تداعيات كورونا على العلاقات الدولية والإنسانية – بروفيسور عبد الستار قاسم
كورونا لم تعد مجرد مرض، وإنما هي قضية دولية تستدعي التفاعل الدولي والتعاون من أجل مواجهتها ووقاية الشعوب والأمم من خطرها. ومن المفروض أنها ليست قضية سياسية تبرز من خلالها الخصومات والأحقاد والمثالب والرغبة في الانتقام والتشفي، فهي فيروس لا يميز بين أخضر وأحمر وأصفر وأسود وأبيض، ولا بين نيبالي أو موزامبيقي أو عربي أو صيني أو أوروبي. إنه فيروس هائج يصيب الناس على اتساع العالم، ولا يبدو أن دولة ستنجو من إصاباته. ولهذا دعت منظمة الصحة العالمية الدول إلى الاستنفار والتعاون لكي يتجنب العالم أخطار عدو صعب لا يهادن ولا يفاوض ولا يساوم.
ولأن كورونا عدو عالمي لكل العالم، لا بد أن تستند الأمم والدول بعضها إلى بعض إذ لا يوجد دولة واحدة تتمكن من مواجهة كورونا وحدها وبمعزل عن الدول الأخرى بمن فيها الولايات المتحدة والصين. على الأقل، تتطلب كل دولة من الدول الأخرى وبخاصة دول الجوار أن تقوم بما يجب من إجراءات للقضاء على الوباء حتى لا ينتقل إلى الآخرين إذا أقام فيها. العالم متداخل ومتشابك العلاقات، والتنقل سمة من سمات العصر والحركة السكانية العالمية في نشاط مستمر، وسنة بعد سنة يرتفع منسوب التشابك العالمي، وتتعقد العلاقات الدولية بالمزيد.
يشكل هذا الوضع الذي تسبب به كورونا اختبارا للعالم وقدرته على التعاون ووضع الخلافات السياسية والاقتصادية جانبا حتى تحقيق القضاء على الوباء. لم يشهد العالم سابقا قضية عالمية مشتركة تستدعي تعاون كل الدول حتى زمن الحرب العالمية الثانية. لم تشارك كل دول وشعوب العالم في الحرب العالمية الثانية على الرغم من أن تأثيراتها طالت الجميع. لم يكن من الضروري استنفار كل الأمم والشعوب في تلك الفترة لأن أغلب من ابتعدوا عن الحرب لم تطلهم كل النيران؛ أما الآن فالنيران مرشحة لتطال كل بيت.
متطلبات التعاون الدولي
هناك عدد من العناصر التي من المفروض أن تكون ضمن التعاون الدولي أذكر منها:
أولا: من المفروض وضع كل الخلافات الدولية جانبا الآن بغض النظر عن حجمها وإلحاحها وأهميتها والتركيز فقط على القضاء على الوباء الذي يطال الآن الغالبية الساحقة من دول العالم. لا يجوز أن تتغلب المزاجية الذاتية لأي دولة على جهود حشد الطاقات الدولية لمواجهة الوباء. وأول ما يجب الانتباه إليه هو الدول التي تطالها عقوبات خاصة من قبل الولايات المتحدة. العقوبات الأمريكية التي هي أصلا غير شرعية وفق القوانين الدولية تطال فنزويلا وإيران وكوبا وسوريا وكوريا الشمالية وروسيا واليمن وقطاع غزة ومختلف الشركات التي لم تلتزم بالأوامر الأمريكية.
امتنعت الولايات المتحدة حتى الآن عن تجميد عقوباتها وعن إلغائها، بل رفعت من حدة إجراءاتها ضد إيران على الرغم من أن إيران من أشد الدول تعرضا لخطر الوباء. لم تفلح كل المناشدات الدولية للإدارة الأمريكية بفك الحصار أو تخفيفه عن إيران التي تعبر باستمرار عن معاناتها في المجالات الطبية والصحية. إنها بحاجة ماسة لأدوية وتجهيزات طبية ومستلزمات، ولا تستطيع أن توفرها لنفسها بنفسها لأن الكميات المطلوبة ضخمة وعجلة الإنتاج الإيرانية لا طاقة لها بإنتاج ما هو مطلوب فورا في مدة قصيرة. بشهادة منظمة الصحة العالمية، إيران تقوم بجهود ضخمة وحثيثة ومركزة من أجل محاصرة الوباء لكن الأمريكيين ما زالوا يمنعون عنها العون والاستيراد على الرغم من المخاطر العالمية المترتبة على انتشار الوباء في إيران وغيرها من الدول المحاصرة مثل فنزويلا. ما يصيب إيران أو فنزويلا لا يقف عند الحدود مع الدول الأخرى.
شعرت بعض دول العالم بالمسؤولية لوقف انتشار الوباء مثل روسيا والصين وإيطاليا. هبت روسيا لدعم الصين والوباء في أوجه، وفعلت إيطاليا ذات الشيء. والصين ردت الجميل لإيطاليا مجرد أن شعرت أن لديها إمكانية مد يد لعون. والصين أعلنت عن استعدادها لمد يد العون لكل دولة تطلبه بخاصة أن خبرتها في مقاومة الوباء أوسع من خبرات الدول الأخرى. ولا يبدو أن الدول خارج منظومة الرأسمالية الليبرالية الحديثة تبخل بخبراتها وإمكاناتها على دول يتهددها الوباء. وإذا كان هناك من الدول من تمتنع عن مد يد العون فذلك بسبب الخوف من أمريكا وليس بسبب البخل أو عدم الشعور بالمسؤولية.
دول كثيرة تعاني الفقر والأزمات المالية والاقتصادية ولا تتمكن من مواجهة هجوم للوباء، وهي بحاجة لدعم الدول الأخرى. واضح أن الدول لا تتلكأ في تقديم ما يمكنها من الدعم إلا السيد ترامب الذي يفخر دائما بأنه يقود أقوى دولة في العالم.
ثانيا: البحث عن عقار أو لقاح أو مصل بتعاون وتبادل سلس للمعلومات. دول عدة تعمل حاليا بدأب وبصورة حثيثة على تطوير لقاحات وأمصال لمواجهة تفشي الوباء. ألمانيا وروسيا وكندا وإيران وأمريكا وفرنسا والصين ودول أخرى توظف مراكز أبحاثها الصحية والطبية للبحث عن علاج يقي العالم خطر الوباء. والدول تتسابق لتطوير العقار المطلوب في الغالب لسببين وهما تحقيق السبق وتحصيل أرباح مالية. السبق يعد إنجازا عالميا كبيرا يترتب عليه الاعتزاز والفخار، ويجلب احترام الآخرين وتقديرهم. هناك مكاسب معنوية مترتبة على السبق في تقديم العلاج. وبالتأكيد هناك مكاسب مالية لمن يقدم العلاج لأن العلاج مطلوب على المستوى العالمي. سيكسب من يسبق مليارات الدنانير أو الدولارات.
العالم ينهمك في الاختبارات والفحوص، والعلماء في دول عديدة يصلون الليل بالنهار من أجل الإنسان والرئيس الأمريكي يتآمر لسرقة إنجازات الآخرين. تحت جنح الظلام، يستدعي ترامب مدير شركة أدوية ألمانية ويعرض عليه مليار دولار مقابل تطوير عقار باسم الولايات المتحدة. هذا الأمريكي ليس رئيسا بقدر ما هو قاطع طريق.
جميل أن تقوم الدول بجهود ونشاطات نحو تطوير لقاح، لكن الأجمل أن تعمل الدول على تبادل المعلومات والنتائج التي تتوصل إليها في أبحاثها العلمية. التعاون الدولي يجعل الطريق نحو التوصل إلى عقار أقصر. تبادل المعلومات مفيد جدا في الإسراع نحو إنقاذ الناس وتوفير الجهود والأموال. الأولوية هي لتطوير العقار ولو على حساب المكاسب المعنوية والمادية.
ثالثا: مطلوب تسهيل الحركة التجارية والتأشيرات لعبور الأشخاص المتخصصين صحيا وطبيا والمعدات والمستلزمات الطبية والصحية الضرورية للدول الأخرى. المفروض إزالة تعقيدات المرور، وتعقيدات الجمارك ودوائر المخابرات لأن في التأخر ضررا كبيرا قد يصيب المصابين في الدولة المستهدفة. كما أنه من المفروض تسهيل مرور الأموال عبر المصارف بخاصة للدول الواقعة تحت الحصار. هناك تضييق أمريكي على تحويل الأموال إلى بعض الدول والكيانات مثل غزة وإيران، والمطلوب التوقف عن هذا الحظر.
هل ستؤثر مثل هذه الأمور المطلوبة على العلاقات الدولية؟ نعم بالتأكيد. التعاون في أوقات الشدة يقرب القلوب، ويخفف كثيرا من الأحقاد والكراهية والبغضاء. والشدة هي اختبار للدول كما هي للأشخاص لأنها تكشف عن معدن الدولة ومعدن الشخص على حد سواء. الدولة الصادقة التي تتصرف بمسؤولية وحرص تتصرف كما يتصرف العقلاء الملهمين وقت الشدائد. إنهم يتغاضون عن صغائر الأمور ويرتقون بمشاعرهم وأحاسيسهم بالمسؤولية تجاه الآخرين. والتصرف العقلاني يخفف من التوتر والمشاحنات والخصومات، ومن المحتمل أن يحول التصرف المسؤول العدو إلى صديق، والعلاقات المقطوعة إلى تعاون يقوم على المحبة والود المتبادل. ولهذا من المتوقع أن تتطور العلاقات بصورة إيجابية بين الصين وإيطاليا، وبين الصين وإيران، وبين روسيا وإيطاليا والصين وإيران وفنزويلا. أي أن علاقات التعاون ستتطور بين الدول التي تبادلت المساعدات وتبادلت المعلومات والخبرات.
المشكلة تبقى في الولايات المتحدة التي تبخل بالمجاملات والخبرات والأموال والكلمات اللطيفة، ولا تعير انتباها لما تعاني منه دول ذات قدرات علمية وتقنية ومالية محدودة. ولم يتورع الرئيس الأمريكي عن وصف الفيروس بالفيروس الصيني مفسرا بأنه قال بهذا الوصف ردا على اتهام الصين للجيش الأمريكي بنشر الفيروس. في حين أن مجلة فورين بوليسي الأمريكية هي التي فتحت باب الشكوك حول الدور الأمريكي في نشر الفيروس. أمريكا محدودة التعاون مع الآخرين، ولو كان العالم حرا من الضغوط والعقوبات الأمريكية لتعرضت أمريكا إلى تكتلات دولية تعمل على مقاطعتها. وعلى كل الأحوال، إذا استمرت أمريكا بأسلوبها الإرهابي الحالي فإنها ستواجه تمردا عالميا يؤثر على أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية. لم تشكل الدول والشركات المعرضة للعقوبات الأمريكية تكتلا حتى الآن، لكنه من المتوقع أن يتطور إحساس جماعي بضرورة عمل نشاط ما لمواجهة الممارسات الأمريكية وإلحاق أضرار بالمصالح الأمريكية. استمرار الضغط الأمريكي على من يعارضون سياساتها سيولد ضده في النهاية.
من المتوقع أن ترتقي العلاقات الدولية بين مختلف الأمم لأن الشدة مشتركة، ولأن الخوف عادة يجمع القطيع. من المفروض أن تقام العلاقات الدولية على المنطق والعقلانية والرغبة في التعاون المتبادلـ لأن المصالح تطغى في أغلب الأحيان على العقل فتنشب التوترات والمخاصمات. والمؤسف أن للخوف تأثيرا أكبر على التقارب من العقلانية.
وبسبب ضعف التعاون الأمريكي أو عدمه، العديد من الدول المتعاونة تقليديا مع أمريكا ستأخذ عبرة وستكون أكثر حذرا في المستقبل في التعامل مع أمريكا إلا إذا أفرزت الانتخابات الأمريكية القادمة رئيسا أمريكيا متزنا عقليا.
من المتوقع أيضا أن يرتفع مستوى التعاون بين الدول في المجالات الصحية والطبية حتى لو انتهى عهد كورونا. أيقظ كورونا الأمم على النقص في المستلزمات الطبية والصحية، ووجدت العديد من الدول أن التعاون في هذه المجالات يجب أن يبقى نشطا حتى لا تكون هناك مفاجآت صحية مستقبلا. كورونا أخذ العالم على حين غرة، وفي الوقت الذي لم تكن فيه الدول مستعدة لتوفير المستلزمات لأعداد هائلة من الناس تفوق متطلباتهم ما هو مخزون لديها. سجد مزيدا من المؤتمرات الطبية والندوات والتدريبات مستقبلا على مستوى العالم، وستنهض الاتفاقات الدولية والثنائية الخاصة بالتعاون الطبي والصحي. وتبادل المعلومات سيكون على رأس بنود هذه الاتفاقيات. أما الدول لخاضعة للعقوبات الأمريكية فستكون أكثر اهتماما برفع مستوى التعاون الدولي.
من ناحية أخرى، ترفع كورونا من أهمية القيم الإنسانية التي تركز على العمل الجماعي والتعاون المتبادل وعلى تقدير قيمة الإنسان والمحافظة على حياته بقدر الإمكان ووقايته من الأمراض السارية والمفاجئة. الاهتمام بالإنسان سيتصاعد، ليس فقط فيما يتعلق بالحقوق السياسية، وإنما أيضا فيما يتعلق بأموره الصحية وتوفير الخدمات الصحية الضرورية والمتوقعة. هذا علما أن الأضرار الصحية الجماعية مكلفة جدا من الناحية المالية، وربما تؤدي إلى انهيار اقتصادي. أي أن الوعي الأممي بخطورة الأوبئة على الأوضاع الاقتصادية سيدفع باتجاه زيادة موازنات وزارات الصحة على المستوى العالمي. ربما تعقل الدول فتخفض استهلاكها من الأسلحة لصالح إنفاق صحي أعلى وأكثر.
على المستوى الداخلي للدول، ستواجه الحكومات انتقادات حادة من قبل الجمهور والمثقفين والمختصين في القضايا الصحية والطبية بسبب الأداء غير الجيد. دول كثيرة وجدت نفسها بدون استعدادات كافية لمواجهة أوبئة، وأخرى وجدت نفسها بدون معدات ومختبرات ومراكز بحثية كافية. حتى أن بعض الدول ومنها أمريكا لم تكن تتوفر لديها الكمامات الكافية على الرغم من أنها ذات تكلفة زهيدة. وهناك حكومات تقاعست عن مواجهة الوباء، ولم تستنفر قدراتها الطبية إلا بعدما انتشر الوباء وتزايدت الإصابات.
ستؤدي الانتقادات الموجهة للحكومات إلى اتباع سياسات صحية جديدة سيستفيد منها المواطنون بخاصة الفقراء منهم.