تراجع … بصيغة معدَّلة ! – عبداللطيف مهنا
كلمة السر التي تحكم راهن التجاذبات في سياق آخر تجليات الحراك التصفوي للقضية الفلسطينية تكمن في مشترك آني واحد يجمع كافة الأطراف المنخرطة فيه، أوهو يتربع على رأس قائمة مايجمعها وهى ليست بالقليلة نظراً لآنيته. إنه الخشية من انتفاضة فلسطينية شاملة، والتكاتف موضوعياً لتطويق بوادرها المقدسية في محاولة للالتفاف على ارهاصات توسُّعها، منعاً لانتشارها في كامل فلسطين المحتلة.
الصهاينة ينظرون اليها بطبيعة الحال من زاوية اخطارها الأمنية على احتلالهم غير المكلف والمريح، ويتحسبون لتداعياتها المؤثرة في سياق احتدام الصراع وانعاش روح المقاومة فلسطينياً وعربياً. والأوسلويون الفلسطينيون يرونها تأبيناً شعبياً لمسار تسووي تصفوي وعبثي مدمِّر سلكوه، ودفن نهائي لأوسلوستانهم التي تحولت إلى مجرَّد اداة أمنية في خدمة أمن الاحتلال. وعرب الأنظمة يعنيهم تفادي ما ستشكله لهم من حرج أمام الشعب العربي، أو أقله ما في اندلاعها غير المرغوب من ازعاج لقيلولة ادارة ظهرهم لقضيتهم القومية. والأمريكان تقلقهم انعكاساتها السلبية على ما يحاولون نسجه من تحالفات إقليمية لايعوزها التهتك في سياق استثماراتهم لحروبهم الداعشية المعيدة لبذر القواعد العسكرية الغربية في منطقة بدأت تعود ادراجها الى أيام الاستعمار المباشر.
عندما نتحدث عن راهن التجاذبات نعني هذه المتعلقة بما كان ولا يزال يدور حول مسألة طرح مقترح القرار الفلسطيني المتبنى عربياً على مجلس الأمن بنصه الأصلي الذي يحدد مدةً زمنيةً لقيام دولة فلسطينية. هنا كان الصهاينة هم الأكثر وضوحاً في موقفهم من بين كافة الاطراف من حيث تعويلهم الواثق على الفيتو الأميركي لإجهاض هذه الخطوة، سواء لجهة طرحه بصيغته المعلنة، وربما حتى بديلها الأوروبي الساعي لتجنيب الولايات المتحدة الاضطرار الى اللجوء اليه، ذلك باستبدال نص السنتين كمهلة محددة لقيام الدولة بهما كنهاية للمفاوضات. من هنا كان لقاء نتنياهو-كيري في ايطاليا، وتدخُّل بيرز لدى اصدقائه الفرنسيين. وذلك كله يأتي انطلاقاً مما اعلنه نتنياهو سلفاً قبيل سفره للقاء كيري، عندما اعتبر أن مبدأ انهاء الاحتلال في حد ذاته يعادل خطراً وجودياً على الكيان الصهيوني.
لايخفى أن فلسطينيي اوسلو قد درجوا بدايةً على التلويح، ومن ثم التهديد، بالتوجه للأمم المتحدة، كممارسة منهم لحملة علاقات عامة، وكورقة ضغط لتحسين شروط التفاوض، وسبيل من سبل محاولة تعبيد درب العودة غير السالكة لطاولته، ثم كوسيلة هروب الى الأمام من استحقاقين هما: وجوب مراجعة مسارعبثي مدمِّر ومسدود الأفق رغم كل ماقدموا فيه من تنازلات كارثية، ومصالحة وطنية مستوجبة ومنشودة شعبياً لكنها بالنسبة لهم تظل مسألة تكتيكية، وتبقى عندهم في حكم المعلَّقة، بل وحتى الممنوعة، بحكم ما تقتضيه ً معادلة لابديل للمفاوضات إلا المفاوضات…هذه المعادلة البائسة التي جعلت من ضرورة لجوئهم منذ أمد الى الأمم المتحدة ووجوب الانضمام الفوري للمعاهدات الدولية ايضاً مسألةً تكتيكيةً، ظلوا لأمد يلوَّحون بها ويهددون لكنما دونما اقدام حتى وصلوا الى هذه الآونة التي بات ما من مهرب لهم فيها من مواجهة استحقاقين اضافيين ضاغطين آخرين هما: كيفية التفلُّت من ايقاف التنسيق الأمني بعد اغتيال الوزير الشهيد زياد ابوعين، وتبرير تخلي “حكومة التوافق الوطني”، أو “المصالحة”، عن غزة واعادة اعمارها، وتمرير الإشاحة عما يجري للقدس…إذن، لابد مما ليس منه بد، وهو الإقدام اخيراً على هذا المهرب الذي تدفعهم اليه هذه الاستحقاقات التي لم يعد لهم من مهرب منها؟؟!!
بالنسبة للموقف الأميركي، واستطراداً ظله الأوروبي، رأينا أنه مقابل الوضوح الصهيوني حاول الأميركان غموضاً صعب المنال، فهم إذ يلتزمون عدم اغضاب صهاينتهم، ليس من مصلحتهم اضعاف ابومازن اكثر مما هو عليه، وعليهم أن يضعوا في الحسبان أيضاً تعقيدات حروبهم الإرهابية على ما يسمى”الإرهاب” في المنطقة، لكنهم عند الضرورة تخلوا عن غموضهم وابلغوا صائب عريقات في لندن بأنهم سوف يستخدمون الفيتو ضد المشروع العربي بصيغته القائلة بإنهاء الاحتلال في مدة محددة، أي إنهم يريدون ما يدجَّن التوجه الفلسطيني ولايؤثر في الانتخابات الصهيونية، أو يحول دون فوز نتنياهو، ويعيد الطرفين بعدها الى معهود طاولة المفاوضات. ومن هنا يأتي دور المشروع الفرنسي الذي لايتطرَّق لإنهاء الاحتلال ويستبدل مهلة إنهائه بمهلة إنهاء التفاوض!
كما لم يأخذ الصهاينة تهديدات السلطة الأوسلوية بإيقاف التنسيق الأمني مع الاحتلال على محمل الجد، إذ وصفها الجنرال يعلون، مثلاً، بأنها “تهديدات فارغة”، لاتقلقهم كثيراً مسألة التوجه لمجلس الأمن وإن هى اغضبتهم ولايريدونها، لأنهم، وفي اسوأ الحالات، قد ضمنوا الفيتو الأميركي والتواطوء الأوروبي المموه بسيل من الآعترافات المؤجلة، أو المعلقة، أو المشروطة بالتفاوض، بالدولة الافتراضية، والتي في ظل مستمر التهويد ومواصلة فرض الأمر الواقع تعادل تضليلاً مستحباً لمعشر المتعلقين بالخيوط العنكبوتية التسووية…
…ظهور صاروخ “علامة الاستفهام” الأبعد مدى مما سبق وعرف من اترابه يعرض في شوارع غزة، وتحليق “سجّيل” الطائرة بدون طيار في سمائها، وعبارات الشكر التي خُص بها المحتفلون إيران تحديداً في احتفالهم بذكرى انطلاقة حماس هناك، يقلق الصهاينة أكثر بكثير من قرع طبول التوجه للأمم المتحدة وتقديم المجموعة العربية لمشروع قرارها لمجلس الأمن …لاسيما بعد اعلان الأوسلويين أن المشروع الذي تتطلب مناقشته اسابيعاً هو مفتوح للتفاوض وقابل للتعديل ، الأمر الذي سيأخذنا إلى ما بعد أعياد الميلاد ليذكِّرنا بعدها بما سبق وصرِّح به وزير خارجية السلطة رياض المالكي من لندن ومفاده أن العمل جارٍ للجمع بين مشروعي القرار الفلسطيني والفرنسي… أو عن تراجع دعاه “صيغة معدَّلة”!!!