ترامب وكيم و”السلام النووي”! – عبداللطيف مهنا
غطى الحدث السنغافوري بحد ذاته، مع الاستعراضية الزائدة التي رافقته، على جوهر ما تمخَّض جبله عنه. قمة ترامب وكيم ل”السلام النووي” بإخراجها الإبهاري نجحت بامتياز في اشغال العالم لأيام. لقد قصفته بجملة من التوصيفات التي أرادها طرفاها، وكلٍ من زاويته، أن تسهم في ارتفاع قمة هذا الجبل، وإن إلى حين، لتحجب المبالغة في علوها ضآلة ما ولده…من مثل: “قمة القرن”، “اللحظة التاريخية”، “المشهد الاستثنائي”، “الوثيقة الشاملة”، “الصفحة الجديدة”، وأخيراً، تبادل دعوات زيارة كليهما لعاصمة الآخر، وأكملها ترامب صاحب أغلب هذه التوصيفات بوصف نتائج هذه القمة بأنها قد “فاقت كل التوقُّعات”، ناهيك عن ما استقطب الحدث، وهو ليس بالعادي، من جيوش لجبة من الصحفيين والمحللين والمتحدثين، إضافةً لقارئي كف “المصافحة الطويلة” بين سيدي المشهد، ومفسّري “الابتسامتين العريضتين” اللتين رسماهما ممثلاها على خشبته.
الحدث تاريخي بالفعل لجهة انعقاده، وحدوثه بذاته اختراق لجدار ليس من السهل إزاحته، لكنما كل ما كان من أمر هذا الاختراق هو مجرّد فتح هوة صغيرة فيه لا أكثر، أما توسعتها، ناهيك عن تجاوزه، فتتطلب الخوض في لجَّة من التفاصيل الكثيرة، والتي تكمن في ثناياها شياطين تعادل ولا تقل عن كثرتها، والمأمول فحسب أنها لو نجحت عملياً في التأسيس لمسار، فهي لن تعدو خطوةً أولى فيه، إذ يتطلب قطعه زمناً، وما شهدناه في احتفالية انطلاقه هو لا يعدو اعلان عن نية قطعه…في كل الحالات نحن إزاء “اعلان مبادئ” بنوده مجللة بالغموض، مسربلة بالعموميات، وغاب عنها كلياً الجانب العملي والملموس من الإلتزامات.
ونظرة متفحّصةً للوثيقة المسماة بالشاملة، التي وقَّعها الطرفان، إن بنودا أو صياغةَ، وحتى بعض ما ورد فيها من عبارات، يمكن ملاحظة إنها لناحية جوهرها لم تتضمن، بالنسبة للطرف الكوري الشمالي مثلاً، ما لم يسبق وأن تم التوصُّل إليه معه في العام 1993، لجهة تعهُّده بالعمل على نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية. وسنخلص إلى أن ما اجتمعت عليه الوثيقتان، العتيقة والجديدة، هو ما يمكن اختصاره في معادلة واحدة: تفكيك برنامج نووي مقابل ضمانات أمنية…وإن شئنا التفصيل هناك اربع بنود رئيسة في وثيقة ترامب وكيم وهي:
يلتزم البلدان بتطبيع العلاقات بينهما، ويتعاونان “نحو إقامة سلام طويل الأمد في شبه الجزيرة الكورية، وتلتزم كوريا الشمالية بنزع كامل السلاح النووي في شبه الجزيرة، وبإعلان “بامنجوم” الصادر عن الكوريتين، ويلتزم الطرفان بإعادة رفاة القتلى والأسرى في الحرب الكورية، ويتعهَّد ترامب “بتقديم ضمانات لجمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية، وإقامة علاقات متينة بين البلدين من خلال فتح صفحة جديدة بينهما”…أي ما خلاصته، التزام كيم بإخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية مقابل التزام ترامب بأمن كوريا الشمالية. وكله، أوكل أمره لمفاوضات تكميلية بغية تنفيذه، وألقيت مهمتها، دونما تأطير لزمن أو إشارة لآلية معيَّنة، على عاتق كلٍ من وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ومسؤول كوري شمالي تعيّنه بلاده.
ربما لا يختلف اثنان في مشارق عالمنا ومغاربه على كون المشهد السنغافوري ذو الاستعراضية الأميركية الزائدة والمجاراة الكورية الشمالية المسهمة في بهرجتها، إن قيّد لنتائجه الحبلى بالغموض والعمومية اجتيازاً لإشكالية انعدام الآلية وغياب الجانب العملي، هو ذو مسار شائك تملئه الألغام ويفاقم صعوبة السير في منعرجاته انعدام الثقة بين الطرفين، وهذا الانعدام يعززه سجّل غير مشجّع سطَّره ترامب في زمن قياسي القصر لا يتعدى مدة وصوله للبيت الأبيض. الانسحاب من اتفاقية المناخ، والانسحاب من اتفاق الملف النووي الإيراني، وربما من اتفاقية “النافتا” مع جارتيه كندا والمكسيك إن هما لم تخضعا لتعديلها وفق مشيئته، وبوادر حروبه التجارية القادمة مع العالم دونما تمييز بين من يراهم خطراً على الهيمنة الأميركية على اقتصاد العالم كالصين وروسيا، أو حلفائه الأوروبيين الذين باتوا وجهاً لوجه مع نكوثه عن المعهود في التجارة البينية معهم، وآخره ما كان مع هؤلاء في قمة السبعة، حين غادرها وقد باتت قمة ستة، بعد أن غرَّد ساحباً موافقته على بيانها المتفق عليه معهم وهو في طريقه جواً إلى سنغافورة…والآن، وجردة حساب لما حققه نجما مشهدية سنغافورة ترامب وكيم:
انتزع كيم ايل اون اعترافاً بكوريا الشمالية دولةً نووية تجلس نداً لند ووجها لوجه مع الولايات المتحدة، واكتسب مشروعية دولية لنظامه، الذي لم يعد مارقاً في قاموس الغرب، وحصل على إيقاف للمناورات العسكرية الأميركية الكورية الجنوبية الموجَّه أصلاً ضد بلاده. وحصل دونالد ترامب على وعود قطعها كيم بنزع سلاحه النووي واعداً كيم بضمانات أمنية، وما حصل عليه سوف يحاول صرفه داخلياً كأنجاز سياسي خارجي سيقول إنه لم يسبقه إليه رئيس أميركي، وقد ينطلق منه، وهذا أمر وارد وغير المستغرب منه، لمواصلة تصعيد عدوانيته على إيران وسائر أوجه جاري استجابة إدارته لمخططات وسياسات نتنياهو في المنطقة…ما تمخَّض عنه جبل مشهدية الحدث السنغافوري نميل للقول بأنه لن يتعدى تجميداً لبرنامج كوريا الشمالية النووي والانتهاء إلى معايشته.