بعض من مفردات العهر السياسي – د.عامر صالح
كنت متأنيا في استخدام مفردة العهر في السياسة نظرا لدلاتها الخاصة على فعل الجنس من اجل الحصول على المال او المتعة المفرطة دون ضوابط محددة, ولكن حال تتبعي لمفردة العهر السياسي وجدت ان قاعدة النت المعلوماتية تعج بأستخدامات العهر السياسي وهناك مئات الألوف من الكتابات والمقالات التي تشير الى العهر السياسي العربي وغير العربي وتداعياته في الممارسة العملية, وقد شجعني ذلك في الحديث عن العهر السياسي في العراق, فالعهر يدل في اللغة على فعل الزنى واتيان الفجور..والعاهرة هي من تبيع جسدها للحصول على متعة عابرة اوالمال باسرع طريق خارج الاطار الشرعي..والرجل العاهر هو من ياتي فعلا فاجرا مماثلا ..واتسع المفوم لينطبق ،في عصرنا هذا، على كل شخص – رجلا او امراة- يتبع اساليب منحطة للوصول إلى غايته (كسب المال والمنصب وسرقة المال العام والفساد الأداري والمساهمة في افساد المنظومة القيمية)..وهنا يكون العهر ذا صبغة سلوكية واجتماعية او سياسية وفكرية, واستنادا الى ذلك فهناك مظاهر مختلفة من العهر, ولعل ابرزها هو العهر السياسي والعهر الفكري والعهر الأجتماعي والأقتصادي والثقافي الى جانب العهر الأخلاقي التقليدي, والعهر السياسي هنا هو الأخطر في نتائجه حيث يختلط السقوط الأخلاقي في السياسة ويصبح مصدر تهديد ليست فرديا بل مجتمعيا ويفرض رسم سياسات عامة على أسس من مستنقع السقوط الأخلاقي ويكون الضحايا ليست فردا واحدا كما في العهر الفردي بل مجتمعا بكامله.
العهر السياسي في العراق هي انماط شبه ثابتة من السلوك السياسي الذي شاب المشهد السياسي بعد عام 2003 تمارسه منظومة الأحزاب السياسية في العراق وخاصة الحاكمة منها والتي ترى في السلطة المطلقة ظالتها في تدوال الحكم بطريقة تعسفية وتتخذ من الديمقراطية المشوهة وصناديق الأقتراع كخدعة لأعادة انتاج نفسها والبقاء في الحكم مهما بلغ مدى الرفض الشعبي لها وعدم احترام المجتمع لها, وهي تتسلح بنمط من الكذب والخداع والتحايل بما لا يقبله الحد الأدنى من الخلق السوي وترفضه ابجديات السياسة, واذا كانت السياسة كما يعرفها الواقعيون بأنها فن الممكن فهي تعني دراسة وتغيير الواقع السياسي موضوعيًا وليس الخطأ الشائع، وهو أن فن الممكن هو الخضوع للواقع السياسي وعدم تغييره بناء على حسابات القوة والمصلحة , وهنا يمكن الأستناد الى تعريف السياسة بالمعنى الهدفى بانها العلم الذي يهدف إلى تقديم السبل والمناهج المختلفة من أجل تدبير شئون الدولة في الداخل وفي علاقاتها مع الخارج(دول، منظمات وغيرها من أجل تحقيق أهدافها على المدى القصير والمتوسط والطويل الدولة).
ويدعي فقهاء الإسلام السياسي من الناحية النظرية , أن سياسة الاحزاب الإسلامية ليست سياسة ” ميكافيلية ” ترى أن الغاية تبرر الوسيلة آيا كانت صفتها,بل هي سياسة مبادئ وقيم تلتزم بها, ولا تتخلى عنها , ولو في أحلك الظروف , وأحرج الساعات سواء في علاقة الدولة بمواطنيها داخليا, أم في علاقتها الخارجية بغيرها من الدول والجماعات. ولكن ما يجري الآن من قبل هذه الأحزاب هو ليست عملية صراع سياسي ومنافسة نزيهة يراد بها إبراز الإمكانيات الذاتية والفعلية لهذه القوى وهي تخوض منافسة مع القوى السياسية الأخرى , بل هي ” ميكافيلية دينية سياسية ” تقوم على قاعدة استخدام كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة من إعلام وسلطات واسعة وصحافة ومؤسسات دينية ترغيبا وترهيبا لزرع الرعب في عقول البسطاء وبذريعة حرب أو حملات تشنها القوى الديمقراطية والوطنية ضد الإسلام , ويجب الاستعداد ” للانتصار الإلهي” , ويجب أن يمر هذا” الانتصار” وفقا لهم عبر آلية محكمة تبدأ بتأصيل حالة الخوف لدى الناس ( الفوبيا), تعقبها حالة غيبوبة مؤقتة يتم فيها انتزاع أصواتهم في المناسبات الانتخابية , ثم تركهم حفاة الأقدام مكشوفين الرأس أمام الهجمات الانتحارية والأعمال الارهابية , كما تركوهم في كل المناسبات التي تستدعي المشاركة الشعبية لتقرير السياسات العامة.
ان الخطوط العريضة المعلنة للبعد الأخلاقي والقيمي للأسلام السياسي عبر فقهاء الإسلام والنصوص الكلاسيكية ,ولا ندخل هنا في حوار حول جدوى ذلك وأهميته العملية اليوم في عالم السياسة الدولية والإقليمية والوطنية , حيث لا نرى أثرا لذلك في السياسة الخارجية والداخلية لأي دولة إسلامية في العالم كله ولا في سياسة أحزاب الإسلام السياسي على الإطلاق , إضافة إلى ذلك إن السياسة كي تؤدي إلى نتائج ملموسة, تحتاج في الممارسة العملية إلى المزيد من التوفيق والموائمة بين الأخلاق والمصالح والسياسة , وأن السياسة الخارجية كما نعلم اليوم تبنى على المصالح المشتركة أولا , وأما السياسة الداخلية فتبنى بوضوح أكثر على ثلاثي قوامه الأخلاق والمواطنة والمصلحة المشتركة.
لقد افرز المشهد السياسي في العراق وخاصة بعد الأنتخابات البرلمانية المبكرة التي اجريت في العاشر من اكتوبر 2021 الكثير من الظواهر الشاذة وإن شكلت في مجملها امتداد لأزمة الحكم والنظام في العراق ما بعد 2003 ولكنها كشفت المزيد من عورات القوى السياسية التي اعتادت على الأستحواذ على السلطة بكل الوسائل, وهنا اركز على بعض من ملامحها التي تعكس سلوكيات القوى التي لا تؤمن بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وما تفرزه نتائج الأنتخابات وصناديق الأقتراع وتتصرف بمنطق الرابح المطلق حتى وان خسرت الانتخابات, وتستخدم كل الآليات السيكوسياسية لعرقلة نشوء اي ملامح لوضع جديد قد يرسم بعض افق لتغيرات ايجابية قادمة, ولعل ابرز ملامح ذلك السلوك هو:
ـ رفض شرعية الانتخابات البرلمانية الاخيرة من حيث نزاهتها اداريا وفنيا ” رغم ضعف المساهمة فيها والتي لا تتجاوز 30% في احسن الأحوال ” وتحميل بعض من دول الجوار الأقليمي وامريكا بأدعاء تزوير الأنتخابات واعداد نتائجها سلفا, نظرا لأن نتائجها اضعفت واقصيت من المشهد السياسي بعص القوى السياسية ذات الطابع المسلح وغير المسلح, وتناست دلالة انتفاضة تشرين في فرض بعض من ملامح تغير الخارطة السياسية, ولم تعترض تلك القوى الخاسرة على نتائج الأنتخابات السابقة التي اطالها التزوير وحرق النتائج لأنها كانت فائزة فيها.
ـ اضعاف القدرات المعنوية للقوات المسلحة العراقية وخاصة الجيش في مقاتلة الارهاب وربط ذلك بضعف القيادة السياسية انطلاقا من الخلافات السياسية مع رئيس الوزراء وغيره وتعريض سلامة البلد الضعيف اصلا الى مختلف التهديدات, مع سلوكيات التمني بعودة داعش من خلال تسفيه الحملات العسكرية ضد تنظيم داعش واعتبار هذه الحملات مجرد حركات استعراضية لشخص رئيس الوزراء في محاولاته للحصول على ولاية ثانية لرئاسة مجلس الوزراء.
ـ تجنيد جوقة من ” المحلليين الأستراتيجين ” من دعاة مراكز ابحاث وهمية والذين ينتمون اغلبهم الى الأحزاب الخاسرة ولا يتمتعون بالحس الحيادي اتجاه الظواهر السياسية وفيهم من المنحازين علنا الى قوى اللادولة, ويقومون هؤلاء بأعادة انتاج خطاب نظرية المؤامرة اضعاف واقعيتها لتمرير اجندة قوى اللادولة في ديمومة الفوضى والاحتراب الداخلي من خلال ربط كل اعمال العنف الداخلي المسلح من قصف للمواقع والمؤسسات الحكومية ومراكز الحكم في المنطقة الخضراء, وقصف منزل رئيس الوزراء, وقصف كردستان والمطار الدولي في بغداد, واعتبار كل هذه الأعمال هي من تدبير امريكا ودول اقليمية لخلط الاوراق السياسية في الداخل العراقي.
ـ محاولة خلط الاوراق بين الموقف الوطني من خروج القوى الاجنبية من العراق والذي لا يختلف عليه اي مواطن غيور وبين اجندة خفية يراد بها الاستحواذ على المؤسسة العسكرية وتسيرها وفق رغبات واجندة داخلية وخارجية لا تسهم في محصلتها النهائية على استقلال البلد وتعزيز قدراته الدفاعية بل الى مزيد من اضعافه, وهنا تكمن الدعوة الى خروج القوات الاجنبية دون معرفة مسبقة او التغاضي عن معرفة مدى حاجة القوات العراقية المسلحة الى الاستشارات والخبرات الفنية والدعم اللوجستي, وهو امر لا يقرره فصيل مسلح, بل تقرره المؤسسة الاختصاص والمتمثلة بوزارة الدفاع العراقية حصرا.
ـ تجنيد آلة اللادولة الاعلامية لأفشال اي جهد حكومي في زرع ملامح الاستقرار والنهوض بالبلد لأعادة بنيته التحتية الاقتصادية والاجنماعية عبر تفريغ محتوى كل المشاريع المحتملة للنهوض الى جانب الفساد الاداري والمالي, واعاقة اي علاقات عربية ودولية متوازنة تضمن للعراق حظوظ افضل في الانفتاح على العالم بعيدا عن سياسات المحاور الاقليمية الضارة, واعتبار اي نشاط بهذا الاتجاه هو عمل مشبوه ومؤامرة على العراق تقودها اسرائيل, وبالتالي فأن هذه القوى تشكل جزء من منظومة الفساد المعوقة لأي نهضة في البلاد.
ـ العمل على اعاقة اي بارقة امل في اصلاح النظام السياسي والذي يفترض ان يقوم على اغلبية برلمانية مريحة تسهم في تشريع مختلف القوانين المعطلة والتي تمس حياة المواطنين وخدماتهم واستقرارهم المجتمعي, عبر تعطيل الآلية الديمقراطية من خلال ممارسة كل الضغوط للأشتراك في الحكم باختلاف نتائج الانتخابات لأبقاء الأوضاع كما هي دون تغير, وبالتالي اعادة وتكريس انتاج نظام المحاصصة الأثنية والطائفية ورفض اي فكرة ان هناك قوى تحكم وهناك معارضة تقوم الأداء.
ـ الافتعال والترويج لخطاب ان هناك فتنة تحاك ضد المكونات وخاصة ضد” المكون الأكبر” والمقصود هنا صراحة هو المكون الشيعي وهي محاولات لأعادة الفتنة مجددا بين المكونات المجتمعية والتلويح بأشعال الحروب الطائفية والاثنية اذا لم تصب التحالفات بخدمة الخاسرين في الانتخابات, ان ادعاء ان المكونات الطائفية والاثنية في خطر هو ادعاء كاذب يحاول ان يلغي سنة الصراع الطبقي ـ الاجتماعي في داخل المكونات وفرض معادلة شاذة قوامها ان الاحزاب تساوي المكون, ومن الذاكرة القريبة فأن من انتفض على نظام المحاصصة هم من داخل المكونات وفي مقدمتهم المكون الشيعي” ان صح التعبير ديموغرافيا ـ مذهبيا “. انها محاولات ضد التأسيس لثقافة المعارضة خوفا من التفريط بمغانم السلطة ومصادر التمويل غير المشروعة واختراق مؤسسات الدولة وتحويلها الى مؤسسات ريعية للأحزاب الفاشلة, وبالتالي افساد الجدوى من أي انتخابات قادمة وفقدان للأمل في التغير.
ـ ومن الظواهر الشاذة في المشهد السياسي العراقي هو استعانة اغلب القوى السياسية بحلفائهم الأقليمين من الدول والاحزاب للتدخل في تشكيل الحكومات العراقية المتعاقبة او التحالفات السياسية, وقد لا توجد دولة ديمقراطية في العالم تستعين بدول اخرى للتدخل في شؤونها الداخلية والاخطر هو في تشكيل حكوماتها إلا في الدول المخترقة.
ـ ومما يزيد الطين بله ان عدم جرئة الحكومة بل وفشلها في وضع حد لمن يرتكب الجرائم ضد الدولة ومؤسساتها وضد عمليات القتل والاغتيالات الممنهجة وفي مقدمتها اغتيال المتظاهرين السلميين, ومنفذي الهجمات الصاروخية والطائرات المسيرة ضد اهداف حكومية او بعثات دبلوماسية وغيرها, رغم ان الحكومة تعلن مرارا وتكرارا وعلى لسان رئيس مجلس الوزراء انه يعرف الجهات المنفذة والمحرضة على هذه الاعمال الارهابية ويعد بتقديمهم للعدالة ولكن لم يحصل ذلك حتى ولمرة واحدة وبالتفصيل الضروري واللازم لأماطة اللثام عن منفذي العمليات والجهات التي تقف ورائهم وسوقهم للعدالة كما ينبغي, مما جعل الكثير من الجهات التي يشار أليها بالشبهات في تنفيذ تلك العمليات تطالب وبصلافة المجرم المحترف الحكومة ورئيسها بالكشف عن القتلة ومرتكبي مختلف الاعمال الارهابية.
ان هذه بعض من مفردات العهر السياسي الذي ساد المشهد السياسي منذ 2003 الى اليوم, فأذا اردت ان تضعها في الميكافليات السياسية المجردة من كل اخلاق والبعيد عن اي تعاليم دينية, فأنها ليست ميكافلية الأمير التي هدفها تسخير كل المشروع من الافعال وغير المشروع منها لخدمة وحدة البلاد وتقوية الدولة, بل هو الانحراف عن الاخلاق السياسية لتخريب الدولة والمجتمع واضعافهما.
وختاما نقول أن التأريخ قد أنصف ميكافيلي واضعا إياه احد مفكري حقبة التنوير الأوربية ومؤسسا لمدرسة التحليل والتنظير السياسي الواقعية, بل مؤسسا للعلوم السياسية, وقد رسم صورة الدولة القوية الموحدة, ولكنه لم يكن بدون أخلاق أبدا,كما تصوره أعدائه, وقد دفع ثمن من قرأ له قراءة متحيزة, كما في حالات هتلر وموسوليني وفرانكو, متكأين على كتابه ” الأمير” وعلى مقولته الشهيرة ” الوسيلة تبرر الغاية “, إلا إن ميكافيلي لم يوصي بالاعتداء على المواطنين والمجتمع, بل رسم صورة الدولة القوية الآمنة الموحدة وعكس لنا بوضوح, أن السياسة مصالح, كما يجري الآن في الكون كله وعلينا ان نفهم ما هي مصلحة العراق كدولة وما هي حقوق شعبنا في الحياة الحرة الكريمة.