تصحيح النظرة إلى الديمقراطية الغربية – منير شفيق
الغرب الذي أخذ يسود العالم من القرن التاسع عشر، ليُطبِق تماماً تقريباً في القرن العشرين، هو الذي ولّد وصدّر النمطين الرئيسيين: الديمقراطي والشمولي.
فهو ولّد النمط الديمقراطي البريطاني- الأمريكي الفرنسي (عدد من الدول الأوروبية)، وهو الذي ولّد النمط الشمولي النازي- الفاشي: الألماني- الإيطالي (عدد من الدول الأوروبية)، كما ولّد النمط الاشتراكي الروسي (عدد من الدول الأوروبية الشرقية).
وقد تأسست نهضته الحديثة مع اكتشاف الأمريكيتين، واكتشاف طريق الرجاء الصالح (أوروبا- أفريقيا- آسيا) في تسعينيات القرن الخامس عشر، وبتحديد أدق، القرن السادس عشر- السابع عشر- الثامن عشر- التاسع عشر.
تبع الاكتشافين: طريق المحيط الأطلسي إلى الأمريكيتين، وطريق الرجاء الصالح إلى أفريقيا جنوب صحراء، غربها وشرقها ووسطها وجنوبها، ثم إلى آسيا، عمليات الغزو الاستعماري العسكري.. والنهب الاقتصادي العالمي للفضة والذهب، وللسيطرة على جزء من التجارة العالمية.
ترتب على هذا المسار انتقال مجتمعات أوروبية، وأساساً، بريطانيا وإيطاليا، وهولندا، والبرتغال، وإسبانيا، وفرنسا، إلى مجتمعات “عسكرية” أولويتها بناء الجيوش لتقوم بالاستعمار، والتنافس الاستعماري في ما بينها.
وبهذا أصبح المطلوب بناء جيوش تتعدى الجيوش الملكية والإقطاعية التي كانت سائدة في العصور الوسطى. فمن هنا أصبحت ثمة حاجة إلى التخلص من نظام الإقطاع والقِنانة، والانتقال إلى مجتمعات موحدة قومياً يتمتع أفرادها بالحرية والمساواة. وذلك بغرض بناء جيوش جرارة تستطيع أن تقوم بمهمة استعمار القارات الجديدة، وتستطيع منافسة الجيوش الاستعمارية الأوروبية الأخرى.
أشار ماركس وإنجلز من خلال تعليقات جانبية إلى النهب الخارجي في تلك المرحلة، ولكنها تدخل في نظرية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية. طبعاً هذا ليس الموضوع الآن.
هذا التحليل، أو القراءة للتاريخ الأوروبي (الانتقال من الإقطاع إلى الدولة القومية الرأسمالية)، يختلف مع التحليل الماركسي الذي اعتبر أن الوحدة القومية والمواطنة نشأت لتلبية السوق الرأسمالية، وهذه الرأسمالية تطورت من نظام المانيفاتورة الداخلي، فيما يذهب هذا التحليل المخالف، ليرى أن الرأسمالية الغربية لم تتطور من المانيفاتورة، وإنما تشكلت أساساً من النهب الاستعماري الخارجي الذي تولّد عن استعمار القارتين الأمريكيتين وأفريقيا جنوبي الصحراء، والوصول إلى شواطئ آسيا من دون المرور بالبلاد العربية، أو الدولة العثمانية، أو البحر المتوسط.
فالنهضة الأوروبية ابتداءً من القرن الثاني عشر أو قبل ذلك، جاءت لتلبي حاجة الجيوش الاستعمارية للتخلص من الأنظمة الإقطاعية والملكية. أما فكر النهضة الذي يُرجِع البعض النهضة الأوروبية له، فقد جاء نفسه نتاج النهضة التي تشكلت قبله بقرنين، بعد اكتشافات التسعينيات من القرن الخامس عشر، والتي أخرجت أوروبا من سجنها الذي تمتد أسواره من الشمال الجليدي إلى المحيط الأطلسي، والبحر الأبيض المتوسط. وقد أُغلِق في وجه أوروبا في القرن الثامن الميلادي، مع الفتوحات العربية الإسلامية، وصولاً إلى الدولة العثمانية التي قامت على أنقاض الدولة البيزنطية، ودول المماليك العربية.
كادت أوروبا أن تتنفس الصعداء، وتبدأ بنهضة علمية في مرحلة الحروب الصليبية (200 سنة) ثم عادت إلى الانتكاس والسجن بعد انتهاء الحروب الصليبية، لتعود إلى قرون أشد إظلاماً من سابقاتها: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
فالحضارة الغربية المعاصرة تأسست على الاستعمار الخارجي والجيوش الجرارة (الأساطيل)، وولدت الرأسماية فيها مع النهب الخارجي الذي جلب الأموال الطائلة، وسمح بتشكل الطبقة الرأسمالية الصاعدة…
تُلحظ هنا انتكاسة النهضة في إسبانيا التي كانت وراء الفتوحات الأولى بعد هزيمة بارجة “ارمادا” عن طريق الأسطول البريطاني. وأصبحت بريطانيا أولى الدول الرأسمالية (ثورة كرومويل) بعد أن سادت على البحار. فسيادتها على البحار، وما امتدت إليه مستعمراتها، هما اللذان جعلا بريطانيا مركز التطور العلمي، ومركز الرأسمالية، وأم الثورة البرجوازية، والنمط الديمقراطي- البرلماني.
طبعاً تطور الرأسمالية الداخلية، وإن جاء نتاج الاستعمار الخارجي، والنهب العالمي، عاد بدوره ليرد الجميل في بناء قدرات اقتصادية وعلمية وعسكرية تعزز الاستعمار والنهب الاستعماري. ومن هنا بدأت العملية التبادلية في رد الجميل بين الاستعمار والنهب العالمي من جهة، والرأسمالية والدولة القومية والتطور الاقتصادي والعلمي من جهة أخرى.
هذا يعني أن الرأسمالية في الغرب ولدت وترعرعت في إطار السيطرة الخارجية والنهب العالمي، وكذلك النهضة الأوروبية، وصولاً إلى الحداثة. وهو أمر يجب أن يُفهم جيداً، وتفهم نتائجه وتبعاته.
فالأبنية الفكرية الفوقية التي عرفها عصر النهضة، هي نتاج ما تأسس تحتها وقبلها، وقد جاءت لخدمته ورد الجميل له. ولهذا يخطئ من يعيد النهضة إلى ما تحقق من أعمال فكرية وإصلاحية، بما في ذلك الإصلاح الديني.
فعدم الانتباه إلى الشروط التي كانت وراء تشكل أفكار النهضة، ومن ثم عدم الانتباه إلى أن أفكار النهضة جاءت لتلبية ما تتطلبه تلك الشروط، ومن ثم لتفعل فعلها فيها، وتنبت زرعها. فليست أفكار النهضة هي التي صنعت النهضة، وإنما ما تأسس قبلها من استعمار وجيوش، ونهب استعماري، هو الذي أسس للنهضة الأوروبية. فقبل ذلك كانت أوروبا في سبات عميق تغطيها ظلمة دامسة، وتحوطها أسوار سجن عالية.
يجب أن يُلحظ ابتداءً من أفكار النهضة الأوروبية وتوابعها، من موضوعات حقوق الإنسان والحرية والمساواة والديمقراطية، أنها جميعاً ولدت، ثم وجدت تجلياتها في المجتمعات الغربية بمصاحبة استعباد الشعوب الأخرى في العالم، ونهبها واضطهادها. وتعايشت مع العنصرية والأفكار القومية الفاشية، من دون أن تطرف لها عين، أو تشعر أن ثمة تناقضاً عميقاً بين ما نُظِّر حولها وما طبق معها ولخدمتها، وهي المعادلة التي درجت عليها طوال تاريخها حتى اليوم.
ولهذا ما ينبغي لأحد أن يتعجب كيف “تعايشت”، أو عاشت، الديمقراطية الأمريكية مع العنصرية ضد السود الأفارقة باعتبارهم عبيداً، ثم عنصراً أدنى يميز ضده. وما ينبغي لأحد أن يتعجب من التاريخ الاستعماري لكل من بريطانيا وفرنسا، وغيرهما من دول أوروبية، ومن ثم تعايشه، أو عيشه، على ديمقراطية داخلية.
والطريف أن الغرب وهو يباهي بما قدم من نموذج ديمقراطي، وحقوق إنسان ومساواة حتى اليوم، لا يعتبر أن ثمة إشكالاً، أو لغماً، تقوم عليه ديمقراطيته، وأفكار نهضته وحداثته. فالديمقراطية لا تُفهم بالنسبة إليه، إلاّ من خلال ازدواجية متناقضة صارخة مع العنصرية، واستعباد الشعوب ونهبها.
فعندما يقول “الدستور” إن الناس يولدون أحراراً ومتساوين، لا يفهم الغرب من هذا أن الحرية لكل البشر بلا استثناء، وأن المساواة بين كل الشعوب، وإلاّ كان عليه أن ينقلب على ذاته، ويثور عليها، وينسفها نسفاً.
فأفكار النهضة الأوروبية، وموضوعات حقوق الإنسان، والمساواة والديمقراطية، لا تمتلك سمة التعميم على الإنسان كل إنسان، أو على الشعوب كل الشعوب، وإنما هي شيء خاص يتعلق بالأمريكان البيض البروتستانت. وتتعلق بالإنكليز الأنجلو-ساكسون، وبالفرنسيين الأصليين، وهلم جرا.
ولهذا لا يستطيع أن يكون الأخذ بالنموذح الغربي ديمقراطياً أو مثبتاً لحقوق الإنسان والمساواة أخذاً مجرداً، فلا يؤخذ إلاّ إذا نُقد نقداً صارماً، بل ونقض نقضاً حازماً، وقدم بصورة أخرى، وبلغة أخرى، ومن ثم جعلت موضوعاته متماسكة، لا عوج فيها.
وعندئذ لا تكون ديمقراطية الغرب، أو أفكار النهضة إياها، أو كما عرفت نفسها. ومن هنا يجب أن نفهم ردة الفعل لمقتل جورج فلويد في أمريكا .