تداعيات منع الخمور في سيكولوجيا الوعي العراقي- د.عامر صالح
منذ ان سجل تاريخ الإنسان وربما قبل ذلك بزمن طويل, والإنسان يتناول من مواد الطبيعة أو مستحضراتها ما هو غير طبيعي أو غير ضروري. وقد لجأ الى ذلك أما سعيا وراء اللذة أو لغرض تخفيف المعاناة النفسية أو الجسمية أو لغرض التمهيد أو المشاركة في الممارسات والطقوس الدينية. وما زالت هذه الغايات نفسها فعالة في دفع الإنسان لتناول هذه المواد. وبالتالي فأن تأصل ذلك في الفطرة الإنسانية الأولى يستدعي منا الخلاف حول المقدار لا على التناول بحد ذاته !!!.
لم تكن قضية الإحتجاج على منع الخمور وبيعها وغلق محلاتها ومنع استيرادها بالنسبة للعراقيين هي مجرد نزوة أو ردة فعل على التضييق في تداولها وتناولها, بل هو إنعكاس لأرهاصات الوعي المدني ـ العلماني الكامن في الشعور الجمعي العراقي والذي تشكل عبر حقبات تاريخية, أصبح فيه ليست من السهل على العراقي التنازل عن مسلماته في التفكير والوعي في عدم الخلط بين الشأن الفردي والاجنماعي, ومقاومته المستمرة من أجل بقاء أصلح للعيش, رغم قساوة الحياة الحاضرة وشدة الهجمة الشرسة لمسخ وعيه من قبل النظم الدكتاتورية وإدعاءات الإسلام السياسي الكاذبة في البحث عن حلول أفضل لحاجات المواطن الروحية والمادية, رغم أن هناك فسحة من القدرة على التلاعب والتزييف في الوعي عبر استخدام الخطاب الإسلاموي المموه بالكذب والمراوغة من خلال إستخدام الدين والرموز الدينية ذات المكانة لدى الناس تارة, والإستخدام السطحي للعلم ومنجزاته تارة أخرى” كما في حالة منع الخمور ” للتمويه على الأجندة الإسلاموية التي تستهدف إضفاء البؤس والفاقة والذل عبر تقييد وإستلاب الحريات الفردية ومحاربتها ووضع سقف مشروط للحريات العامة !!!.
أجزم بأنه لايوجد عراقي لا يعرف بأضرار الكحول, وخاصة الإدمان عليه وما يسببه من إرباك للصحة العامة الجسدية والنفسية, وأن أغلب من كان يتناوله بمقدار هو من الطبقة الوسطى والمتعلمة, من مدرسيين ومهندسيين واساتذة جامعات وكوادر تكنوقراط, وهي ذات الطبقة الحاملة للفكر المدني والعلماني, وهي نفسها التي يعول عليها في بناء وانطلاق المجتمعات المدنية الحديثة, وهي الرائدة في بناء البنية التحتية الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية المتطوره, والتي ألحق بها النظام الدكتاتوري وما بعده النظام الإسلاموي الطائفي والإثني, الدمار الشامل, في محاولة منه لتغير البنية الاجتماعية والسيكوإجتماعية للقوى البشرية العاملة, وخلق الوعي الهش لتحطيم محاولات الانسجام بين ثلاثي الاستقرار والدولة المدنية: السلطة والمجتمع والدولة, والتأسيس لحالة الاغتراب الشامل والفوضى الهدامة بين المكونات الثلاث. اعرف تماما ان هناك كانت أندية مسائية في العراق لشرائح من الطبقة الوسطى وغيرها, فهناك نادي الأطباء والمهندسين والمعلمين وموظفي مختلف الإدارات المحلية, وجميعها لا تخلو من تقديم خدمات المشروبات الكحولية, ولم تكن في يوما ما سبب في حروب صدام العبثية !!!.
ما ألحقه النظام الإسلاموي الطائفي والإثني البغيض ما بعد 2003 من دمار في البنى الاقتصادية والخدمية, من مشاريع بنيوية, يبنى في كنفها إقتصاد معافى, ومن تدهور في الخدمات الإنسانية, من صحة وتعليم وماء وكهرباء وضمانات إجتماعية وفرص عمل, غير قابلة للمقارنة قطعا بما تلحقه الخمور والكحوليات وحتى العقاقير والمخدرات, من أذى في حياة الإنسان وإستقراره. ولو كان هناك سلم للأولويات لحياة كريمة في ذهنية الإسلامويين السياسيين لما تباكوا بكاء التماسيح على صحة أفراد المجتمع من خلال قانون منع الكحول, ولكن دوافعهم في ذلك كانت مفضوحة للقاصي والداني, وهو الزحف على الحريات الفردية والعامة كلما سنحت الفرصة وفي ظروف الخلسة وانشغال المجتمع بآفة الإرهاب, ومحاولاتهم في إضفاء خطاب واحد على الحياة العامة, في مجنمع متعدد الأديان والأثنيات والاعراق والمذاهب والثقافات والأفكار, متكأة على قراءة مشوهة وإنتقائية للدستور, ومتناسية الحريات الفردية والتعددية التي يضمنها, ولكن دستورنا المتناقض هو أحد اسباب ذلك أيضا !!!.
وكان على كل من صوت على منع الخمور وفرض العقوبات على بائعيها ومتداوليها أن يكون ذو ضمير حي, وان يضع في حساباته ترتيب الأولويات على شكل بسؤال بسيط: أيهما أفضل للبرلمان: أن يصوت لمنع الخمور وهو شأن فردي محض, أم ينهمك مخلصا في معالجة الفساد الأداري والمالي والاجتماعي, وأنتشار الميليشيات الطائفية المسلحة, والعصابات الإجرامية المنظمة, وتفكيك الدولة وغياب الأمن الفردي والمجتمعي, ومخاطر الإرهاب الجاثم على أرض العراق, وتفكيك النسيج الاجتماعي العراقي, ومخاطر تجزئة العراق والتدخل الاقليمي والدولي في شؤونه الداخلية, ومعالجة الخلفية الذهنية والفكرية والطائفية ذات الصبغة الاسلاموية والتي تؤسس لحروب داخلية طائفية وأثنية لا تنتهي, ومعالجة أوضاع اجتماعية خطيرة جدا على التفكك الاسري والاجتماعي, كالزواجات المؤقنة والزواجات غير المسجلة في محاكم الدولة والتي انتشرت في ظل الاسلاموين بعد ان كانت غير معروفة آنذاك, ومشكلات الارامل بسبب فقدان الزوج في الحروب او الاقتتالات الجانبية, مشكلات اليتامى بسبب فقدان احد الوالدين او كلاهما, معالجة أوضاع معوقي الحروب والعمليات الانتحارية والارهاب عموما, معالجة البطالة وتوفير فرص العمل للشباب كي لا ينساقوا تحت ضغط ظروف العيش السيئة الى مختلف الاستمالات السيئة, والارهاب في مقدمتها. كل هذا لم يكن تعاطي الخمر من أسبابه, بل أن البرلمان الذي منع الخمر هو احد الاسباب الرئيسية في ذلك !!!!.
مع قدوم الاسلامويين الى السلطة إنتشرت على نظاق واسع المخدرات والعقاقير خارج استخدامها الطبي المقنن, كالحشيش والكوكائين كمنشيات ” من نشوة “, الى جانب المهدئات والمنومات والمسكنات للألم والمهلوسات, وقد إنتشرت في كردستان العراق وجنوبه ووسطه, وحتى مزارع خاصة لهذا الغرض. وإن كان الكحول سهل السيطرة عليه, من حيث مصادره وتمويله وأمكنة بيعه, فأنه من الصعوبة بمكان وضع حد للمتاجرة بالمخدرات والعقاقير المختلفة, نظرا لسريتها الفائقة وإتساع شباكات تداولها وتعقيد طرق بيعها !!!.
وكان من الأجدر والأكثر حرصا ونفعا للبرلمان العراقي هو دراسة إمكانية نشر برامج توعية وتثقيفية لحيلولة دون الإدمان على تعاطي الخمور, والاستعانة بالأخصائيين النفسيين والاجتماعيين والاطباء والمرشدين النفسيين من خلال دراسة أسباب تعاطي الخمور والمخدرات, وإمكانية التحكم بالعوامل المحيطة, من إجتماعية وثقافية واقتصادية والتحسين المستمر لظروف العيش بما يجعل الاعتماد عليها قليلا ومتروكا للحرية الفردية في حدوده المعقولة, أو دراسة العوامل التكوينية للفرد, فهناك حالات من الاعتماد على الكحول والمخدرات يتقرر جزئيا بأستعداد وراثي, لأو دراسة خصائص المادة الكحولية نفسها والتي تسهل وتساعد على سوء استعمالها. فأن اللجوء الى العلم خير طريق لدراسة الظاهرة والحد من مديات إنتشارها دون اللجوء الى المنع القسري والعقوبات, إذا كان طبعا هاجس الاسلامويين هو الحرص على صحة الفرد والمجتمع, وهو أمر يطاله الشك !!!.
وقد أكدت الخبرة التاريخية وخبرة المجتمعات بصورة عامة فشل خيار المنع القانوني او الديني منه على السواء. فلم يستطع الاسلام في ذروة صعوده التاريخي, بما فيها في زمن الرسالة المحمدية, على القضاء على ظاهرة إحتساء الخمر, بل انسحبت الظاهرة من العيان لتمكث في البيوت والجلسات السرية, وكذلك في كافة المجتمعات ذات السلطات الدينية والمذهبية, وحتى أمريكا عندما منعته في العشرينات من القرن الماضي وعلى خلفية صراعات مذهبية, عادت وسمحت به !!!.
وكما هو اليوم وفي عالمنا الاسلامي, فلم تستطيع لا المملكة العربية السعودية بوهابيتها, ولا جمهورية أيران الاسلامية بخامنئها, ولا افغانستان بطلبانها ولا غيرها من البلاد الاسلامية, ان يمنعوا الخمور والمخدرات بمختلف انواعها, بل اصبحت هذه البلدان هي من البلدان المستهلكة للكحول والمخدرات سرا, بل ومن الدول المصدرة للمخدرات بمختلف انواعها وتشكل أكبر سوق سوداء للمتاجرة بذلك !!!.
أما على مستوى ديني بحت فلا توجد عقوبة على شاربي الخمر بعكس ما فرضه مجلس النواب العراقي, كما هناك اجتهاد واسع بأنه لم يرد منعا لشرب الخمر بل وردت اجتناب, كما في النصوص القرآنية الاتية :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) أو ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا). والاجتناب هنا ليست المنع قطعا.
وفي الختام نرى ان قرار منع الخمور في العراق وفي ظل غياب الامن وانتشار العصابات سيكون مدخلا سيئا وبداية مؤذية حقا للأقليات الدينية والمذهبية التي تتعاطيه الى جانب الجمهور المسلم الواسع الذي يتعاطيه, وهو نذير بموجة جديدة من القتل والتنكيل لاصحاب محلات بيع الخمور وللناس الابرياء وشد الخناق على الحريات الفردية. وقد بدأت العصابات المسلحة في البصرة وبغداد وغيرها بحرق محلات الخمور وقتل اصحابها. أنه أرهاب برلمانيي منع الخمور الداعشي !!!.
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.