بوب وودوارد ضد دونالد ترامب: إعلام السلطة الخفيّة – أسعد أبو خليل
كراهية دونالد ترامب لم تعد خاصّة بالجهات الليبراليّة في الإعلام الأميركي. هي تطاول حتى الإعلام المحافظ (وخصوصاً الصهيوني منه، مثل «أتلانتك» أو «ويكلي ستاندرد»). وهذه الكراهية لا علاقة لها بحب الحريّة أو بالتمسّك بالديموقراطيّة، كما يزعم الإعلام الأميركي ــــ المُنتفخ كثيراً هذه الأيّام. وعولمة الإعلام الأميركي ووصوله إلى نخب دول العالم، زادا من منسوب غروره وإيمانه بدوره المميّز في خدمة الإنسانيّة وتقديم ما يصفه هو بـ«الحقيقة» ــــ وهي مُطلقة عنده، ومن لا يعتنقها يكون عدوّاً للحريّة. والحقيقة عند هذا الإعلام تضمّنت الترويج لابن لادن ورفاقه في أفغانستان، والإصرار على وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق (لتسويغ غزوه الأميركي) وتصوير كل أشكال عدوان (إسرائيل) ومجازرها على أنها لا ترتقي إلى مرتبة جرائم الحرب، وأنها دائماً في نطاق الدفاع عن النفس. الإعلام الأميركي محافظٌ جداً، حتى في أنساقه الليبراليّة (وهي غير الليبراليّة العربيّة التي لا تعني إلا الولاء للنظام السعودي ضد خصومه).
بوب وودوارد وصلَ صيتُه إلى كل أرجاء الأرض بعد فضيحة ووترغيت التي قطفَ ثمارها. لكن نمط عمل وودوارد الصحافي شكّلَ مدرسة ــــ مدرسة غير مهنيّة وغير بعيدة عن مصالح السلطات (الخفيّة منها بشكل خاص، أي الإستخباريّة والعسكريّة). وودوارد هو الذي أدرجَ عادة نسبِ المصادر الصحافيّة إلى «الخلفيّة العميقة»، أي مصدر لا يريد أن يُذكَر اسمُه أو موقعُه الرسمي أو أي شيء يمكن أن يوصل إليه. وودوارد يعتمد، بصورة شبه حصريّة، على مصادر الخلفيّة العميقة في كل كتبه منذ كتاب «كل رجال الرئيس» في عام ١٩٧٤ عن فضيحة ووترغيت. لكننا نعرف عن وودوارد الكثير، وبتنا نعرف اسم الرجل الذي أفضى بأسرار البيت الأبيض ومخالفات نيكسون إليه في ذلك الزمن. لم تعد خلفيّة «الحلق العميق» (وهي الكنية التي استعملها وودوارد عبر السنوات لإخفاء هويّة مصدر معلوماته الأساسي عن فضيحة ووترغيت، وهو مارك فيلت، مدير في مكتب التحقيقات الفيدرالي). أي أن عمل وودوارد الصحافي في تلك الحقبة، لم يكن مميّزاً مهنيّاً بقدر ما كان نتيجة حظّ: أن فيلت، الذي حنقَ ضد إدارة نيكسون التي لم تضعه في منصب مدير «إف. بي. آي»، اختار أن يساعدَ وودوارد في تحقيقاته ويرشده إلى الطريق الصحيح للانتقام من نيكسون. وإخفاء هويّة المصدر لم يكن عملاً مهنيّاً لأنه أخفى نيات فيلت ودوافعه الشخصيّة: لم يكن كما تخيّله الجمهور قبل الإفصاح عن هويّته في عام ٢٠٠٥.
وأخيراً، نشرت جريدة «نيويورك تايمز» مقالة لكاتب رفضت الإفصاح عن اسمه وعبّرَ عن معارضة لسياسات ترامب من داخل الإدارة. ولم يكن مهنيّاً أن الجريدة رفضت نشر اسم الكاتب ومنصبه مع المقالة: من المستحيل أنها كانت أن تقبل فعل ذلك لو أن الرئيس هو غير ترامب. هبَّ الإعلام الأميركي للهتاف بحياة هذا المسؤول الذي قال إن هناك حركة معارضة من داخل البيت الأبيض ضد ترامب. أي أن الإعلام (الذي يبلغ عداؤه لترامب حدّاً مرضيّاً) يرحِّب بعمليّة غير دستوريّة لمعارضة رغبة إرادة الشعب الأميركي عبر انتخابات رئاسيّة. إن الإعلام اليوم يرحِّب بانقلاب عسكري لو حدث ضد ترامب، وترحيبه يكون باسم الديموقراطيّة. وكل هذا الضخّ للتسريبات الضارّة لترامب والتي تملأ صفحات الإعلام الأميركي وشاشاته هي جزء من عمليّة غير ديموقراطيّة تقودها أجهزة المخابرات الداخليّة والخارجيّة. بات الإعلام يثق بمسؤولي أجهزة غير منتخبين ولا يخضعون لمساءلة أكثر مما يثق برئيس مُنتخب لا يتوافق مع أهواء معظم أهل الإعلام ــــ ولا يتوافق مع أهواء أجهزة المخابرات المتحالفة مع الإعلام السائد ــــ الليبرالي منه والمحافظ على حدٍّ سواء. ولجوء مسؤول حكومي إلى الإعلام لذمّ الرئيس ولإسباغ مديح ذاتي ليس جديداً: هنري كيسنجر في عام ١٩٧٣ كان يُسرَّب إلى الإعلام الأميركي أخباراً (مبالغ فيها) عن أن نيكسون كان مخموراً أمس، وأنه يشكّك في رجاحة عقله ــــ وكان يفعل ذلك كي يثق الإعلام به وبإدارته الحكيمة لشؤون السياسة الخارجيّة.
وسِجلّ وودوارد الصحافي ليس باهراً أبداً. بدأ حياته ضابطاً استخباريّاً في البحريّة الأميركيّة وبنى لنفسه شبكة واسعة من العلاقات من خلالها، ونجح في استعمالها في عمله الصحافي. هو كاتب ركيك يعجز عن التحليل في كل كتبه (كان شريكه في كتابة مقالات ووترغيت، كارل برنستين، يعيد صياغة المقالات بعد أن يكتبها وودوارد، وكان الأخير راديكاليّاً سياسيّاً، فيما كان الأوّل محافظا جمهوريّاً). وفي مقالة شهيرة عنه في «نيويورك ريفيو أوف بوكس» (١٩ أيلول ١٩٩٦) قالت عنه الكاتبة الشهيرة جون ديديون (هناك وثائقي جديد عنها صدرَ أخيراً)، إن الجهد الذهني غائب عن كتاباته، وقالت فيه عن كتاباته عن مرحلة بوش إنه لا يصف ما يجري كما يجري، بل كما يُقدَّم لنا، أو كما يُصنَّع لنا. وهي وصفت أسلوبه بـ«البورنوغرافيا السياسيّة». آخر وصفه بـ«ستِنوغرافي» لأصحاب السلطة والثروات. وهو رئِس قسم التحقيقات الاستقصائيّة في «واشنطن بوست»، مع أنه ليس في رصيده من استقصاء إلا تدوين ما يقوله له أهل السلطة.
وانفضاح تزوير قصة الصحافيّة جانيت كوك في عام ١٩٨١ (وكانت قد فبركت قصّة عن صبي مدمن على المخدّرات) وقع فيما كانت كوك تحت إدارة وودوارد نفسه. ونمط أسلوب وودوارد بات مألوفاً في فساده: الذي يتحدّث إليه يظهر في كتبه بصورة بطوليّة، والذي لا يتحدّث إليه يظهر بصورة سيّئة للغاية. كولن باول، مثلاً، تحدّث معه في أكثر من كتاب، ولهذا فهو يظهر دائماً بصورة ناصعة. دونالد ترامب لم يتحدّث مع وودوارد، ولهذا فإن صورته في الكتاب تكون على أسوأ ما تكون. بوش الابن وأوباما (وغيرهما من رؤساء سبقوهما) تحدّثوا إليه كي يحسّنوا صورتهم في رواياته (وكتبه هي أشبه بالروايات لما يُضفي عليها من أسلوب الوصف التشويقي على نسق الروايات البوليسيّة التي كانت تُباع على الأرصفة في سنوات طفولتي). وهذا الأسلوب مُخالف لأبسط قواعد المقابلات الصحافيّة، لكن الإعلام الأميركي يحظى بسمعة باهرة لا يستحقّها في عالمنا العربي. وحقبة ترامب زادت من منسوب الدعاية لمصلحة الإعلام الأميركي… من قِبل الإعلام الأميركي. وفيلم «ذا بوست» لم يكن إلّا مبادرة (سريعة ومُتسرِّعة فنيّاً) من قبل ستيفن سبيلبرغ لتبجيل الإعلام في مواجهة عهد ترامب. الفيلم زوَّر الحقائق التاريخيّة وأسبغ بطولة ــــ لا تستحقّها ــــ على جريدة السلطة. لم يكن قرار الـ«بوست» بنشر «أوراق البنتاغون» بإرادة منها بقدر ما كان بمبادرة من الصحافي الشجاع ابن بغديكيان (عملَ في ما بعد عميداً لكليّة الإعلام في جامعة كاليفورنيا في بيركلي وهو صاحب مؤلّف «احتكار الإعلام» والذي يوجّه فيه نقداً شديداً للإعلام النافذ، مثل «واشنطن بوست»). وبالغ الفيلم في دور الـ«بوست» على حساب «نيويورك تايمز» التي أدت الدور الأكبر في إبراز الوثائق ونشرها (وليس صحيحاً ما وردَ في الفيلم أن نيكسون امتعضَ من نشر الوثائق، إذ إنه سُرَّ لنشرها لأنها تتعرّض لحرب جرت، في معظمها، تحت إدارات ديموقراطيّة).
أما الكتاب الذي بين أيدينا فهو مُوثَّق على طريقة كتب وودوارد. يقول في حواشي كل فصل: «إن المعلومات الواردة في هذا الفصل أتت بصورة أساسيّة من مقابلات متعدّدة جرت مع مصادر مباشرة على أساس (الخلفيّة العميقة)». لكن، كيف نثق بوثيق كهذا من دون أن نعلم هويّة المصادر وموقعها وأغراضها؟ وقد ثبتَ في الماضي أن مزاعم وودوارد مشكوك فيها، كما حدث في كتابه «حجاب» الذي زعم فيه أن مدير المخابرات الأميركيّة، ويليام كيسي، كان يخصّه بمقابلات، بما فيها مقابلة على سرير احتضاره. وقد نفت عائلة كيسي، التي لم تفارقه، أن يكون وودوارد قد تسرّب إلى غرفة كيسي في المستشفى. وفي هذا الكتاب، ليس صعباً (كالعادة) معرفة المصادر في فصول الكتاب: واضح أن ستيفن بانن تحدّث إليه باستفاضة، كما تحدّث إليه روب بورتر وغاري كوهن ولينزي غراهام، بالإضافة إلى مقابلات مع بعض وزراء ترامب.
الكتاب يعطي صورة عن الحكم في عهد ترامب. هو لا يختلف عن الصورة التي رأيناها من قبل في كتاب مايكل وولف «النار والغضب (الإلهي)» لكنه يعطي تفاصيل إضافيّة بحكم تعدّد المصادر التي تحدّثت إلى المؤلّف. لكن أخطر ما في الكتاب هو الذي لم يثر اعتراضات الإعلام الغربي: أن هناك مسؤولين رفيعين في البيت الأبيض وفي الإدارات المختلفة ممن يخالفون مشيئة ترامب (النابعة من شرعيّة انتخابيّة) وذلك لأنهم يرون أن مصلحة أميركا تقتضي ذلك. والنماذج التي تعرّض لها وودوارد تظهر فيها سيطرة أجهزة الإمبراطوريّة على مقدّرات السياسة الخارجيّة الأميركيّة. الرئيس الأميركي، مثلاً، لم يستطع أن ينسحب من أفغانستان. أجهزة الإمبراطوريّة الحاكمة (وهي ثابتة على مرّ الإدارات) لم تكن تريد «ترك» أفغانستان لأعداء أميركا، وهي ضغطت على ترامب لا من أجل إبقاء القوّات الأميركيّة هناك، بل لنشر قوّات إضافيّة مدعّمة بقوّات متحرّكة لوكالة المخابرات. وترامب ينزع لعمل أجهزة المخابرات في دول العالم لأن عملها أقلّ كلفة ماديّاً وبشريّاً (الكلفة البشريّة لا تحتسب حياة السود والملوّنين). وحدث أمر مماثل في كوريا الجنوبيّة: أرادَ ترامب أن يسحب القوّات الأميركيّة من كوريا الجنوبيّة، لكن القيادة العسكريّة لم تسمح له بذلك.
ضعف ترامب الإداري (أي أن أجهزة الحكومة المدنيّة والعسكريّة لا تزال ترفض تقديم الولاء له) يسمح لمعارضيه بين مستشاريه ووزرائه بمخالفة مشيئته. ولأن ترامب كسول ذهنيّاً ولا يقرأ التقارير المُقدَّمة له، فإن تضليله وخداعه يكون سهلاً.
والذي يكسبه ترامب في مظاهر الحكم وفخامته يخسره في السياسات التي يريد تنفيذها. هو يفضِّل الطاعة والولاء على الكفاءة، والثناء والتملّق على الصدق. هذه الصفات لا تفيد الحاكم، وهي حتماً لا تفيد السياسات التي يرتئيها. يعرف مستشارو ترامب أن تركيزه ضعيف ويتمحور حول صورته في الحكم أكثر مما يتمحور حول طرق تنفيذ السياسات. لكن هناك من القضايا التي تهم ترامب ويلاحقها بتركيز غير موجود في ملاحقته لقضايا أخرى. أهم هذه القضايا هي التجارة التي لا يريدها هذا الرأسمالي أن تكون حرّة إذا لم تكن في خدمة الرأسماليّة الأميركيّة. هو يريد انتصارات عسكريّة تلفزيونيّة ضد «طالبان» وضد «داعش»، لكن مصارحة القادة العسكريّين له بأن لا نصرَ يلوح في أفق المعركة ضد «طالبان» في أفغانستان لم تمنعه من الموافقة على نشر قوّات أميركيّة إضافيّة. ويحرص ترامب أيضاً على معاقبة إيران بسبب الاتفاقيّة النوويّة، وهو مستعد من أجل ذلك على معاداة كل أوروبا.
والكتاب يفضح الكثير عن الديموقراطيّة الأميركيّة وعن اعتباطيّات اتخاذ القرارات فيها وخداع العالم. وهذه الديموقراطيّة في حالة مرضيّة، وقد يدفعها ذلك إلى مزيد من الخطورة والتهوّر في العلاقات الدوليّة.
(يرد في الكتاب، مثلاً، أن ترامب لا يقرأ تقارير ولا تزيد معرفته عمّا يراه على شاشة «فوكس»، وجرت دراسة قبل سنوات عن مشاهدي «فوكس» طلعت في نتيجتها أنهم أقلّ معرفة بشؤون العالم وأكثرهم تصديقاً لنظريّة أن صدّام حسين هو الذي دبّرَ تفجيرات ١١ أيلول).
قرّرَ ترامب مثلاً أن إيران خالفت الاتفاقيّة التي وقعت عليها. أعلمه مستشاروه أن الأمم المتحدة وأجهزة الاستخبارات الأميركيّة تجزم بأن إيران التزمت بالاتفاقيّة. هنا تمحور النقاش بين ترامب ومستشاروه حول طرق إعلان… مخالفة إيران للاتفاقيّة النوويّة. الحقائق والأسانيد لا أهميّة لها أمام السياسات وأمام حدس الرئيس الأميركي. وزير الدفاع الأميركي يجاري ترامب ويقول له إن إيران «ربما ملتزمة تقنيّاً» (ص. ١٣١) بالاتفاقيّة، كأن هناك التزامات غير تقنيّة في اتفاقيّة هي تقنيّة في الجوهر والشكل. رئيس أركان البيت الأبيض يقترح خدعة أخرى: تحويل الاتفاقيّة إلى معاهدة رسميّة تحتاج إلى تصديق بأكثريّة الثلثين من مجلس الشيوخ (أخطأ النظام الإيراني، من جملة أخطاء أخرى، في مفاوضاته مع إدارة أوباما عندما لم يصرّ على رفع مرتبة الاتفاقيّة إلى معاهدة رسميّة). وعندما لم يعدْ هناك من مجال للزعم بأن إيران خالفت الاتفاقيّة، باشرت الإدارة الأميركيّة خطط «تخريب» (ص. ١٣٣) في داخل إيران للتأثير على الشعب الإيراني، بالإضافة إلى خطط لمواجهة إيران في أعمالها. ومن المرجّح أن ترامب يعارض الاتفاقيّة (التي لا يعلم عنها إلا العنوان مع التعليقات عليها على شاشة «فوكس») فقط لأنها ترتبط باسم أوباما، ولهذا هو يلمّح الى أن إيران يمكن أن تنال أكثر منه لو فاوضت معه (وهذا ما فهمه حاكم كوريا الشمالية، أن المجد يعلو عند ترامب على الأمن القومي).
وفي الموضوع السوري وقرار ترامب بقصف سوريا، فإن طبيعة اتخاذ القرار تبدو شخصيّة إلى أبعد حد. يبدو أن الوسط الليبرالي ــــ الصهيوني، الذي تدور فيه إيفانكا ترامب وزوجها، أراد عملاً عسكريّاً أميركيّاً، لا لأن أمثال هؤلاء يعطفون على الشعب السوري ويتحسّسون آلامه، بل لأن المؤسّسة الصهيونيّة الحاكمة رأت أن عملاً عسكريّاً ضروري من منظور المصلحة الإسرائيليّة. وكان لإيفانكا ما أرادت. وترامب طرح فكرة اغتيال بشّار الأسد، إلاّ أن وزير الدفاع طرح أمامه مشاريع ردود «محدودة» ــــ بمقياس العسكريّة الأميركيّة. (قصّة أن القانون الأميركي يُحرِّم الإغتيال هو خدعة دعائيّة نتجت من افتضاح عمليّات اغتيال أميركيّة حول العالم في السبعينيات. صحيح أن رونالد ريغان وقّعَ قراراً «تنفيذيّاً» ــــ وهو يحمل وزن القانون ــــ في عام ١٩٨١ بتحريم الاغتيال (ص. ١٨١)، لكن الرئيس نفسه هو الذي أمر بقصف مقرّ سكن معمّر القذّافي. أي أن حيل القانون لا تقيّد الرئيس الأميركي بهذا القرار). ويبدو أن بانون هو الوحيد من فريق ترامب الذي عارض قصف سوريا (ص. ١٤٨) لأنه من أنصار الانسحاب العسكري من العالم (توجد القوّات الأميركيّة في أكثر من ٨٠٠ قاعدة عسكريّة في العالم، والقوّات منتشرة في ١٤٥ دولة، حسب تعداد من العام الماضي، ــــ والتعداد يشمل فقط الوجود غير السرّي). ويروي الكتاب ردّة فعل الرئيس الصيني الذي أعلمه ترامب في لقاء معه بأنه أمرّ للتوّ بقصف سوريا، فما كان من الرئيس الصيني إلاّ أن أجابه: «جيّد. لقد استحقّها» (ص. ١٥١). ماذا يقول الذين لا يزالون يعوّلون على دول «البريكس» لكسر السيطرة الأميركيّة العالميّة عن هذا الحديث من الرئيس الصيني؟
لكن الكتاب صريح في تصوير التخوّف الأميركي العسكري والاستخباري من نموّ القوّة الصينيّة. كل الكلام الحالي عن التدخّل الروسي في الانتخابات الأميركيّة (وهو حديث سياسي) يخفي التحضيرات الأميركيّة الهائلة للتعامل مع الخطر الصيني. إن قرار ترامب، الذي وقّعه في العام الماضي، بزيادة عدد سفن البحريّة الأميركيّة من ٢٧٧ إلى ٣٥٥ سفينة موجّه بالدرجة إلأولى نحو الصين. وورد في الكتاب عرضاً أن الصين في تحضيرها لمواجهة العقوبات الاقتصاديّة الأميركيّة تحضّر لعقوبات اقتصاديّة (على شكل رسوم جمركيّة) ضد الولايات المتأرجحة في الانتخابات (وهذه المعلومة منسوبة إلى الاستخبارات الأميركيّة، وقد أفشاها ترامب قبل يومين) (ص. ١٥٨). إن قدرة الصين (وهي أكبر من قدرة روسيا عبر وضع إعلانات على فايسبوك لم تصل إلا إلى آلاف المشتركين) على التأثير المباشر على الانتخابات الأميركيّة دليل ليس على قدرة الصين العظيمة، بل على هزال الديموقراطيّة الأميركيّة وسقمها. وعوارض مرض الديموقراطيّة تفتح شهيّة أعدائها للتدخّل فيها ــــ لكن ليس أبداً إلى درجة التدخّل الأميركي الصارخ في شؤون كل دول العالم (عنوَنت صحف عربيّة أخيراً أن «أميركا تدعم العبادي لولاية ثانية»).
ينقل الكتاب عن مستشاري ترامب أنهم قرّروا أنه جاهل ومزاجي وعاجز عن التعلّم، كما أن له «آراء خطيرة» (٢٣٦). لكن حسب الكتاب، فإن مستشاري ترامب الذين أفضوا بمكنوناتهم لوودوارد هم أكثر خطورة منه. هؤلاء هم رسل الإمبراطوريّة التي لا تغيب عنها الحروب. هؤلاء الذين يطالبون ــــ دوماً ــــ بنشر المزيد من القوّات ودعم المزيد من الطغاة. ويظهر في الكتاب أن ترامب، بالرغم من لهجته العدائيّة وصلفه الخطابي، فإن غريزته هي «انعزاليّة» ــــ حسب التعريف الأميركي لهذه المدرسة في السياسة الخارجيّة. هي، كما صاح بها ترامب نفسه في اجتماع رواه وودوارد: «يجب أن نعلن النصر وننهي الحروب، ونُعيد القوّات إلى الوطن»
(ص. ٢٣٩). هذا الموقف هو الخطورة الذي يتحدّث بها مستشارو ترامب من وراء ظهره إلى وودوارد وصحبه.
السياسة الخارجيّة عند ترامب هي علاقات شخصيّة مع رؤساء دول. كلّما نال من المال والثناء من حاكم ما ــــ مهما كان هذا الحاكم، ولو حاكم كوريا الشمالية، العدوّ التقليدي لأميركا ــــ تودَّد ترامب إليه. وهذا ما أدركه عدد من الطغاة العرب، من السعوديّة ومصر. لا يحكم العلاقة بين ترامب وطغاة الخليج إلا المال، والمنافسة بين قطر وخصومها الخليجيّين تحوّلت إلى عمليّة مزدوجة من الإرضاء: نصفها موجّه نحو اللوبي “الإسرائيلي” (ولهذا منع النظام القطري بث الوثائقي عن اللوبي (الإسرائيلي) والذي استغرق إعداده شهوراً طويلة)، والنصف الآخر موجّه نحو ترامب، عبر صفقات سلاح عملاقة (بعض المُعلن منها سعوديّاً لن يصل إلى شيء، كعادة الإعلانات السعوديّة عن صفقات ومساعدات ومشتريات) واستثمارات في داخل أميركا.
لن يكون هذا الكتاب هو آخر العنقود. هناك مصالح تجاريّة اقتصاديّة عملاقة تقود الحملة ضد ترامب. «واشنطن بوست» مملوكة من الملياردير جيف بيزوس (صاحب شركة «أمازون»). وأجمل تعبير عن ارتباط المال بالإعلام هو الكلمة الوجدانيّة التي سطّرها وودوارد في مديح بيزوس في كتابه (ص. ٣٨٦). ومارك بينوف (ملياردير أقل شهرة) ابتاع قبل أيّام مجلّة «تايم». وأصحاب المال يريدون رئيساً تقليديّاً إمبراطورياً مطمئناً على شاكلة بوش أو أوباما أو كلينتون. بهذا المعنى، فإن ترامب يخيفهم… لكنه لن يترك الحلبة باكراً، وهو أكثر عناداً من نيكسون، والاستقالة غير واردة لديه، ولو كلّف ذلك البلاد حرباً أهليّة.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)