.
صحيح أن كل شعب عربي مثقل بهمومه الداخلية التي فاقمها تمدد الإرهاب إلى مختلف الأقطار، مشرقاً ومغرباً، معززاً الآن فضلاً عن الشعار الإسلامي بجيوش الخلافة التي توفرت لها مصادر مهمة للاقتحام، ثم توفرت لها مصادر أعظم بعد السيطرة على مصادر الثروة في أكثر من بلد عربي (النفط والغاز من بعض أنحاء العراق وسوريا).. مع وجود من يشتري هذه “البضاعة” لنفسه أو لتمريرها إلى (إسرائيل)، وفي الحالين لعبت تركيا دور “التاجر اليهودي” الذي يربح في الشراء ثم يربح في البيع! هذا من دون أن نغفل الإشارة إلى إعادة إحياء المطامع التركية التاريخية في بعض العراق (محافظة الموصل) كما في بعض سوريا، لا سيما شمالها… وقد جاء الاستعراض العسكري الذي جرى تعميم صوره مؤخراً تحت ذريعة أن تركيا تعزز قواتها عند حدودها الجنوبية مع سوريا حماية للأمن التركي من “تطورات محتملة قد تستدعي تدخلاً تركياً عسكرياً لدرء مخاطر انهيار النظام السوري على أمن تركيا”.
… ومعروف أن بعض الأقوى من تشكيلات المعارضة السورية تحظى بدعم تركي مفتوح، يشمل إضافة إلى السلاح والعتاد الحربي، فتح الحدود لنقل الجرحى، وتحرك القيادات وتنظيم اللقاءات بين الفصائل المختلفة في محاولة لتوحيدها في القتال ضد النظام السوري.
من سيتذكر العدو الإسرائيلي والقضية الفلسطينية وسط هذا الخضم من المآسي القومية المفتوحة على مدى المساحة بين المحيط والخليج؟!
ومن سيتنبه إلى الدور (الإسرائيلي) المشارك في هذه الحرب المفتوحة في عدد من أهم الدول العربية، والذي باتت له مواقع نفوذ معلنة داخل بعض البلاد العربية (أربيل العراق، مثلاً)، وداخل العديد من فصائل المعارضات المختلفة.
وهل يمكن تجاهل حقيقة أن ثمة تبادل منافع بين العدو (الإسرائيلي) وبعض المعارضات المسلحة التي تعمل تخريباً في أكثر من بلد عربي، وصولاً إلى الحركة الواسعة لداعش في الأرض العربية المفتوحة.. وثمة شواهد لا يمكن إنكارها على تغلغل المخابرات (الإسرائيلية) عبر الأردن داخل العراق، أقله داخل بعض التنظيمات الطائفية والمذهبية، والتي يمكن أن تتخذ شكل “تجار السلاح” أو “خبراء العلاقات العامة والتواصل مع بعض الجهات الدولية لدعم المطالب.”.. كما هناك اختراقات إسرائيلية لبعض المعارضات السورية التي استولدت قيصرياً، وبالطلب!
إن كثيراً من الجهد العربي الذي كان مكرساً لخدمة القضية الفلسطينية، ولو بحدود، قد تبعثر أو تلاشى في غمرة انشغال كل نظام عربي بحربه الداخلية المفتوحة.
ومن البديهي أن تكون (إسرائيل) المستفيد الأكبر من هذا الوضع الطارئ الذي قد يطول أمده، سواء في تثبيت دور لها في ما يتجاوز فلسطين إلى دول عربية نازفة وقد ضاع فيها مركز القرار، أو في تقديم نفسها في صورة الصديق المنقذ لبعض الأنظمة العربية، كما حاولت أن تفعل مع مصر، إثر الاشتباكات الدموية بين الجيش المصري ومقاتلي داعش في بعض أنحاء سيناء…
إن العرب جميعاً في مأزق، وهم يدفعون الثمن من حاضرهم ومن مستقبلهم، وفلسطين موجودة فيهما معاً.
رئيس تحرير جريدة السفير
تموز – يوليو 2015