تغريبة الفلسطيني الجديدة: كاظم الموسوي
الكاتب والشاعر الفلسطيني سعيد الشيخ، المقيم في السويد حاليا، أصدر روايته الأولى بعد إصداره العديد من كتب متنوعة بين الشعر والقصة القصيرة. عنوانها” تغريبة حارس المخيم” في 268 صفحة من القطع المتوسط، عن دار نشر له، منشورات الوان عربية، بالسويد (لدي ط 2 إلكترونية عام 2016).
جمع فيها خلاصة تجربة طويلة في أربعة فصول، من أول الوعي في حياة المخيم والانتماء السياسي أو الاجتماعي الى أخر الحلم والخيال بيوم عاصف، كيوم قيامة، ينهي عذابات الاغتراب والاغتصاب لارض الحلم والتاريخ.
رواية فلسطينية أخرى او تراجيديا إنسانية في زمن يغلب عليه الادعاء بحقوق الإنسان والحياة الحرة الكريمة. هذا الفلسطيني الذي رأى ما حصل في مخيمي صبرا وشاتيلا من مجزرة لا توصف، أرخت بتاريخها، أراد تسجيلها روائيا، فأبطاله الذين سجلهم في فاتحة الرواية، يوسف سعد الدين وزوجته أمينة وابنهما عمر وابنتهما بالتبني زهرة، انقذوا صدفة بعد أن شهدوا المأساة كلها بعنوانين مختلفة، ومستمرة من التغريبة الأولى، والى فاجعة المجزرة، وبعدها الى السويد، حيث عاشوا حياة افضل في الشمال من الكرة الأرضية ولكنها محملة بعذابات المنفى ومعاناة الاغتراب، وصولا الى خاتمة الرواية بحلم يعوض بعضا من المكبوت الداخلي، الألم الإنساني لحكايات طويلة.
تسرد الرواية بضمير المتكلم، وأبطالها فلسطينيون، أربعة منهم، يعيشون محنة مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا، (منتصف ايلول/ سبتمبر 1982) ويسافرون الى السويد عبر منظمات التهجير الدولية التابعة للأمم المتحدة وغيرها، يزدادان باثنين، ّ ّ بنت سموها منى وولد سموه بلالا في السويد، هذان الجديدان ينقلان الصورة بخواتيمها أو يعيدان شكلا أخر للمأساة التي بدأت الرواية بها وعبرت عنها بما استطاع الروائي تسجيله عنها أو توثيقه لها. ويتدخلان في رسم تموجات الرواية ومنحنيات السرد فيها، عنونها الشيخ بالنار في الثياب. نقل المؤلف في مقدمة الرواية مقولة المناضل الأممي جيفارا التي تقول: لكل الناس وطن يعيشون فيه… إلا نحن فلنا وطن يعيش فينا. ويعترف الروائي في فاتحته أن مادة الرواية والسرد المحكي باسم أبطالها، هي الحقائق التاريخية التي حصلت وهي المشهد الدموي للمجزرة، ومثل ابن شعبه الروائي الراحل أميل حبيبي في روايته “اخطية”، يحترس من تطابق الأحداث والأشخاص، بين الواقع والخيال الروائي، وهو ما يحاول البطل الذي حرس المخيم أن يعترف به في تنقلاته بين السرد الواقعي والتاريخي والتسجيل التوثيقي لما حدث وكيف حدث وأين انتهى ولماذا يحق له بعد كل ما جرى أن يحلم بالعودة إلى أرض الوطن الأم، الذي لا يمكنه الخروج منه، فهو يعيش فيه وفي شخوص روايته، بحدود الوعي والإدراك والتطورات، كما رواه جيفارا
. عناوين الفصول: المجزرة. نياما جاءتنا الفؤوس، أيها الثلج، كيف الشقاء في بياضك؟، بعد عشرين عاما.. النار في الثياب!، انتفاضة الأطياف.. حين مشينا إلى الشعاع.. تضيف لعنوان الرواية: تغريبة حارس المخيم، أبعادا أخرى تصب كلها وفي خاتمتها في تراجيدية جديدة للتغريبة الفلسطينية. في السرد الروائي يجمع بطل الرواية الرئيس تفاصيل ما عاناه، موازيا الرواية في سردها لما هو أقرب من سيرة ذاتية للمؤلف، الروائي، الفلسطيني المغترب، موثقا فيها تجربة حادة وجادة، لمبدع فلسطيني عاش مجزرة صبرا وشاتيلا، بيومياتها الدموية وحكايتها الواقعية، وفاجعتها التي استعاد من خلالها تاريخ المجازر التي كابدها الشعب الفلسطيني، من أيام النكبة الأولى الى الحلم بالعودة وانتهاء دولة الاستيطان والاحتلال العسكري العنصري.
وفي كل فصل لخص العنوان فيه الحكاية، فالفؤوس التي هوت على الضحايا، كان بطل الرواية شاهدا حيا لها، كتبت له حياة جديدة مع شخوص الرواية الأخرى، ليوثق تلك المجزرة ويصور أحداثها بلغته، “من ثقب صغير في الجدار الصفيحي شاهدت كل شيء. شاهدت تحت أنوار الكشافات الضوئية أبي وأمي واخواي الاثنين، تعمل في أجسادهم الفؤوس والسكاكين كأنهم أشجار. كأنهم حطب.” (ص (11 “لا أستطيع أن أصف كيف هو الشعور، أحتاج إلى كل لغات الأرض وقد لا تفي في وصف شعور فقدان الوالدين والأخوة بضربة واحدة وبظروف غير طبيعية. ّ لا أتخيل جحيما فوق هذا الكوكب يماثل هذا الجحيم” (ص .(15
وينتقل الروائي الى الشمال، بلاد الثلج ليعيش اعترافا أخر، اغترابا جديدا وصراعات ذاتية، مقارنات مؤلمة، انكسارات روحية، بين صور المجزرة المحفورة في الوعي والإدراك وصور الرعاية الروتينية في السويد. “بشاشة الأطباء والممرضات؛ لمساتهم الحانية، وحدها كانت بالنسبة لنا بلسم يرد لأرواحنا إنسانيتها التي طحنت في المجزرة، مما جعل أمينة تقول بعدما عدنا إلى الشقة: انظر كيف يهتمون بنا. وتبكي” (ص 68).
وتتباين لقطات الفصول الأخرى، بين التذكر لبشاعة المأساة، والحنين للوطن الأول، والعيش بظل نظام ديمقراطي ومجتمع متقدم ورفاهية اقتصادية وانفتاح اجتماعي فائض عن تربية وسلوك أغلب المهاجرين القادمين من أوساط ومجتمعات بعيدة. تنعكس هذه الحالة في مشهدين، البنت التي تغير اسمها وترفض أسلوب عيش والديها، وتنسلخ منهما، والابن الذي سلك طريقا أخر، مناقضا، يختصره المؤلف بإبلاغ المخابرات السويدية له ” ابنك بلال سعد الدين خرج من السويد إلى بريطانيا، ْ ومن هناك سافر مع آخرين إلى تركيا ولكن وجهتهم الأخيرة كانت سوريا للالتحاق بمجموعات الجهاديين” (ص 208). من السويد الى ما اختصر ب”داعش”، كيف ولماذا ومن أدار القناعات؟
في الفصل الرابع والأخير يحاول الروائي أن يغير في أسلوب سرده الواقعي، فيغرق في الخيال ليستعيد به وطنه، قريته المدمرة، المقبرة التي تجرفها جرافات الاحتلال، فيرى شعاعا، يقول له، ” ثمة ملائكة في السماء ترسل فيروسا إلكترونيا يخترق آلة القتل وينزل بها فتكا. ثمة عقاب تنزله محاكم السماء على قوم تجبروا وسفحوا دماء الآخرين”.
وتستمر الرواية في مشاهدها من واقع المجزرة الى خيال الانتقام منها في العودة واستذكار ما بقي من حلم وانتشار البياض، مرورا بما جرى، سواء في البلد الجديد، أو في تطورات الساحة السياسية الفلسطينية، داخل فلسطين، وخارجها، ومواقف متتابعة تحدد البوصلة في تحرير فلسطين، القضية المركزية. لغة الرواية تعكس تطورات الإبداع عند مؤلفها، الذي بدأ بنشر الشعر والقص ّ القصير والمقال، ليفضي ما اختزن عنده في “تغريدة حارس المخيم”. والسرد في ّ تموجاته في الفصول المتسلسلة زمنيا، وضح للقارئ قدرة روائية للمؤلف أيضا، حيث استطاع أن يروي أو كما كتب الروائي والناقد الراحل جبرا إبراهيم جبرا، في مقال له عن الرواية والإنسانية (مجلة الأديب، كانون الثاني/ يناير (1954 بان الروائيين يصورون شخصية بلادهم ونفسيتها، يتفاعلون الى أعماق روحها ويسجلون أحلامها وكفاحها وبحثها عن السعادة البشرية. الرواية استقصاء غاية الحياة). أو كما قال الناقد جول روي سواء كان أبطال الروائي حقيقيين أو خياليين، فهو يأخذهم مترجمين عن أفكاره ولو كانوا من جنس أخر غير جنسه.