بشير الجميّل وحقوق المسيحيين (المنزوعة) – أسعد أبو خليل
من فظائعِ النظام السياسي اللبناني، أن الحديث عن الحقوق السياسية يقترن دوماً وأبداً بحقوق الطوائف. أي أن ليس للمواطن (أو المواطنة) حقوق ما لم تنبعْ من انتمائه إلى طائفة ما. والطوائف ليست سواسية طبعاً، ما يعني أن الحقوق ــ خلافاً لوعود الدستور قبل «الطائف» وبعده ــ ليست متساوية. وفي الحديث عن حقوق الطوائف (لا المواطنين والمواطنات) درج النحيبُ والبكاء على حقوق المسيحيّين. وإذا كانت الدولة أو النظام كعكة، فتقسيمها وإعادة تقسيمها لا يمكن إلا أن يعودا على البعض بالنفع وعلى آخرين بالضرر، إذا ما جرى الاحتساب طائفياً.
وفي ذكرى تطبيق حكم الإعدام ببشير الجميّل (قائد ميليشيا إسرائيل في لبنان ومدير شبكة دعارة في بيروت الشرقية في زمن الحرب)، يكثر الحنين إلى مرحلة الجميّل. والخيال الطائفي خصبٌ للغاية في لبنان، ويمكن، بسبب ذلك، حياكة حوادث للتاريخ لم تجرِ قطّ، ويمكن أيضاً إعادة وصف حوادث بطريقة تتناقض مع ذاكرة الأحياء. ولأن تاريخ الجميّل مخضّبٌ بدماء الأبرياء (المسلمون اللبنانيون منهم كما المسيحيون اللبنانيون، بالإضافة إلى الفلسطينيين، لأن الذاكرة الانعزالية المصطنعة التي أطلقتها 14 آذار باتت تمحو كل مجازر الجميّل ضد الشيعة اللبنانيين والسنّة في بيروت الشرقية، بالإضافة إلى مجازره ضد رفاق سلاحه تحت عنوان «توحيد البندقية» على الطريقة الفاشية)، فإن أسطورةً اختُلِقت عن الأيام القليلة التي فصلت بين تنصيبه من قبل الاحتلال الإسرائيلي حتى يوم إعدامه على يد نبيل العلم وحبيب الشرتوني. الأيام القليلة (التي تزامنت مع أيام حرب أهلية واحتلال خارجي) أصبحت مثالاً في الديموقراطية وانضباط أجهزة الدولة. يتحدثون عن أن موظفي الدولة باتوا يداومون بانتظام بمجرّد تنصيب الجميّل في موقع الرئاسة، كأن هناك دراسة أجريت أو أن هناك دليلاً واحداً على أن الدولة اللبنانية البائسة تغيّرت في الأيام القليلة التي فصلت بين صعود الجميّل الرئاسي وهبوطه السريع تحت أنقاض مبنى في الأشرفية.
والكلام عن تجربة بشير يرافقها أيضاً كلام متخيّل عن لبنان ما قبل الحرب الأهلية. يقولون اليوم بحنين كثير إن الكتل النيابية كانت متصارعة، لكنها كانت متنوّعة الطوائف. هذا هراء. الكتل النيابية قبل الحرب الأهلية كانت تتمحور حول زعيم ماروني واحد، وكان هو ينتقي أفراداً من كل الطوائف في صف الأتباع والأعضاء والأزلام. «النهج» كان يلفّ حول فؤاد شهاب، وكان هو وحده يتخذ القرارات الصغيرة والكبيرة، وكان النواب والوزراء الشهابيّون يبحثون ويمحّصون في شأن إيماءة أو صفنة للجنرال (كما كان يفعل وزراء حكومة العدو في زمن بن غوريون). وكان الصراع قبل ذلك يتمحور بين الكتلة الدستورية (لبشارة الخوري) والكتلة الوطنية (لإميل إدّة). وكان المسلمون في الكتلتيْن «كومبارس» لا يتخذون القرارات، لكن ينعمون بمناصب ومغانم (مجتزأة) مقابل ولائهم للزعيم الماروني. أي إن السياسة العليا كانت حكراً على زعماء الموارنة فقط، وكانوا يحكمون باسم كل الشعب اللبناني. والسياسة الخارجية والدفاعية كانتا سرّ الأسرار، لا يدري بهما رئيس الحكومة المُعيَّن من قِبَل الرئيس (وكان الرئيس اللبناني يعيّن مندوباً خاصاً عنه للتواصل مع الحكومة الأميركية من دون علم رئيس الحكومة أو وزير الخارجية، كذلك فإن كل رؤساء ما قبل الحرب تواصلوا مع العدو). وعندما كان الرئيس يضيق ذرعاً برئيس الحكومة، أو عندما كان رئيس الحكومة يختلف جذرياً في أمر ما مع الرئيس، كان الرئيس سرعان ما يستبدل به آخر. ورغم أن اسم إميل إدّة كان مرتبطاً عند الكثير من المسلمين بالعداء للإسلام والتحالف الصفيق مع الصهيونية، فإن كتلته ضمّت مسلمين أيضاً. كان خير الدين الأحدب رئيس حكومة في عهد الانتداب بتعيين من إدّة، وكان وثيق الصلة بالصهاينة إلى درجة أنه طلب تلقّي تمويل صهيوني للمشاركة في الحملة ضد الحاج أمين الحسيني. وكانت المواقف السياسية بين الكتلتَين المتصارعتَين تتحدّد بناءً على مصالح الزعيمَين المارونيَّين لا بناءً على مبادئ يقتدي بها الزعماء. وحتى السبعينيات، كانت أدوار رؤساء المجالس والحكومات تتحدّد بأمر وإشراف مباشر من رئيس الجمهورية، الذي يقرّر وحده اسم الشخص المحظي. كان «النهج» يصرّ على اسم صبري حمادة، فيما أصرّ سليمان فرنجية على اسم كامل الأسعد لأنه انتمى إلى تكتّل «الوسط» الذي انتمى الاثنان (ومعهما صائب سلام) إليه قبل انتخابات الرئاسة في عام 1970. الأزمة صدّعت في جسم النظام في عام 1973، عندما فشل سليمان فرنجية في تعيين كومبارس مسلم (في شخص أمين الحافظ آنذاك) بعد استقالة مدوّية لصائب سلام الذي اتّهم زعماء الموارنة بتحويل رئيس الحكومة إلى «باش كاتب»، وتوحّد الزعمات الإسلامية التقليدية ضد تعيين خلف لسلام من دون اتفاق شامل.
لكن في الحديث عن تحجيم الدور المسيحي السياسي في لبنان قلّما يجري التطرّق إلى دور بشير الجميّل شخصياً في فقدان الطوائف المسيحية لدورها السياسي الفاعل في لبنان. صحيح أن عوامل كثيرة لحقت بوضع المسيحيين وثقلهم السياسي في لبنان، لكن بعض هذه الظروف لا علاقة للسلوك السياسي لزعماء الطوائف في لبنان بها. لقد عانى المسيحيون في لبنان (والمنطقة) من عاملَين ديموغرافيَّين: ١) غَمَرتْهم دول الغرب بعطفها في معاييرها الطائفية للهجرة وفتحت أبوابها أمامهم، واعتبرت المسيحيين في المنطقة (حتى في لبنان في نظام الهيمنة الطائفي الذي أمسك به زعماء الموارنة) مضطهدين يستحقّون اللجوء السياسي في ديار الغرب. هذه السياسة الصريحة في معيارها الطائفي بدأت قبل عهد دونالد ترمب بعقود، لكن الإدارات الأميركية لم تفصح عنها من قبل. عرض عليّ بعض المحامين هنا بعض طلبات اللجوء السياسي من قِبَل بعض المسيحيين في لبنان، وهي تضمّنت حكايات من الخيال (غير) العلمي، عن أن المسلمين في لبنان يطبّقون نظام أهل الذمّة عليهم (وبرغم رفضي لصدقية الطلبات وللعب دور الخبير المحلَّف لدى المحكمة في هذه القضايا، فإنها قلّما تُقابل بالرفض من قبل الحكومة). وهذا الحنان الغربي شجّعَ الهجرة المسيحية من بلادنا، وأنقص عدد المسيحيين في المشرق العربي كلّه. ٢) وتغيّرت موازين الديموغرافيا الطائفية بفعل نسب الخصوبة المترافقة مع نسب الفقر. مثل الكيان الصهيوني في فلسطين، تأسّست الدولة اللبنانية على أساس هيمنة طائفية صريحة للمسيحيين (كمسيحيين في التعداد الطائفي السياسي)، واستعان الاستعمار الفرنسي (ومَن آزره من الطبقة السياسية في لبنان) بإحصاء سكّاني شابَه الكثير من النواقص. دولة الاحتلال الصهيوني تعاملت مع الميزان الديموغرافي بالقوّة المحضة عبر طرد أكثرية الشعب الفلسطيني من أرضه ومنع عودته (بالقوة أيضاً) إلى أرضه. لم يستطع زعماء الموارنة أن يهجّروا مسلميه (مع أن طروحات دُرسَت في هذا الشأن، وارتبطت بإميل إدّة والكتلة الوطنية)، فاعتمدوا سياسة تجنيس المسيحيين الوافدين (أرمن وفلسطينيون وسوريون وأوروبيون لو شاؤوا) لزيادة العدد. الاعتراضات على الوجود الفلسطيني في لبنان لم تكن ــ مِن قِبَل زعماء الموارنة والكنيسة المارونيّة ــ إلا على المسلمين منهم، ويمكن إجراء إسقاطات على واقع اللاجئين السوريين في لبنان. كذلك تقصّدت دولة زعماء الموارنة قبل الحرب حرمان مواطنين لبنانيين (سنّة وشيعة من الشمال والجنوب والبقاع وبيروت) جنسيتهم للتقليل من الوزن الديموغرافي المسلم. وعمل زعماء الموارنة على حرمان المسلمين التعليم عبر حيل وألاعيب كثيرة (منها تأجيل إنشاء جامعة لبنانية رسمية، ومنع معادلة شهادة التوجيهية، وإيلاء التعليم الخاص النخبوي اهتمام الدولةورعايتها). اختلّ الميزان وافتُضح أمر الأرجحية المسلمة منذ الخمسينيات، وضاق المسلمون (وغيرهم من أعداء النظام الطائفي ودوره المقيت) بنظام الجوْر الطائفي، وكان ذلك بُعداً من أبعاد الحرب الأهلية.
كان إشعال الحرب الأهلية من قبل ميليشيات زعماء الموارنة لغايات كثيرة، بعضها تسديد خدمات لرعاة خارجيين (أميركا ودولة العدو تحديداً)، وبعضها الآخر لتنفيذ أجندات داخلية محضة. زعماء الموارنة أرادوا الحفاظ على نظام الهيمنة الطائفي بالقوة المسلحة على طريقة العصابات الصهيونية التي سارعت إلى تمويلهم وتسليحهم منذ الخمسينيات (على أقلّ تقدير، وهذا بات موثّقاً). ولم تكن المشاركة الحماسية (لا بل التأجيجية) للكنيسة المارونية والرهبانيّات المارونية (التي خزّنت السلاح والمؤن والذخيرة في الأديرة) إلا تعبيراً عن إصرار طائفي على رفض الإصلاح السياسي لتحقيق نوع من المساواة «الطائفية» في الحكم. وكانت المطالب الإسلامية واليسارية آنذاك جدّ متواضعة، ولم تشابِه (في أفقها) الوضع السياسي الحالي حيث فقد المسيحيّون الوزن السياسي وباتوا عرضة لتجاذبات الصراع السنّي – الشيعي الذي يقرّر حجم الحصص المسيحية ونوعيّتها. لكن بشير الجميّل كان أكثر طموحاً من الحفاظ فقط على النظام الطائفي. أراد أن يزيد حصّة المسيحيين على ما كانت عليه قبل الحرب.
لم يكن الشعار الإسلامي (السنّي، وإن كان معبّراً آنذاك عن تفاهم سنّي – شيعي) قبل الحرب يتعدّى شعار «المشاركة» الذي رفعه كل رؤساء الحكومة (وزعماء السنّة) قبل الحرب. والمشاركة لا تعني انتزاع صلاحيّات رئيس الجمهورية بالكامل وتسليمها لرئيس الحكومة أو لمجلس الوزراء «مجتمعاً». هي هدفت فقط إلى تعزيز صلاحيّات رئيس الحكومة والتقليل الطفيف لصلاحيّات رئيس الجمهورية. ومراجعة أوراق الإصلاح الإسلامية، أو تلك التي تُووفِقَ عليها عبر السنوات قبل الطائف، تُظهر أن هناك مساراً تنازليّاً فرضه سلوك الانعزاليين، وخصوصاً بعد تسلّم بشير الجميّل أزِمَّة السلطة في بيروت الشرقية. الوثيقة الدستورية، مثلاً، التي أعلنها سليمان فرنجيّة (بتدخّل من النظام السوري) في شباط 1976 لم ترضِ الجبهة الانعزالية، مع أنها في بنودها حافظت على سلطة رئيس الجمهورية، حتى إن رئيس الوزراء والوزراء يقسمون يمين الطاعة أمامه (بند 6 من الإصلاحات)، ولحظَ البند السابع إصدار جميع المراسيم ومشاريع القوانين «بالاتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء»، ويحقُّ لرئيس الجمهورية إقالة الوزراء.
أما مذكّرة دار الفتوى التي صدرت في 1977، فكانت واضحة في المطالبة بالمشاركة، إذ إنها رفضت استبدال «الامتيازات التي يتمتّع بها غيرهم الآن بامتيازات إسلامية». المشاركة الفعلية كانت الهدف، برغم تنافر فكرة الحكم برأسَين، لكن المجلس الرئاسي السويسري ممكن التطبيق في الاستيراد (هذا لا يعني تبنّي مشروع الكَنْتَنة السويسري الذي روّج له القيادي في حزب «الأحرار»، موسى برنس، في سنوات الحرب ــ قبل أن يُقرر الفريق الانعزالي صرف النظر عن التقسيم للسيطرة على كل لبنان بالاعتماد على جيش العدو الإسرائيلي ــ هذا بالضبط ما عناه شعار «10452»). واللافِت أن مشاريع الإصلاح السياسي المقدّمة من الحركة الوطنية أو من القوى الإسلامية كانت منشغلة بأمور هوية لبنان والسياسة الخارجية أكثر من انشغالها بأمور تفاصيل الإصلاح السياسي. لكن تعنّت الفريق الآخر، خصوصاً بعد صعود بشير الجميّل بدفع من الليكود الإسرائيلي بعد 1977، هو الذي جرّ مسار الإصلاح باتجاه تقليص صلاحيّات الرئيس كأولوية. وورقة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى المُقدّمة في 1977، لم تتعرّض بدقّة لصلاحيات رئيس الجمهورية إلا عبر المطالبة بتحديد صلاحيّات كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة (كما طالب المجلس بتمديد ولاية رئيس المجلس إلى أربع سنوات). والمذكّرة الدرزية المقدّمة في 1983 لم تنزع السلطة التنفيذية من يد رئيس الجمهورية بل طالبت بالاضطلاع بـ«أعباء» (هموم؟) السلطة التنفيذية مشاركةً بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. إذا كانت هذه حدود إصلاح النظام السياسي حتى أوائل الثمانينيّات، فما الذي تغيّر بعد ذلك حتى الطائف (وحتى تطبيق الطائف ــ أي تفسيره عبر أعراف مُلزِمة)؟
تمادى بشير الجميّل في استفزاز الطرف الإسلامي في الحرب. كذلك فإن النزعة الطائفية الصريحة له (قبل الأيام «الذهبية» التي فصلت بين تنصيبه وإعدامه، وبعدها) عزّزت العصب الطائفي في المقلب الآخر؛ إذ إن خطبه غير المنشورة في حينه ــ بما فيها آخر خطاب له ــ كانت صريحة التوجّه الطائفي الكريه. ففي خطابه الذي ألقاه في دير الصليب في 14 أيلول 1982، قال إن «لبنان وطن للمسيحيين ولغيرهم إذا أرادوا». وأضاف في مقطع آخر من الخطاب: «نحن لسنا بدواً، وليس عندنا جمال». لا شكّ في أن خطاب الجميّل الطائفي ساهم في فرز القوى السياسية عند أعدائه، ودفع باتجاه صعود الأحزاب الطائفية هناك (وساهم أيضاً في ذلك اختفاء موسى الصدر، ثم الثورة في إيران، بالإضافة إلى ضخّ المال النفطي لدعم الفكر والممارسة الجهادية من قِبَل النظام السعودي بعد التدخّل العسكري السوفياتي المحمود في أفغانستان).
إن مراجعة وثائق الحلول السياسية التي قدّمتها القوى الانعزالية في سنوات الحرب تظهر كم كانت مُكابرة، وكم كانت مُعوِّلة على تدخّل خارجي لدعم نظام الهيمنة الطائفية. وإنقاذ مشاريع القوى الانعزالية حصل في عام 1976 بواسطة النظام السوري، وفي عام 1982 بواسطة الاجتياح الإسرائيلي (والدعم الأميركي الذي رافق انتخاب ريغان الذي دبّج رسالة إلى بشير الجميّل ــ قائد الميليشيا ومدير شبكة الدعارة في بيروت الشرقية). إن كل مشاريع القوى الانعزالية أهملت كلّياً إصلاح النظام السياسي نحو إحداث نوع من التوازن بين الفريقَين المتنازعَين على حقوق الطوائف وحصصها (متى أصبحت الطوائف «مكوّنات» في لبنان والعراق؟) ولم تكن الحرب الوحشية التي شنّها الفريق الانعزالي ضد المقاومة الفلسطينية في لبنان إلا جزءاً من حربه على المسلمين في لبنان (التي بدأت في عام 1958)، وتلاقى هدفه هذا مع مصلحة العدو الإسرائيلي والحكومة الأميركية (وإن كانت الأخيرة تدفع باتجاه تعديل في النظام السياسي اللبناني من أجل ديمومته وديمومة المصالح الأميركية). إن اختلاق فرية التوطين على شعب لم يقبل بديلاً يوماً من أرضه ــ برغم وفرة العروض ــ لم يكن إلا ستاراً. أرادت قوى الانعزال نزع السلاح الفلسطيني كي تضعف شوكة المسلمين ويَسهل على زعماء الموارنة العودة بلبنان إلى زمن الهيمنة الطائفية الصارخة.
مقرّرات سيّدة البير في عام 1977 لم يعنِها من إصلاح النظام السياسي شيء. كانت الفكرة آنذاك (قبل صعود الليكود) في تفضيل التقسيم الكامل على المشاركة مع ممثّلي المسلمين في السلطة. سيّدة البير تحدّثت عن رعاية «كل مجموعة حضارية… جميع شؤونها، ولا سيما ما يتعلّق منها بالحرّية» (والجملة تشير إلى إيمان عميق لم يخبُ عند غلاة الطائفية المارونية بأن الحرّية هي هدف للمسيحيين دون المسلمين). هذا كان ردّ زعماء الموارنة على مطالب الإصلاح السياسي: إما الحفاظ على النظام أو الانفصال الكامل. ومقرّرات سيّدة البير دغدغت أحلام إرجاع عقارب التوزيع الديموغرافي إلى الوراء عبر الحديث عن «إشراك اللبنانيين ما وراء البحار في حياة لبنان السياسية» (هذه على نسق فتح مكتب اقتراع من قبل جبران باسيل في غوادلوب لإشراك اللبنانيين هناك في صنع القرار المحلّي)، والعمل على «الحدّ من الهجرة» (المسيحية فقط عند أهل البير).
وزاد عناد الانعزاليين في مقرّرات دير عوكر في عام 1980 عندما تكرّر تجاهل مطالب الإصلاح السياسي أو حصرها فقط بـ«الفدرالية أو الكونفدرالية»، والحديث الإنشائي عن السيادة والحرية (من قِبَل فريق رهن نفسه للنظام السوري حيناً والعدوّ الإسرائيلي حيناً آخر، ولِمَن يرغب من دول الغرب والعرب عبر السنوات). كان وصول شارون إلى السلطة حلمهم الأكبر. هذا ما جعل الجميّل مرشحاً رئاسياً لا شيئاً آخر. والدولة المعروفة بالتقتير المالي لم تمانع إنفاق الملايين لدعم حملة بشير الجميّل الرئاسية (الصُورية)، برغم سخاء ميشال المرّ (الذي قدّم هدايا للنوّاب ولرئيسهم في تلك الفترة).
على المُولوِلين على حقوق المسيحيين، وعلى الذين يتباكون على ضياع نفوذ رئيس الجمهورية الماروني ودوره، أن يوجّهوا إصبع الاتهام إلى بشير الجميّل وأخيه من بعده. أمعن الشقيقان (العدوّان) في استفزاز المسلمين (وغيرهم) عبر فرض نظام سياسي بائد بالقوّة، قوّة جيش العدو وقوّة القوى المتعدّدة الجنسية التي أتت لعوْن حكم أمين الجميّل الميليشياوي. يتذكّر الجميع فظائع القوّات وراعيها في صبرا وشاتيلا، لكن ينسى كثيرون فظائع أخرى ارتُكبت في كل بيروت الغربية. كانت ميليشيات القوّات (تساندها ميليشيا الجيش اللبناني الانعزالي في حينه) تغتصب النساء في الطريق الجديدة وغيرها، وكانت تخطف الرجال والصبية في بيروت الغربية. على الذين واللواتي يتحدثون اليوم عن المخطوفين في لبنان، العودة إلى سجلّات الفريق الانعزالي الذي دشّن الخطف، وراكم من ضحاياه ما لم يراكمه أي طرف لبناني آخر في سنوات الحرب. قرّر بشير الجميّل الاستيلاء على السلطة قبل ان يُنصَّب رئيساً. اختطّ سياسة خارجيّة تعارض مزاج المحيط العربي والإسلامي، وتحالف مع أعداء العرب والمسلمين واليسار في المنطقة. ظنّ أن القوّة المفرطة كفيلة بأن تعيد التاريخ إلى الوراء.
انقلب المسلمون على هذا الواقع في 1984، وتغيّر تاريخ لبنان. لم يعد المسلمون (بعد اندثار القوى اليسارية) في وارد المساومة أو التنازل كما في الماضي. ولم تعد المشاركة هي الهدف، بل السيطرة الكلّية على السلطة باسم مجلس الوزراء مجتمعاً بعد نزع سلطات رئيس الجمهورية الذي حافظ على هذا الحقّ في الدستور (المادة 53، رقم 8): «يرأس الحفلات الرسمية ويمنح أوسمة الدولة بمرسوم»، أي مثله مثل رئيس الجمهورية الاتحادي في ألمانيا. كذلك إن مسلك رفيق الحريري بعد الطائف (عندما واظب على دفع مرتّب من جيبه لرئيس الجمهورية في عهد الهراوي) جعلَ من موقع الرئاسة الأولى أضحوكة دستورية.
لم يقبل ممثّلو الطوائف الإسلامية بـ«الطائف» إلا بعد إنهاك القوى الانعزالية وإذلالها، وزوال رعاية المشروع الإسرائيلي المنهزم تحت وقع ضربات المقاومة التي لم تزدها السنون إلا قوّة وفعالية وإبهاراً. وصف جورج سعادة الوضع في كتابه: شعر بأن هناك نيّة «لتحميل طائفة واحدة تبعة هذه الأخطاء». الأخطاء التي يتحدّث عنها سعادة ليست إلا جرائم وآثام وفظائع ارتكبها بشير الجميّل وصحبه ورعاته. فَلْيتذكّرْ ذلك المتباكون على حقوق المسيحيّين.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)