بعد الطيونة.. هل بات خصوم حزب الله يتوقعون سلوكه؟ – ليلى نقولا
يعيش لبنان على وقع تداعيات المجزرة التي وقعت في منطقة الطيونة، بعد أن قام قنّاصة منتشرون على سطوح الأبنية بقتل متظاهرين مناصرين لحركة “أمل” وحزب الله، كانوا متوجِّهين من أجل تنفيذ اعتصام ووقفة احتجاجية أمام قصر العدل للاحتجاج على ما يعتبرونه “تسييس التحقيق” الذي يقيمه المحقق العدلي طارق بيطار.
وفي النقاش الداخلي بشأن التحقيق الذي يُجريه بيطار، يطرح كل طرف وجهة نظره بشأن القضية، الأمر الذي جعل عمل المحقّق العدلي مادة للاستقطاب السياسي بدلاً من أن تكون أداة لإحقاق الحق وإنصاف الضحايا.
من جهة، يرى كثيرون إنه لا يجب أن يكون هناك تدخُّل سياسي في التحقيق، وإن القاضي بيطار يجب أن يتمتّع بالدعم والتفويض الكاملين للوصول إلى الحقيقة، وإن أيّ تدخل في عمل القضاء من جانب السلطة السياسية يجب أن يكون مرفوضاً وغير قابل للنقاش.
أمّا الطرف الآخر، فيطرح علامات استفهام بشأن المعايير التي يعتمدها بيطار في استدعاءاته، فلماذا يدّعي على رئيس حكومة حالي من دون رؤساء الحكومات السابقين، الذين دخلت النيترات واستقرّت في المرفأ في عهودهم؟ ثم، لماذا يدّعي على وزراء (داخلية ومالية وأشغال) سابقين من دون أن يحقّق مع الوزراء الحاليين، وهلمّ جرّاً… فما هي المعايير التي يعتمدها؟ ولماذا لا يتمّ استدعاء الجميع واستجوابهم والاستماع إلى إفاداتهم؟ بالإضافة إلى أمر آخر ومهمّ، يتعلق بالتقرير التقني، فلم يحدّد البيطار، إلى غاية اليوم، كيف حدث الانفجار، وهل هو عدوان إسرائيلي، أم تفجير داخلي، أم حريق مفتعَل، أم حريق بفعل الإهمال؟ وكيف دخلت النيترات، ومن أدخلها، ولمصلحة من؟
الواقع، أن الهواجس لدى الطرفين مشروعة. فمن جهة، يعيش اللبنانيون على وقع تسييس دائم للقضايا القانونية. وكم مرةً تدخّل سياسيٌّ من أجل الإفراج عن مطلوبين وإرهابيين. وكم عَفْواً صدر عن مجرمين. وكم قَضيةً تمّت لفلفتها، وخذل القضاء اللبناني الضحايا؟
ومن جهة مقابلة، هناك تجربة تحقيقات اللجنة الدولية لتقصي الحقائق، والتي قامت بالتحقيق في اغتيال الرئيس الحريري، وما رافقها من فبركة شهود زُور، وإجحاف بحق الضبّاط الأربعة، وسَجنهم ظلماً مدةَ أربع سنوات، ناهيك بالفضائح التي رافقت عمل المحقق الألماني ديتليف ميليس، والاستخدام الخارجي للتحقيق من أجل اتّهام “النظام السوري” لمدة 4 سنوات، ثم – فجأة ومن دون سابق مقدمات – أُخرج السوريون كلياً من دائرة الاتهام، وتم اتّهام حزب الله، بعد أن نشرت “دير شبيغل”، عام 2009، مقالاً تحدثت فيه عن تورّط حزب الله في القضية… وبالرغم من قيام السيد حسن نصر الله بعرض وقائع تشير إلى إمكان تورّط “إسرائيل”، ودعوته إلى أخذ جميع السيناريوهات في الاعتبار، وعدم إسقاط أيّ فرضية، فإنه تمّ توجيه التحقيق إلى فرضية واحدة، هي قيام الحزب باغتيال الحريري. وتوالت الأحداث، حتى صدر القرار الاتهامي الأول، وجاء يُدين أفراداً من حزب الله، برّأتهم المحكمة بعد عدة سنوات، وأدانت متهماً واحداً.
بالعودة إلى أحداث الطيونة المتعلقة بقضية بيطار، كان يمكن تلافي هذا الاصطدام، وتجنُّب عودة مشاهد الحرب الأهلية، لو تمّ الأخذ في الاعتبار هواجس الطرفين أعلاه، والوصول إلى صيغة قانونية تحفظ التحقيق من التدخلات السياسية، وتؤمّن استقلالية القضاء وسرية التحقيق، وتعطي القاضي الاستقلالية التامة للقيام بتحقيقاته من دون تدخُّلات، وفي المقابل تعطي الطرف الآخر الثقة بأن التحقيق لن يتم حرفه عن هدفه الأساسي (إحقاق الحق وتحقيق العدالة ومحاسبة المتورطين).
هذا في السياسة والقضاء. أمّا في الموضوع الأمني الداخلي، فيمكن القول إن استسهال أعمال القنص، ومحاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، مردهما إلى ما يلي:
1- سقوط هيبة الدولة والقوى الأمنية، وخصوصاً بعد أن استمر التفلُّت الأمني وحمل السلاح والاقتتال عند حدود المناطق المختلطة طائفياً، والاستعراضات العسكرية، من دون أيّ معالجة، ومن دون قيام القوى الأمنية بالضرب بيد من حديد لكل مَن يخلّ بالسِّلم الاهلي. زد على ذلك، ما قام به حراك 17 تشرين الأول/أكتوبر من كسر هيبة القوى الأمنية، بعد أن قامت مجموعات من المتظاهرين بقطع الطرق على المواطنين، والتنكيل بحق الناس في التنقل والذهاب والإياب لتأمين لقمة عيشهم، وذلك برعاية القوى الأمنية نفسها وحمايتها.
2- سقوط توازن الردع الداخلي:
منذ عام 2008، تمّ تكريس خطّ أحمر (غير معلن) يمنع الاقتتال الداخلي. وباتت الأطراف السياسية الداخلية تتحاشى الاحتكام إلى الشارع، بسبب غياب التوازن وعدم التقارب في موازين القوى الداخلية. لقد حاول بعض الأطراف الإقليمية الدفع إلى اقتتال أهلي لبناني، عبر محاولة تصدير الاقتتال السوري إلى الداخل اللبناني، لكن غياب التوازن ظل المانع الأساسي لجرّ اللبنانيين إلى الحرب مجدداً.
لكنّ ما حدث خلال السنوات الماضية، أنّ الطرف الأقوى عسكرياً، عبر إطلاقه سلسلة من المواقف والخطابات، أشار إلى ما يشبه “فوبيا” لدى حزب الله من الحرب الأهلية الداخلية. فالاعتداءات وقتلُ المناصرين في الداخل قوبلت دوماً بالدعوة إلى ضبط النفس وعدم الانجرار إلى الفتنة. حتى مكافحة الفساد التي تم الوعد بها خلال الحملة الانتخابية، جرى التراجع عنها، وتوكيل أمرها إلى القضاء اللبناني “لأنها قد تؤدي إلى حرب أهلية”. ثم إن كل محاولات الاستفزازات وقَطع طريق الجنوب بعد 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، وأحداث خلدة وما قبلها، قوبلت بالدعوة إلى “كتم الغضب وضبط النفس”.
بالنتيجة، من أهم قواعد العِلم العسكري والعِلم الاستراتيجي، ألاّ تترك للعدو القدرةَ على أن يعرف ثلاثاً: نقاط قوتك، ونقاط ضعفك، وما سيكون عليه ردُّ فعلك… بهذا المعنى، تقوم الدول، أو الأطراف، باعتماد سياسة الغموض، فلا تترك لأعدائها القدرة على التنبؤ مسبَّقاً بردود فعلها، ولا تسمح بكشف نقاط القوة والضعف لديها، وإلاّ لَخسرت معاركها.
إذاً، بعد دراسة “السلوك الداخلي” لحزب الله بدقة، على مدى سنوات، بات خصومه يستطيعون توقُّع ردود فعله المفترضة. لذا، فهم يعرفون أن أيّ اعتداء يقومون به سيقابَل بـ “ضبط النفس”. وبالتالي، يمكن لهم أن يحقّقوا مكاسب سياسية وانتخابية ومادية عبر افتعال “توتر أمني محدود”، يُضعف هيبة حزب الله في الداخل، ويُخسره تفوُّق الردع.
واليوم، بعد حادثة الطيونة، يمكن أن نتوقّع أن الحرب الأهلية لن تعود في لبنان بسبب عدم قدرة الأطراف الداخلية عليها، وبسبب عدم رغبة الخارج فيها. لكن، نتوقَّع تغيُّراً في ردود فعل الأطراف الداخلية، سواء عبر محاولة افتعال التوترات الأمنية، أو الردّ عليها.
المصدر: الميادين نت