تجارب من الداخل والشتات تسائل جروح الهوية
ليست حدثاً عاديّاً أن يجمع مارك هاشم مجموعة أعمال فلسطينيّة معاصرة لـ ١٨ فناناً من أجيال مختلفة، تتراوح بين اللوحة التقليديّة واللغات البصريّة والمفهوميّة، ويقدّمها ضمن معرض شامل في بيروت: «جسر نحو فلسطين»، في هذه اللحظة السياسيّة والحضاريّة المأزومة. وقد شاءت عبثيّة الروزنامة العربيّة أن تأتي الحرب الاسرائيليّة على غزّة، لتجعل من هذا المعرض تحيّة لبنانيّة من الصميم إلى فلسطين الجريح بعدما انفض عنها الأعاريب، غارقين في نعراتهم الفئويّة والمذهبيّة والشوفينيّة
لا يتقادم الموضوع الفلسطيني في الوجدان الشعبي والأدبي والفني. لكن التعبيرات والممارسات المنضوية فيه ليست في منأى عن هذا التقادم. وهو تقادمٌ لا يُصيب الحق السياسي والأخلاقي الموجود داخل قضية عربية كبرى مثل فلسطين طبعاً، بل يمكن أن ينال أحياناً من حضورها في الأشكال والأساليب والحساسيات المنجزة عنها.
معرض «جسر نحو فلسطين» الذي تنظمه «غاليري مارك هاشم» في «مركز بيروت للمعارض»، مثالٌ على مجموعة من الإشارات والملاحظات التي تثيرها التجارب المعروضة العائدة إلى 18 فناناً وفنانة يقيمون في فلسطين والشتات. فكرة المعرض تقترح جسوراً عدة وليس جسراً واحداً يربط الهوية بالوطن. هناك جسور وصلات مرئية بوضوح وأخرى مواربة وخفية بين الأسماء المشاركة نفسها. جسورٌ تقترح حوارات مستجدّة بين هذه التجارب وداخل كل تجربة على حدة أيضاً. ولعل هذه الحوارات التي لا تكون هدفاً واضحاً لمنظمي هذا النوع من المعارض المشتركة، هي الأكثر أهمية لناحية توليدها لانطباعات جديدة هي حصيلة حضور أعمال مختلفة في مكان واحد، ولحظة عرض واحدة لا تكون عادةً في بال الفنانين أنفسهم، بينما يحظى زائر المعرض بفرصة إجراء مقارنات عدة تتألف أمامه وهو يتجول في المعرض. وإذا كان هذا جزءاً من ثراء المعرض، فإن ذلك لا يُعفيه من إشكالية تتعلق أولاً بحصر الفن الفلسطيني بتعبيراته عن فلسطين فقط، وتتعلق ثانياً بعرض أعمال قديمة وعادية لمجرد أن موضوعها مناسب لفكرة المعرض. ربما تكون الملاحظة الأولى ذات وجاهة أقل طالما أن عنوان المعرض يسري على مضمون الأعمال المشاركة فيه، ولكن عرض أعمال قديمة بعضها يعود إلى الثمانينيات والتسعينيات كما في لوحات ياسر بركات التي نرى فيها موضوعات وكليشيهات تقليدية التصقت بالقضية الفلسطينية منذ النكبة، وفي تجهيز «أيقونة ليافا» لناصر السومي الذي عُرض أول مرة عام 1996، قبل أن يُعرض في مناسبات أخرى أيضاً.
ليست هناك مشكلة طبعاً في عرض أعمال قديمة إلى جوار أعمال حديثة، لولا أن ذلك يضيف ثقلاً إضافياً على عنوان المعرض، ويعزز الانطباع المسبق الذي ينبغي أن يصنعه لدى المتلقي. هناك رؤية لدى المنظمين (ولدى الجمهور العريض أيضاً) أن فلسطين كقضية مقدسة ومستمرة ومؤجلة الحل لا تزال تتسع لاستعارات وترميزات متقادمة أو متكررة الاستعمال إلى جانب ممارسات جديدة يلتحق أصحابها بالتيارات الراهنة والمستقبلية للفنون المعاصرة.
أفكار وانطباعات مثل هذه تظل تنبعث من الأعمال المعروضة، بينما المتلقي مدعوٌّ لجولة بين أعمال متفاوتة في جودتها وطموحاتها، لكنها أعمال تتألف من حوارات فردية صعبة مع الهوية الفلسطينية، ومع جروحها وندوبها وسيرورتها التراجيدية. إنها أعمال مقاومة في العمق، وإن كانت تتوسل وسائط وممارسات تتجاوز هذا المعنى على صعيد الشكل والمنتج الفني. قد تكون أفعال المقاومة أوضح في أعمال مباشرة كما هي الحال في التجهيزات الفوتوغرافية لمحمد مسلم (1974) الذي يقترح استخدام حبات الزيتون كعقد في عنق امرأة، أو برتقالة مخترقة ببرغي معدني. وكما في أشغال ماري توما (1961) على الخيوط المزخرفة لتأليف خريطتين للضفة الغربية وقطاع غزة. وكما في شاشتي جدول الرحلات في المطارات اللتين وضع فيهما رأفت أسعد (1974) رحلة للخطوط الجوية الفلسطينية إلى القدس. وكما في أعمال رنا بشارة التي توثّق تضحيات الأسرى الفلسطينيين باستخدام تجهيز مكبَّر يُظهر الأصفاد التي يستعملها جيش الاحتلال الإسرائيلي في تكبيل الأيدي.
ونرى أعمالاً تصنع الانطباعات ذاتها لدى محمد الحواجري (1976) في كولاجاته التي يخلط فيها لوحات معروفة لشاغال ودالي ودولاكروا مع مشهديات القصف الإسرائيلي لغزة وجدار الفصل العنصري. وفي صور رانيا مطر الملتقطة في المخيمات الفلسطينية في لبنان. وفي الوجه الملثّم بكوفية فلسطينية في أعمال منذر جوابرة (1976).
هناك دوماً هذه الثيمة التي تواجهنا بخطاب سياسي ونضالي مباشر، لكنها تسمح بإظهار ممارسات وتعبيرات فنية قادرة على مزج خطاب المقاومة مع استثمارات شكلانية معاصرة مجلوبة مما يحدث في تجارب الفنون المعاصرة. الواقع أن هذا المزج هو صفة موجودة في أغلب الأعمال المشاركة التي تكشف أنّ أصحابها على صلة جيدة بما يحدث في سوق الفنون المعاصرة، وأن بعضهم يعيش فعلاً في قلب هذه السوق، حيث يقدم الشتات مساهمته «الفريدة» في تحويل التغريبة الفلسطينية إلى مادة منفتحة على مؤثرات خارجية لا تلغي الخطاب السياسي المعلن في العمل الفني من جهة، وتسمح من جهة أخرى بتسريب مقترحات جديدة على الممارسات المبذولة في إظهار هذا الخطاب. المنفى يُضاعف جرح الهوية والانتماء، لكنه يسمح بانفتاح هذه الهوية واحتكاكها بالتيارات والتجارب الأكثر راهنية في العالم، ويمكن أن يسمح لاحقاً بتجفيف أو اختزال البعد العاطفي والنوستالجي للقضية الفلسطينية، ما يمنح الفنان الفلسطيني أن يقدم نفسه كفنان متحرر من الضغوط السلبية للهوية. لا يحتاج هذا إلى منفى واقعي طبعاً، لكن النظرة من بعيد غالباً ما تسمح بهذا التحرر الذي يُغني الموضوع الفلسطيني أكثر. لقد حدث ذلك في الكتابات الشعرية والسردية لدى الأجيال الشابة، ويبدو أن الفن التشكيلي لا يزال متحفظاً في هذا السياق. وهو ما نجده مترجماً في المعرض، حيث المجازفات الفنية لا تتخلى عن المادة الفلسطينية حتى وهي تذهب بعيداً في التجريب. ينطبق ذلك على أعمال فنانة ذات تجربة طويلة مثل ليلى الشوا (1940) التي تشارك بأعمال منجزة بوسائط مختلفة، ومنها استثمار وجه الفدائي الملثم كأيقونة معاصرة يمكن أن تتكرر على طوابع بريدية تمثل فلسطين، أو الدعوة إلى نبذ الحرب والقتل من خلال تزيين بندقية كلاشنيكوف بقطع زجاجية وكريستالية وفراشات ملونة، وتحويلها إلى قطعة فنية مرصّعة بالجواهر. عمل يبدو أنّه نجا من ضغط الهوية وبدأ السباحة في فضاء أوسع، وإن كان الخطاب السياسي النابذ للحرب يسري على قتل الفلسطينيين أيضاً. لعل النجاة الأكبر تبدو في عملين من سلسلة «في المنفى» لستيف سابيلا (1975)، حيث نرى تكراراً مينيمالياً لشخص على نافذة، وتكراراً مماثلاً للنوافذ وحدها في مونتاج فوتوغرافي بالأبيض والأسود تتعزز حياديته بمناخات التجريد والصمت والعزلة الوجودية. مناخاتٌ تسمح للعملين ببثّ انطباعات تتجاوز الهوية الفلسطينية، وتصنع لهما هوية مماثلة للأعمال المعاصرة السائدة في العالم.
Al-akhbar
جسر نحو فلسطين»: حتى 3 آب (أغسطس) ــ «مركز بيروت للمعارض» ـ للاستعلام: 01/980650