بين الوقائع المُعْلَنَة والمعلومات السريّة – منير شفيق
ليس هنالك سياسة من دون تقدير موقف. فكل سياسة تبنى على تقدير موقف محدد حول الموضوع الذي تتناوله. وسواء أدخل الوعي المباشر في عملية تقدير الموقف أم لم يدخل، فلا مفر من القيام بعملية تقدير الموقف.
والمقصود بتقدير الموقف هو الوصول إلى معرفة صحيحة حول سياسة معينة، أو ميزان قوى، أو شخص وما يريد، أو علاقة ما بين دولتين أو طرفين، وهكذا. ولهذا فإن المشكلة الأساسية هنا تكمن في المنهجية التي تتبع في الوصول إلى تقدير الموقف. ويراد في هذه المقالة التركيز على المنهجية التي تعتمد على الحقائق المنشورة والمعروفة في مقابل المنهجية التي تستند إلى المعلومات السريّة خارج نطاق الحقائق المعتمدة من قِبَل المنهجية الأولى.
يغلب على الكثيرين من القادة والمحللين والصحفيين، كما على الكثيرين ممن تحاورهم، الاعتماد على توفر معلومات سرية لديهم خارج نطاق ما هو معروف ومنشور، أو ظاهر من خلال الممارسة والفعل العملي. فالحقائق أو الوقائع التي يستند إليها تقدير الموقف جاءت هنا من معلومات سرية لم تصل إلى الإعلام أو الإعلان عنها، أو ممارستها.
يحاول الذي يقدم تقدير الموقف على أساس المعلومات السرية أن يُسكتك (أو “يخمك”) بحقائق لا تعرفها. ولم تخرج إلى العلن. وبهذا ينسف ما لديك من تقدير موقف بني على حقائق، أو وقائع استمدت مما هو معروف ومنشور. ومن ثم جرت عملية الوصول إليه من خلال التعاطي مع تلك الحقائق من حيث كيفية الربط في ما بينها، وكيفية تحديد المهم والأكثر أهمية أو الأقل أهمية بين عناصرها وذلك عند عملية التحليل والتركيب للوصول إلى تقدير الموقف.
وها هنا يمتاز تقدير موقف عن آخر، ويتقرر الصواب أو عكسه من خلال التجربة وما يلي من أحداث، أو قل من خلال النتائج. فالنتائج هي الحكم الفصل في تحديد أي من تقديرَيْ موقف كان صوابا. وذلك بالرغم من أنهما امتلكا الحقائق والوقائع نفسها ولكنهما اختلفا في إعطاء الأهميّة لكل جانب من جوانب تلك الحقائق والوقائع.
أما مشكلة تقدير الموقف الذي يعتمد على المعلومات السرية فتكمن في الاعتماد عليها من دون أن يكون قد وصل إلى تقدير موقف من خلال ما هو معروف من وقائع وحقائق وممارسة. ومن ثم يقيم تقديره للموقف على أساس تلك المعلومات حتى لو تضاربت مع ما هو معروف من حقائق ووقائع وممارسة. وذلك باعتبار أن ما جاء في المعلومات السرية هو ما يجب الاعتماد عليه. طبعا هنا أيضا يجب أن تكون النتائج هي الحاسمة في تقرير مدى صحتها. ولكن مع ذلك يستمر الاعتماد على المعلومات السرية، لا على تحليل الوقائع.
هذه المنهجية التي تضع الكثيرين من القادة والمحللين وغيرهم تحت رحمة المعلومات السرية كانت سببا في كثير من الويلات التي نجمت عن التقدير الخاطئ للموقف. وذلك لأن المعلومات السرية التي تكون في أغلبها سرية جدا أو بحاجة إلى تدقيق وتصحيح، وتؤخذ كأنها حقائق لا تناقش تقود إلى تشكيل تقدير موقف خاطئ. وهذا يقود بالضرورة إلى سياسات وممارسات خاطئة، وربما مدمرة، لأن ما بني على ما هو خاطئ أو مزور (كليا أو جزئيا) سيخرج خاطئا كليا أو جزئيا (وجزئيا أسوأ من كليا).
طبعا لا مفر في الحياة والسياسة، وحتى العادية بين الناس، أن تكون هنالك حقائق ووقائع وممارسات سرية أو غير مكتملة الملامح والسمات. ومن ثم تبقى ثمة حاجة إلى استيفائها وذلك إما من خلال الانتظار والتأني حتى تتبين أكثر (وهذا أصح وأسلم) وإما من خلال البحث عن المعلومات السرية، مما يزيد من إغراء الوقوع في براثن المعلومات السرية. وهنا تجد الذين يتصرفون باعتبارهم يمتلكون معلومات سرية أو يعرفون “الأسرار” يسعون إلى السيطرة على تقدير الموقف وصولا حتى إلى إنكار حقائق ووقائع وممارسات معروفة أو تأويلها وفقا لسلطة المعلومات السرية.
لا شك في أن القسم الأعظم فيما يسرب من معلومات يكون موجها ومفبركا، ويراد التأثير فيك أكنت نصيرا أم خصما. أما المعلومات الصحيحة فلا تسر لأنها تصبح خطرا على مصدر المعلومات السرية. الأمر الذي يعرض الاختراق إلى الانكشاف. فالمعلومة السرية التي تتوفر من خلال الاختراق، تظل في غاية الكتمان ولا تصل إلى من سيسربها إلى أذنك “بينك وبينه”.
ولهذا فإن المعلومات السرية حين تصبح قيد التداول، ولو بعد التحذير بأنها تنقل إليك وحدك ويشترط عليك بأنها تنقل إليك وحدك. ويشترط عليك ألا تخبر بها أحدا (هو في الواقع يعرف أنك ستوزعها بالطريقة نفسها) يجب أن يشك فيها وتخضع للتأكد منها.
فالمنهج الصحيح أن يكون لديك تقدير موقف مستند إلى ما هو منشور ومعروف من حقائق ووقائع وممارسة. أما إذا ما وصلتك معلومة سرية فإن عززته فأهلا وسهلا، وإن لم تعززه فيجب ألا يسمح لها أن تحل مكانه إلا إذا كانت صدقيتها عالية إلى درجة مائة بالمائة، وهيهات أن يكون الأمر كذلك.
فكل مناقشة تقوم حول تقدير موقف ما يجب أن تستند إلى ما هو معروف ومؤكد من حقائق ووقائع وممارسات منشورة ولا جدال حولها ليصبح الخلاف بين تقدير موقف وآخر مستندا إلى مدى ما يعطيه كل تقدير موقف من أهمية وأولوية لكل من الحقائق والوقائع والممارسات. وهو ما يؤدي إلى الاختلاف في تقدير الموقف. أما اللجوء إلى “سلطان” المعلومات السرية و”سحرها” لحسم النقاش أو الخلاف حول تقدير الموقف فيجب أن يوضع جانبا فلا يلزم إلا صاحبه.