تحول في موقف الكنيسة النرويجية من القضية الفلسطينية
نضال حمد
هل نشهد في الأسابيع أو الأشهر القليلة القادمة تبدلا وتحولا جذريا في موقف الكنيسة النرويجية من القضية الفلسطينية؟
بيان أساقفة النرويج الذي صدر يوم السبت 16-2-2002 كان شديد الوضوح فيما يتعلق بأدانة الأعمال والتصرفات (الأسرائيلية) بحق الفلسطينيين. كما أنه لأول مرة في تاريخ الصراع اتخذت الكنيسة موقفا متوازنا ومنطقيا ينصر الحق على الظلم والخير على الشر. ويدعم قيام دولة فلسطينية مستقلة ويطالب مسيحيي النرويج بالكف عن دعم الاحتلال (الاسرائيلي). وهذا بحد ذاته يعتبر صحوة للكنيسة التي كانت تغط في نوم عميق جعل مسيحيي فلسطين يعتبرون أنفسهم وحدهم في الحلبة ولا أخوة لهم في العقيدة والدين في المجتمعات المسيحية الأوروبية، المهيمن عليها من قبل اللوبي اليهودي والصهيوني. و المنساقة خلف الدعاية الصهيونية وحملات التشويه المستمرة. تلك التي كان لنفس هذه الكنيسة دورا هاما فيها، جعلها تأخذ موقفا مع (اسرائيل) وضد الفلسطينيين على خلفية فكرية، عقائدية و دينية تعتبر أن الحملة الصليبية لم تنته بعد، وربما لا تنتهي إلا بأنتصار الكيان الصهيوني على العرب.
لقد بقيت الكنائس الأوروبية مغلقة عيونها عن مأساة الشعب الفلسطيني إما جهلا أو تجاهلا. كما أن الكنيسة النرويجية كانت من الكنائس التي حملت راية الدفاع عن (اسرائيل) وخرجت منها قيادات عديدة ومعروفة في تعصبها وولائها للصهيونية. حتى أنها لم تبخل في جمع التبرعات والمساعدات وأرسال المتطوعين لمساعدة (اسرائيل) في بناء الكيبوتسات والمستعمرات على الأراضي الفلسطينية المحتلة والمصادرة.
الآن وبعد أكثر من خمسين عاما على قيام كيان (اسرائيل) على أرض فلسطين تبدلت الأمور وتغيرت الرؤى والمشاهد. حتى أن كل نرويجي تقريبا أصبح يعرف أن في فلسطين هناك مسيحيون يعيشون جنبا الى جنب بسلام وتلاحم مع اخوتهم المسلمين من أبناء فلسطين.
في السابق كان أكثرية الأوروبيين ومنهم النرويجيين يعتقدون أن الفلسطينيين هم فقط من المسلمين ولم يدروا أنه يوجد مسيحيين في فلسطين. رغم أن السيد المسيح هو الفلسطيني الأول الذي وقف ضد الظالمين مع المظلومين والمستضعفين، وضد الخير مع الشر، وضد الجهل ومع العقل، وضد الأرهاب ومع المحبة والسلام..
أما بالنسبة للكنيسة النرويجية فقد كانت الأعين مغلقة والألسن مربوطة والبصيرة قصيرة والتفكير محدود والمعقول غير معقول، فيما (اسرائيل) فوق الجميع والجميع عليهم الوقوف مع (اسرائيل) الوديعة، المسالمة وضد العرب ” الأشرار”… وعلى هذا الأساس تعاملت الكنيسة مع قضية فلسطين حتى جاءت مفاوضات أوسلو ومن ثم الأتفاقيات التي تمخضت عنها بين المفاوضين الفلسطينيين والكيان الصهيوني.
بدأت الكنيسة النرويجية تلعب دورا في عملية السلام وأخذت تتعرف على الواقع الفلسطيني عن كثب وعن قرب. كما أنها ساهمت في دعم الكنائس والجمعيات المسيحية الفلسطينية وأقامت هناك بعض المشاريع الخيرية والصحية والطبية والدينية، وذلك من خلال التنسيق مع الكنائس والقيادات الروحية المسيحية في فلسطين. تلك القيادات والكنائس المعروفة بفلسطينيتها وعروبتها والتزامها الكامل بقضية فلسطين العادلة. فكنائس فلسطين لها دور مميز وما يميزها عن غيرها من كنائس الشرق هو وجودها في أرض المهد والميلاد بكافة طوائفها وكنائسها على أختلافها. وهذا ما جعلها الجسر الواصل ما بين حضارتي الشرق والغرب.
بعد أوسلو وخلال الفترة التي تلت توقيع اعلان المبادئ وقيام سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني المحدود وأصبحت مواقف الكنيسة تتبدل وتتغير حسب الظروف والأحداث. كما أن الكنيسة بدأت تتفهم معاناة الشعب الفلسطيني من خلال الزيارات الميدانية الكثيرة التي تمت تلك الفترة والتي أمتدت لغاية هذه الأيام. وعلى هذا الأساس أخذت الكنيسة تعيد تقييم موقفها وتعيد بناء فهمها للصراع. لقد بدا واضحا من هو الظالم ومن هو المظلوم، ومن الضحية ومن الجلاد، ومن الخيّر ومن الشرير. هكذا بدأت حملة التغيير في المواقف، مرتكزة على فهم حقيقي للمأساة ولحجم المعاناة التي يسببها الاحتلال (الاسرائيلي) للشعب الفلسطيني. كما أنهم فهموا المطامع (الاسرائيلية( والنوايا التوسعية من خلال فشل السلام في حملهم على وقف الاستيطان ومصادرة الأراضي. فحياة الفلسطينيين تحت رحمة المستوطنين والمحتلين، في المناطق التي يعيشون فيها أشبه بالغيتوهات والكانتونات. فهي معازل حقيقية تفتقد لمقومات الحياة الأنسانية الكريمة. كل هذا باسم السلام وباسم الأمن (لأسرائيل). على الرغم من كافة المظالم وافق الطرف الفلسطيني على ما أبتلي به بفضل الصمت العالمي على عدوانية وتوسعية ودموية (اسرائيل). وأبدى مرونة وقدم تنازلات في كل جولات المفاوضات. ومن ثم في الأتفاقيات ظنا منه بأن الجانب (الأسرائيلي) سيتعامل بالمثل. يا لبؤس وغباء المفاوض الفلسطيني…
كل تلك الأمور مجتمعة ساعدت على بلورة موقف الكنيسة النرويجية التي بهذه الطريقة تكون ربما أقرب للتكفير عن ذنبها من المساندة الفعلية للحقوق الفلسطينية أو كلا السببين معا.
إنها ساعة العودة عن الخطأ وأكتشاف الحقيقة وساعة النهوض من السبات الطويل… ساعة المواجهة مع الذات واعادة تقيّيم المواقف وأتخاذها من جديد بما لا يدع مجالا للشك والريبة.
ما بيان الكنيسة يوم أمس وكلام الأساقفة النرويجيين إلا خير دليل على التغيير وعلى انقلاب الصورة والمواقف في الكنيسة النرويجية.
لنتأمل ونقرأ معا ما جاء في كلام الأساقفة :
الأسقف ” أولاف شيفيلاند” مطران مقاطعة أغدير قال: ” نحن النرويجيين من جهتنا يجب علينا أن نقول إن تصرفات (اسرائيل) غير انسانية وغير مقبولة”.
الأسقف ” أولي كريستيان كفارمي” مطران منطقة بورغ ” في السنوات العشرة الأخيرة اكتشفنا نحن المسيحيين النرويجيين اخوتنا الفلسطينيين، اخواننا في الدين. وهذا أدى الى خلق تفهم لوضعهم ومطالبهم في بناء وطنهم.. نحن يجب أن نعارض الاحتلال (الاسرائيلي) وخرقه لحقوق الانسان…”.
الأسقف “غونار ستولسيت” مطران أوسلو قال: ” من المعيب أن نجد في النرويج بعض المجموعات المسيحية التي تدعم الاحتلال (الاسرائيلي) للأراضي الفلسطينية… إن للفلسطينيين الحق في اقامة دولتهم المستقلة. ونستنكر بشدة سياسة الاستيطان (الاسرائيلية) وسياسة التصفية الجسدية والاغتيالات وخرق حقوق الأنسان”.
أما أسقفا شمال وجنوب النرويج، المطرانين ” تور يورغينسن و كوري سميلاند” اعتبرا أن الاسرائيليين” تجاوزوا كل الخطوط وهذا ما يفرق بينهم وبين كثير من المسيحيين “.
في حين قال السكرتير العام لمجلس الكنائس النرويجية ” ستيغ أوتنيم”: ” أعتقد أن الستة أشهر الأخيرة خاصة جعلت النرويجيين يعيدون تقويم موقفهم من (إسرائيل)…
قسم من الكنيسة النرويجية كما هي العادة كان صديقا حميما (لأسرائيل) وكان يجد مشاكل كبيرة في نقدها ولكن الآن حدثت صحوة وهذا ما يستوجب قلق (الأسرائيليين) .. يجب قيام دولة فلسطينية وعلى المجتمع الدولي دعمها”.
بصراحة هذه المواقف تعبر عن انقلاب في رؤية المطارنة وعن ثورة في موقف الكنيسة النرويجية وقد تعصف أو تضعف هذه الثورة جماعة (اسرائيل) التي لطالما بقيت مهيمنة على الكنيسة والعباد وآراءهم .. نأمل أن يكون هذا التحول بادرة خير باتجاه فلسطين والشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية العادلة.
بقلم : نضال حمد
18-2-2002