بداية الحياة (أوسلويات)
من خزان الذاكرة النرويجية …
بقلم نضال حمد
هل تشرب القهوة سادة أم بالحليب؟
قبل أن أجيبها على سؤالها فكرت بيني وبين نفسي لماذا سألتني عن القهوة وليس عن الشاي؟
ترى أهي من جماعة شهود (يهوه ) أم من جماعة غرب أوسلو؟ …
ثم أنبت نفسي على شكوكي فالشك عادة شرق أوسطية ومشرقية وعربية وفلسطينية سيئة، لا تفارقنا أينما حطت رحالنا. لكنها لم تأتِ من فراغ، فهي استقرت فينا بسبب الظلم والقهر والعذاب الذي يلازمنا منذ ضاعت البلاد وتشتت العباد.
يقولون هنا أن أهل غرب أوسلو ومنطقتي( باروم) و (أسكر) المجاورتين، وحيث كان مطار (فيرنابو)، قبل أن تقفله الدولة وتفتح مطار (غارديمون) الجديد والبعيد عن العاصمة، يقال أنهم بورجوازيين و شايفين حالهم كثير …
لكن فتاة الفراولة والقهوة بالحليب لم تكن بلباسها ومظهرها تبدو من هذا الصنف من البشر، لا بل كانت تبدو أقرب الى جماعتي يهوه و بوذا.
قلت: أشربها بالحليب … هكذا أجبتها …
فكرمال تفاح أوسلو وفراولة النرويج، نعم اشرب القهوة بالحليب…
علني اصبح حلواً ولذيذا مثل ثمار البلد الجديد. …
كانت قهوتها مثل جسدها حارة وعكس الطقس البارد خارج منزلها الصغير، الخشبي الجميل، المطل على غابة صغيرة خضراء صارت بسبب تساقط الثلوج بيضاء ….
من شرفة المنزل يمكن لي التحدث مع الغزلان البريّة التي تقترب من المنازل والأكواخ القريبة المجاورة بحثاً عن الطعام. كما تفعل الشيء نفسه ولكن بشكل أقل الأيائل الضخمة.
كانت شقراء الشعر، بيضاء البشرة، زرقاء العينين، حمراء الخدين، منتفضة النهدين، وكنت وحدي في مواجهة كل هذا الجمال … وأنا فتى لا يعرف من الدنيا سوى المخيم والحب العذري وما شاهده في سينما جمال بعين الحلوة طفلا صغيرا وفي سينما الحمرا بصيدا فتى مراهقاً.
كل ما فيها غريب وأراه لأول مرة ولم تكن كمن رأيتهن في حياتي قبل أن أصل بلاد الثلج والعجائب.
يبدو انني كنت أفكر بما لم تكن هي تفكر به. أو أنها هي كانت تفكر بالذي أنا لم أكن أفكر به. وبين تفكيرها وتفكيري كانت الاحاديث تدور بيننا وكنا نرتشي القهوة هي بلا حليب وانا مع الحليب. وهي بلا حبيب وانا بعيدا عن الحبيب. وفي بلاد العجائب والغرائب قد يصل الغريب الى الغريب بطرق ملتوية او ببساطة وصول الغزلان والأيائل الى شرفات وعتبات المنازل في النرويج.
اقتربت مني ومدت يدها ووضعتها في يدي وسألتني وهي تنظر في بؤبؤ عيني:
أنت من بلد المسيح عيسى بن مريم؟
قلت نعم وفي بلدي يصلب المسيح كل يوم، وكلما حضر الملوك الثلاثة الى القدس وبيت لحم وجدوا جدارا عازلاً يمنعهم من الوصول الى درب الآلام. فدروب الآلام في بلدي أصبحت في كل مكان من أرضي المحتلة.
في بلدي لا يجد بابا نوال منفذاً كي يصل الى القدس وبيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور والبيرة ورام الله فحواجز أحفاد يهوشع مدمر أريحا الكنعانية، مدينة الحضارة وأول مدن التاريخ البشري، أحفاده الذين لم يستريحوا بعد عشرات السنين من استباحة واحتلال وسرقة وطني فلسطين. أحفاد رب السبيّ والبطش والموت والدمار والوحشية، يمنعون بابا نوال من إيصال هداياه لأطفال المسيح الفلسطيني.
كنت أتكلم دون أن أنظر اليها او في عينيها ولكني عندما رفعت رأسي واتجهت عيناي نحوها وجدتها غارقة في دمعها … مسحت دمعها عن خدها بمنديل وجدته على الطاولة. وضممتها الى صدري وقبلت رأسها وقلت لها: نحن هنا نشرب القهوة بالحليب فيما محتلي فلسطين يشربونها مع دمنا. لكن يا عزيزتي سوف يأتي اليوم الذي تعود فيه فلسطين بهية وحرة كما كانت وكما بلدك المحبوب.
نضال حمد 8-01-2018
كرك