بين الديمقراطية والمغالبة – معين الطاهر
بين الديمقراطية والمغالبة – معين الطاهر
منذ نشوء الدولة القُطرية، وموضوعات الديمقراطية والحريات وتداول السلطة تراوح في مكانها في بلادنا العربية، سواءً في ظل أنظمة رجعية، أو تحت سطوة الانقلابات العسكرية، أو نتيجة حكم الحزب الواحد. وتحت مبرراتٍ شتى، تمتد من ضرورة صياغة نموذج خاص بنا، لم نتمكن بعد من ابتكاره، إلى استخدام التبرير الأيديولوجي والشعارات القومية والقضايا الوطنية والصراع مع العدو. أما النتيجة فواحدة، حكم للنخبة فقط، سواءً كانت حزباً أم عسكراً أم عائلة، وتغييب كامل لقطاعات واسعة من الجماهير عن المشاركة في صياغة مستقبلها، والدفاع عن قضاياها وأوطانها. يتساوى في ذلك الرجعيون والتقدميون، والملكيات الوراثية أو الجمهوريات التي يجدد لحاكمها، طالما هو على قيد الحياة، ويحدد الحاكم غالباً خليفته من بعده، في استفتاءات صورية، تناهز نسب المشاركة المزورة فيها إجماع الأحياء والموتى.
وإذا كان يسجل لانتفاضات الربيع العربي (بما له وما عليه) أنها رسخت في الوجدان العربي أطروحاتٍ، مثل تداول السلطة، والتوقف عن تحويل الجمهوريات ملكيات، ومكافحة الفساد، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، ومشاركة فعالة للمرأة في الحراك الشعبي، إلا أن ثمة دروساً ينبغي التعلم منها، وثمة مفاهيم متداولة ما زالت غير مكتملة في الوعي السياسي الجمعي، وتؤخذ على علاتها، وبما فيها من قصور، أو عدم ملاءمة للظروف المحلية، مقتفين، في ذلك، النموذج الديمقراطي الغربي، من دون إدراك أنه عندما واجهت الديمقراطيات الغربية أزمات وطنية كبيرة، أو معارك حاسمة، فإنها لجأت إلى صياغة ائتلاف واسع، أو تشكيل ما تعرف بحكومات الوحدة الوطنية من كل ألوان الطيف السياسي، في تعبير عن وحدة الأمة في مواجهة أخطارها. وحسبنا أن نذكر، هنا، حكومات العدو الصهيوني في أثناء الحروب العربية الإسرائيلية، أو حكومة تشرشل في الحرب العالمية الثانية، أو حتى اللجوء المستمر للرئيس باراك أوباما، في مشاورة رؤساء حزب المعارضة في الكونغرس، للاتفاق على آليات مواجهة الأزمات.
|
ما تسعى إليه هذه السطور، في هذا السياق، هو التمييز بين الديمقراطية والمغالبة، ومحاولة رؤية ما تتطلبه الظروف الموضوعية لبلادنا العربية، في سعيها إلى التحرر والحرية والتقدم والوحدة. وينطبق هذا على كل أشكال الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، سواء في انتخابات لاختيار ممثلي الأمة، أو في النقابات والجمعيات الأهلية، أو حتى لدى صياغة التحالفات السياسية في شتى مواقع العمل السياسي والاجتماعي والنقابي.
من نافل القول، إن الفوز في أي انتخابات تتم بالأغلبية النسبية، أي أن التفوق على المنافسين بعدد قليل من أصوات الناخبين قد يكفي للحصول على الشرعية القانونية، إلا أنه قد لا يكفي لضمان قيادة المؤسسة، أو البلد، بطريقة ناجعة، تؤدي إلى تحشيد غالبية القوى، من أجل تحقيق الأهداف المعلنة. حسبنا أن نتذكر كم تبلغ نسبة الذين ينتخبون من إجمالي من يحق لهم ذلك، وهي، في أحسن النماذج، لا تتعدى الخمسين في المائة، وكم تبلغ نسبة الأصوات التي يحصل عليها الفائز، خصوصاً في ظل تعدد المرشحين من المجموع الكلي.
إن نتائج أي استقصاء محايد تقول إن الفائزين، عادةً، تتراوح نسبهم من إجمالي من يحق لهم التصويت ما بين عشرة إلى ثلاثين في المائة. وبمجرد إعلان النتيجة، يغدو الفائز قائداً للأمة أو الجمعية أو النقابة وممثلاً لها. قد يكون أكثر عدلاً، لو كان النظام الانتخابي مبنياً على نظام القوائم النسبية، المبني على حصول كل قائمة على مقاعد تماثل ما جنته من نسبة أصوات المقترعين. وبذلك، تتم مشاركة الجميع في القيادة والمسؤولية. لكن هذا النظام الانتخابي ما زال غائباً عن غالبية مؤسساتنا، بل إن القوى المسيطرة لا تكل ولا تمل في كل دورة انتخابية عن اختراع وتشريع قوانين جديدة، تكاد تنسف النزاهة والعملية الديمقراطية برمتها.
على أن أهمية هذا الموضوع يتجاوز الأرقام والإحصاءات والأطر القانونية، ليشمل الرؤى السياسية لظروف بلادنا العربية، وواقعها الاجتماعي والسياسي، وقوى الثورة والثورة المضادة، وتناقضها الرئيس مع أعدائها الخارجيين، وفي مقدمهم العدو الصهيوني. كما تمتد لتشمل التكوينات القومية والعشائرية والطائفية والجهوية، بما فيها الأقليات، وحقها في تمثيل عادل ومنصف.
إن بلاداً قسمها الاستعمار، وأنشأ فيها دولة الكيان الصهيوني، وتكالبت القوى الإمبريالية على نهب خيراتها، ورعاية بؤر الفساد فيها، وزرع بذور الانقسام والفتن بين أرجائها، تحتاج إلى معادلة صحيحة، تجمع بين الممارسات الديمقراطية، وتنبذ فكرة المغالبة والاستئثار بالسلطة، وبناء أوسع تحالف وطني، في جبهة وطنية عريضة، تتكفل بالمحافظة على أهداف الثورة وحماية عملية التغيير.
في السنوات الأخيرة، وباستثناء التجربة التونسية، وفي ظلال الربيع العربي، فشلت تجارب في استخلاص الدروس، حين رفضت قوى الأقلية الاعتراف بنتائج الانتخابات، وفشلت القوى الفائزة في استيعاب قوى الثورة الأخرى، وبناء جبهة وطنية متحدة معها، منحازة بذلك إلى سياسة المغالبة والإقصاء، بدلاً من الوحدة والتكاتف.
غني عن القول، إن سياسة المغالبة لا تتجاهل فقط النسب المتدنية، من حيث التمثيل الشعبي التي حازت عليها، وأهلتها لتسلّم مواقع القيادة والسيطرة، وإنما وبإقصائها الآخرين، تكون قد غلّبت التناقضات الثانوية على التناقض الرئيسي للشعب والأمة. بل يتعدى الأمر ذلك، حين تفتح هذه السياسة الباب واسعاً أمام الانقسام، وتصبح وصفة جاهزة للتفتت وإضعاف الأمة، وإجهاض الثورة، بل، تكاد تكون أحياناً مقدمة لصراعات طويلة وحروب أهلية.
ويبقى القول، إن القوى الفائزة، أو الأكثر جماهيرية، هي بمثابة أم الولد في الرواية الشعبية الدارجة، وعَلَيْه، فإنها تتحمل المسؤولية الأكبر، في الحفاظ على وحدة قوى الشعب المؤيدة للثورة والتغيير، وفي بناء الجبهة الوطنية المتحدة في شتى مواقع العمل والنضال.