تونس بعد عشر سنوات – الطاهر المعز
لم يطلب الأُجَراء، منذ سبعينيات القرن العشرين، المستحيل، بل طالبوا بتحسين ظروف العمل، وبرواتب تفي بحاجاتهم من غذاء ومسكن وصحة، وما إلى ذلك، ولم يُطالب المُحتجُّون من الشباب، بغير تلبية الإحتياجات الأساسية من التّعليم والتّوظيف والسّكن والرعاية الصحية، فقد كان خريجو التعليم العمومي المجاني، الثانوي والجامعي يحصلون على وظائف في القطاع العام، ويُشكّلون الفئات الوُسْطى من المجتمع، أو البرجوازية الصّغيرة، بمختلف درجاتها في السُّلَّم الإجتماعي، ومن جهة أخرى، كانت الدّولة تخنق أنفاس كل مُعارض، مقابل توفير بعض الحماية الإقتصادية (رغم خَفْض قيمة الدّينار، سنة 1965، وما نتج عنه من خلافات داخل الإئتلاف الحاكم، وبالخصوص مع قيادات الإتحاد العام التونسي للشغل)، من خلال تحديد ومُراقبة الأسعار، وحماية السّوق الدّاخلية، وشراء محاصيل المزارعين، بالتوازي مع إمكانية تَرَقِّي أو صُعود جيل كامل، من أبناء الحواضر والأرياف، بعض دَرَجات السُّلَّم الإجتماعي…
انفرط هذا العقد، في بداية سبعينيات القرن العشرين، مع حكومة الهادي نويرة (1970 – 1980)، وهو أحد رُمُوز البرجوازية الكمبرادورية، وكيلة مصالح الدول الإمبريالية وشركاتها العابرة للقارات، التي نقلت إلى تونس بعض مصانعها المُلَوِّثَة، بآلاتها القديمة، لصناعة النسيج والملابس والأحذية، ولتركيب بعض قطع غيار التجهيزات الإلكترونية، وتمتعت بالإعفاء من الرّسُوم وبالعديد من الحوافز، مع استغلال فاحش للطبقة العاملة، وللنساء بشكل خاص، طِبْقًا لما عُرِفَ بقوانين أبريل (نيسان) 1972 و 1974…
تَخَلّت الدّولة تدريجيا عن القطاع العام، وعن المُهمّات التي كانت تتحمّلها، من 1956 إلى سنة 1969 (سنة انتفاضة سُكّان ومُزارعي قرية “الوَرْدانين”، والعديد من المناطق الريفية الأُخرى)، في مجالات الصحة والتعليم والتّحكّم في الأسعار، وغير ذلك، بالتّوازي مع تشديد القبضة الحديدية للدّولة، وتعزيز نُفُوذ وزارة الدّاخلية، ما أدّى إلى إطلاق احتجاجات في الجامعات ومدارس التّعليم الثانوي (1972) وقطاع النقل العُمومي ( منذ 1973) وصناعات الصّلب، قبل سلسلة الإحتجاجات العُمّالية التي انطلقت سنة 1976، وتُوّجت بالإضراب العام، في السادس والعشرين من كانون الثاني/يناير 1978، وما تلا ذلك من تدخّل الجيش والشرطة، لقتل المئات من المتظاهرين والمُضرِبِين، واعتقال ومحاكمة المئات من النقابيين… كما أدّى تطبيق شُرُوط صندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي، وإلغاء دعم المواد الغذائية الأساسية، إلى انتفاضةٍ انطلقت من جنوب البلاد، يوم 26 كانون الأول/ديسمبر 1983، وبلغت ذروتها في العاصمة، يوم الثالث من كانون الثاني/يناير 1984، حيث ارتكبت قوات الأمن الدّاخلي (الشرطة والدّرك) والجيش، بإشراف زين العابدين بن علي، زمن حُكْم بورقيبة، مَجازر في العديد من مناطق البلاد…
لم تولَد انتفاضة 2010/2011 من فراغ، بل كانت جُزْءًا من، وامتدادًا لمسار احتجاجي مُتقَطّع، سبقته مُباشرةً انتفاضة الحوض المنجمي التي امتدت لفترة فاقت ستة أشهر (من كانون الثاني/يناير إلى تموز/يوليو 2008)، رغم الحصار والقمع، وانتفاضات سُكّان مناطق عديدة أخرى، من “بنْقَرْدان” بالجنوب الشرقي، إلى الشمال الغربي، وكان هذا المسار الإحتجاجي بمثابة رد الفعل المُنظّم أحيانًا، في حُدُود ما يتّسع له العمل النقابي، وعفوي في معظم الأحيان، وأدّت موجات القَمع إلى بعض الجَزْر والخُفُوت، لكن “حذارِ فتحت الرّماد اللّهيب”، على رأي أبي القاسم الشّابّي…
تَحَوُّلات، من الإستعمار المباشر إلى “الإستعمار الجديد”:
انهار قطاع الزراعة بسبب شروط صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، وإلغاء دعم الإنتاج الزراعي، وبسبب فَتْح الدّولة باب الإستثمار للشركات الخاصة، وباب التوريد للمواد الغذائية الأجنبية، التي يدعمها الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لتُنافس الإنتاج المحلي، وأدّى انهيار قطاع الفلاحة، والصناعات الوطنية (الصلب والإسمنت والكيمياء…)، إلى انتشار البطالة في المراكز الصناعية (منزل بورقيبة، على سبيل المثال) والمناجم (الشمال الغربي والجنوب الغربي)، وإلى ارتفاع حصة قطاع الخدمات، والاقتصاد غير الرسمي (الإقتصاد المُوازِي) وإلى تحوّل كبير في بُنية الإقتصاد والمجتمع، فانْسَدّت آفاق التّوْظيف والصُّعود بعض دَرجات السُّلّم الإجتماعي (أو الطّبَقِي)، وكذلك آفاق الإستقرار والرّفاه (النِّسْبِي) الشخصي والعائلي، واضطر عشرات الآلاف من الشبان، بينهم خرّيجو الجامعات وذوو الكفاءات المهنية، كالأطباء والمُهندسين، إلى الهجرة، رغم الحُدُود المُوصَدَة وفَرض تأشيرات الدّخول إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، ورغم مخاطر الهجرة غير المُنظّمة، وغَرق المئات في مياه البحر الأبيض المتوسط، أما من بقي بالبلاد، فأصبح مُعطّلاً عن العمل، ويعمل أحيانًا بالمياومة، أو بعقود هَشّة وبدون حقوق اجتماعية وتأمين صحي واجتماعي، في ظل تدمير الخدمات الإجتماعية، وخصخصة قطاعات مثل الصحة والتعليم، وإلغاء الدّعم، وإلغاء تحديد سَقف أسعار السلع والخدمات الأساسية…
أحدثت هذه المُتغَيِّرات تحولات هيكلية في المجتمع، وفي تركيبة الطبقة العاملة، التي اتّسمت، منذ العقد الأخير للقرن العشرين بالتفتيت والتشتيت، مع صعوبة تجميع وتنظيم الفئات الجديدة من العُمال بالقطاع الموازي، أو باليوم، أو بعقود هشة ومؤقتة، وكذلك بقطاع الخدمات، ناهيك عن تجميع وتنظيم المُعَطّلين عن العمل، ما ألحق ضَرَرًا كبيرًا بالعمل النقابي الذي يعتمد الضغط على الدولة وعلى الرأسماليين، من خلال الإضراب وتوقف عملية الإنتاج، وألحق ضَرَرًا بالعمل الثوري، الذي يهدف تكتيل العاملين من أجل السيطرة على وسائل الإنتاج ومن أجل التوزيع العادل لثمار العمل والإنتاج، وعمومًا أدّت إعادة هيكلة الإقتصاد، التي فرضتها مؤسسات “بريتن وودز”، منذ ثمانينيات القرن العشرين (برنامج الإصلاح الهيكلي)، إلى إعادة هيكلة الطبقة العاملة، وفئات الأُجَراء عمومًا، وإلى إضعاف العمل الجماعي والمُنَظّم، إضافة إلى غياب أو هُزال المُنظّمات الثّورية، التي يُفْرض أن تُحَوِّلُ الوَعْيَ الجنينِي أو الحِسِّي إلى وعْي طبقي، وهو ما يُفَسِّرُ، جُزْئِيًّا، عدم تحَوُّلِ ردود الفعل والإحتجاجات والإنتفاضات إلى ثَوْرات ضد أُسُس النظام، واستبدال النّظام القائم بنظام يعتمد السيطرة على الموارد المحلية، ومَبْني على العدالة في توزيع الثروات، والمُساواة في الحُقُوق والواجبات، وعلى مُشاركة الجميع في التصميم والتنفيذ والتّقْويم…
انطلقت انتفاضة 2010/2011 من منطقة سيدي بوزيد التي كان إنتاجها الفلاحي يُغطّي حوالي ثلث احتياجات البلاد من الخضروات، لكنها من أكثر المناطق فقرًا وبطالة، ولذلك كان المُعَطّلون عن العمل والعُمّال المياومون، وعمال القطاع الموازي، ومُجمل الفئات التي تركها النظام الإقتصادي والسياسي على الهامش، في مُقدّمة المُحتجّين، بدعم من النّقابيّين المحليين، ومن عناصِر مُسَيّسَة، كأفراد، في غياب شبه كامل للأحزاب والمجموعات المُنظّمة، التي ما كانت تستطيع العمل بشكل عَلَنِي، لكنها لم تكن تمتلك قناعةً بإمكانية التّغْيِير الثوري، ولا رُؤْيَة لمجتمع بديل، ولذا لهثت هذه الأحزاب والمجموعات وراء الأحداث، ولم تكن قادرة على تحويل الإنتفاضة إلى ثورة، ولا حتى إسقاط النّظام، كجهاز طبقي يُمارس الإستغلال والإضطهاد…
تتشكل الفئات التي أطلقت انتفاضة 2010/2011 (كما انتفاضة 1983/1984، وانتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008) من أفراد غاضبين، وغير راضين عن وضعهم الخاص والوضع العام في البلاد، لكنها فئات مُهَمّشَة وغير منخرطة (باستثناء بعض الأفراد) في العمل الجماعي، النقابي أو السياسي، فيما دُفِعَ بعضهم إلى المنظمات “غير الحُكُومية”، ما يُعَسِّرُ عملية الرّبط بين الخاص والعام، وما لا يسمح بوضوح الرؤية، لتقديم برنامج أو تَصَوُّرٍ بديل لما هو قائم…
قد تكون مناسبة الذكرى العاشرة للإنتفاضة، فرصة لتقويم أداء “اليسار” (رغم ضبابية هذه التّسْمِيَة، التي نعني بها الجزء التّقدّمي من تيارات القوميين العرب، والتيارات التي تُعلن تَبَنِّي الإشتراكية ) وفُرصة، بالخصوص، للنّظر إلى الأمام، واستشراف المُسْتقبل، بعيدًا عن الضّغط اليومي للأحداث، وفُرْصَة للتفكير في إعادة توجيه البَوْصَلة نحو الإشتراكية، وليس نحو نظام برلماني يُشكّله ويُهيْمن عليه رأس المال، ليسْتَغِلَّ ويَضْطَهِدَ ويَقْمَعَ باسم “الدّيمقراطية”…
اعتبر الإعلام الإمبريالي السّائد، أن تونس نموذج للتحول من الإستبداد إلى الديمقراطية، ويُشاركه في ذلك بعض اليسار المائع، في حين صدّرت البلاد، خلال هذه “المرحلة الديمقراطية”، بإشراف تيّارات الدّين السّياسي، الآلاف من الإرهابيين إلى ليبيا وسوريا والعراق، وبالإضافة إلى عدم الإستقرار السياسي والوَهن الإقتصادي، وارتفاع حجم الدّين الخارجي، وارتفاع نسب البطالة والفقر، ارتفع حجم الفساد والرّشوة والإجرام والتّفكّك المُجْتَمَعي، خلال السنوات العشر الماضية.
تمثلت مظاهر “الديمقراطية” بتونس، منذ 2011، في دَعْم بعض مكونات اليسار لجناح من حزب الدستور، الذي حَكم البلاد بمفرده من 1956 إلى 2010، والذي كان الباجي قائد السّبسي أحد رموزه، وذلك باسم “الحداثة” (التي لا يمكنني تعريفها بدِقّة) وتمثلت في تقاسم الدّستوريين الحكم مع الإخوان المسلمين (بعدما كانوا يحكمون بمفردهم ويضطهدون غيرهم )، بدعم من الإمبريالية الأوروبية والأمريكية، وأصبح بعض زعماء اليسار، المنضَوين تحت لواء “الجبهة الشعبية”، نوابًا، لدَوْرَةٍ واحدة، في برلمان منتَخب، لكن هذه “الديمقراطية” لم تُحقق أحلام شباب الإنتفاضة، ولم يتحقق الرفاه الاقتصادي بعد عقد من الزمن، بل ارتفع عدد المُغادِرِين للبلاد، والمُخاطِرِين بحياتهم في البحر الأبيض المتوسط، أملاً في الوصول إلى أوروبا، والبحث عن عمل، هربًا من وطنهم، حيث أشارت البيانات إلى ارتفاع التضخم والعجز التجاري وإلى تراجع احتياطات العملة الأجنبية، فضلا عن تطوير منظومة الرشوة والفساد والإمتيازات والوساطات (المَحْسُوبية)، لتتماشى مع المناخ الجديد، وأدّى انتشار هذه الظواهر إلى ترتيب تونس في المرتبة السادسة عربيًا والرابعة والسّبعين عالميًّا في مؤشر الفساد العالمي لسنة 2019، وتُشير بعض تقارير مصارف الإستثمار الأوروبية، وتقرير البنك العالمي ( تشرين الأول/اكتوبر 2020) أن مناخ البلاد “لا يُشجع على اجتذاب الإستثمارات الأجنبية، وربما المَحَلِّيّة أيضًا، لأن المسؤولين السياسيين ظلوا مرتبطين بمنظومة الفساد والامتيازات، فضلاً عن غياب الشفافية”، ويُركّزُ الإخوان المسلمون والدّساترة في خطاباتهم، وفي قراراتهم وممارساتهم على إقصاء الرأي الآخر، وبلغ الأمر حد اغتيال مُعارِضين، من بينهم شُكري بلعيد ومحمد البراهمي، سنة 2013، وفي المجال الإقتصادي يُركّز الإخوان المسلمون على “دَوْر السّوق في تحقيق التقدم الاقتصادي”، وليس على دَوْر الدّولة في مخططات التنمية، وبينما يشترط صندوق النقد الدّولي تسريح خمسين ألف موظف من القطاع العام والحكومي، خلال خمس سنوات (2013 – 2017)، وظّفَ الإخوان المسلمون حوالي 75 ألف من أعضاء حزبهم وأصدقائهم وأقاربهم، بذريعة “التّعويض على ما فات”، تطبيقًا لقناعتهم بأن السُّلْطة غنيمة، وجب تقاسمها بين “الإخوان” (إخوان الإمبريالية)، فيما وقع التّغرير بآلاف الشبان والشابات (قُدّرَ عددهم بنحو ستة آلاف) للإلتحاق بصفوف المجموعات الإرهابية بليبيا وسوريا والعراق، واضطر عشرات الآلاف من الشبان والشابات لمغادرة وطنهم الذي ارتفعت به نسبة البطالة من نحو 12% بنهاية سنة 2010 إلى نحو 18% في حزيران/ينونيو 2020، بحسب البنك العالمي، والمعهد الوطني للإحصاء، وتجاوزت نسبة البطالة 30% في المناطق البعيدة عن ساحل البحر، والتي انطلقت منها الإنتفاضة، وهي مناطق لا يزال سُكّانها يُطالبون بالحدّ الأدنى من البُنَى التحتية، وانخفضت نسبة النّمو (وإن لم تكن مقياسا للتنمية) من حوالي 5% سنويا في المتوسط، قبل عقد من انطلاق الإنتفاضة، إلى معدّل 2% خلال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، فيما تضاعفت نسبة الدّين العام بين سنتَيْ 2010 و 2019، وبلغ حجم الدّيْن العام 72,2% من حجم الإقتصاد سنة 2019، بحسب البيانات الرسمية، وتوقع البنك العالمي، بنهاية آذار/مارس 2020، أن ترتفع نسبة الدّين العمومي إلى 86,6% من الناتج المحلي الإجمالي، بنهاية سنة 2020، وذلك قبل توقف الإقتصاد وحركة النقل والتجارة، بسبب “كوفيد 19″، ما يرفع عجز الميزانية المُتَوَقّع إلى نحو 8,1% من الناتج المحلي الإجمالي، سنة 2020، وما يرفع حصة كل تونسي إلى حوالي ثمانية آلاف دينار من الدّيون (حوالي ثلاثة آلاف دولارا)، فيما تُسدّد الدولة ديونًا بقيمة نحو 15 مليار دينارًا سنويا ( 5,62 مليار دولارا)، وتوقع البنك العالمي (الإثنين 19 تشرين الأول/اكتوبر 2020 ) أن يتباطَأَ الاقتصاد التونسي بنسبة 9,2% بنهاية سنة 2020، بسبب جائحة “كوفيد 19″، ولكن أيضًا بسبب “عدم الاستقرار السياسي والاضطرابات في نسق انتاج الفوسفات…، ونتيجة لذلك يُتوقّع أن ترتفع نسبة الفقر والهشاشة…”، ويتوقع نفس التقرير ارتفاع عدد الفقراء والمواطنين المعرضين للفقر من 16,2% إلى 22% من العدد الإجمالي للسّكّان.
الوضع بعد تعيين حكومة هشام المشيشي:
عند تنصيب الحكومة الثالثة، خلال سنة واحدة، برئاسة وزير الداخلية بالحكومة المُسْتَقِيلَة (02 أيلول/سبتمبر 2020)، قُدِّرت نسبة البطالة بنحو 18% من القادرين على العمل، بنهاية الرّبع الثالث من سنة 2020 (أكثر من 20% مُتوَقَّعَة، بنهاية سنة 2020)، إذ خَسِرَ ما لا يقل عن مائتَيْ ألف أَجِير وظائفهم، خلال الأشهر التسعة الأولى من سنة 2020، ونسبة الفقر بنحو 16,2% من العدد الإجمالي للسّكّان ( بحسب معهد الإحصاء)، مع توقعات بارتفاع هذه النِّسَب، بنهاية سنة 2020، كما أشرنا سابقًا، وتراجعت قيمة الدينار التونسي من 1,18 دولارا، بنهاية سنة 2010، إلى نحو 2,8 دينار مقابل الدولار الأمريكي في أيلول/سبتمبر 2020، في حين ترتفع قيمة عجز ميزانية الدولة إلى حوالي 15% هذا العام (2020)، لتلجأ الدّولة إلى اقتراض نحو 4,5 مليارات دولارا، لاستخدامها في سد عجز سنة 2020 (حوالي 30 مليار دينار، أو نحو 11,2 مليار دولارا مُتوَقَّعَة بنهاية العام 2020 ) وتسديد دُيُون سابقة، وإلى مواصلة بيْع ما تبقّى من القطاع العام، ومن حصة الدولة في بعض القطاعات (كالنّقل بأنواعه والطّاقة والمصارف…)، وأظهرت بيانات المعهد الوطني للإحصاء انخفاض الناتج المحلي بنسبة 21,6% بنهاية النصف الأول من سنة 2020…
من جهة أخرى، وعلى الجبهة السياسية، أظهر رئيس الحكومة، بسرعة غريبة، تبعيةً مُفرطةً للإمبريالية الأوروبية، والفرنسية بشكل خاص، حيث اصطفَّ، بدون حياء، وراء حُكّام أوروبا، وتَبَنّى أُطروحات اليمين المتطرّف، وبَدَا هذا التّذَيُّل واضحًا خلال زيارة رئيس الحكومة التونسية إلى فرنسا، من 12 إلى 14 كانون الأول/ديسمبر 2020، إذْ دعم رئيس حكومة تونس، في حوار مع القناة الفرنسية “فرنس 24” (باللغة الفرنسية)، دعاية اليمين الفرنسي (والأوروبي) المتطرف، والتي تربط وجود الإرهاب بوجود المهاجرين غير النّظامِيِّين، ما فاجأَ المُذيع الذي كان يُحاوِرُهُ، فحاول تلطيف عبارات رئيس الحكومة التونسية، الذي أصرّ على موقفه قائلا “نحن في صف واحد مع فرنسا لمحاربة الهجرة غير النظامية والتّطرُّف”، وأثار هذا التّصريح موجة من الإستياء والانتقادات والمؤاخذات، واعتبره وزير سابق (لا يقل رجعية عن رئيس الحكومة) بالفضيحة أو الكارثة، لأنه يتماهى مع تصريحات وزير الداخلية الإيطالي السابق، زعيم اليمين المتطرف، واعتبر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن “المشيشي أساء للآلاف من التونسيين المتواجدين في أوروبا بطريقة غير نظامية وهم في مسارات قانونية لتسوية وضعياتهم… (وقد ) يعرضهم هذا التصريح لتهديد سلامتهم من طرف المجموعات اليمينية المتطرفة المعادية للمهاجرين”، الذين قدّموا لتونس ولأُسَرِهم حُلُولاً أكثر نجاعة من سياسات الحكومة الحالية وما سبقها، بحسب بيان آخر لمجموعة من الجمعيات التي اعتبرت تصريح رئيس الحكومة صادمًا، وفي قطيعة مع قِيَمِ “الثورة” ومع تطلّعات الشعب التونسي، فالهجرة غير النظامية اضطرار ولم تكن أبدًا خيارًا، بل هي ظاهرة اجتماعية، لأن هؤلاء المهاجرين ضحايا سياسات الدولة و سياسات هيمنة أوروبا على اقتصاد المغرب العربي وإفريقيا، مع غلق الحدود، وحَظْر تنقل البشر من جنوب البحر الأبيض المتوسّط إلى شماله، وقَدّرَ المصرف المركزي تحويلات التونسيين العاملين بالخارج بنحو عشرة آلاف مليون دينارًا، سنة 2019…
نُشير أن الإتحاد الأوروبي وقّع اتفاقيات مع حكومات المغرب العربي، منذ ما قبل 2010، لإنشاء معتقلات في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، لسجن المُرَحَّلِين من الإتحاد الأوروبي، وكذلك من يُشتَبَهُ في اعتزامه الهجرة إلى أوروبا (مُحاكمة النّوايا)، مقابل بعض الفُتات، ومقابل الدّعم السّياسي، وتطوّر التعاون الأمني بين تونس والدّول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، منذ بداية العدوان على ليبيا.
ليس لرئيس الحكومة، وهو ممثل ائتلاف الإخوانجية والدّساترة، برنامج أو حلول لمشاكل البلاد، غير مواصلة السياسات التي أدّت إلى انتفاضة َ17 كانون الأول/ديسمبر 2010، وتندرج زيارته لفرنسا ضمن سياسة التّذَلُّل والشّحذ، وأوردت وكالة تونس إفريقيا للأنباء (رسمية) أن رئيس الحكومة التونسية يأمل “مضاعفة الاستثمارات الفرنسية، والتبادل التّجاري، وتطوير تركيز المؤسسات الفرنسية بتونس”، وادّعى بيان الحكومة التونسية أن فرنسا “تدعم بلادنا ووقفت إلى جانبها في مواجهة التحديات التي تواجهها تونس في مسار الانتقال الديمقراطي وإرساء دولة الحريات والحقوق”، وأن ” العلاقات الثنائية بين البلدين تتميز بالعُمق، ووجب تدعيمها وتطويرها…”.
يُشكل الإقتصاد الموازي بتونس (كما في بلدان عربية أخرى، مثل المغرب ومصر ) نحو 50% من اقتصاد البلاد، أو من الناتج المحلِّي الإجمالي، ويُعاني العاملون به من الإستغلال والقَهْر وغياب الحُقُوق والتأمين الإجتماعي والصّحّي، أما الإقتصاد الرّسمي فتهيْمن عليه الدول الإمبريالية وشركاتها العابرة للقارات، ويُسطِّرُ صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والإتحاد الأوروبي الخُطُوط العامة للتوجُّهات الإقتصادية وللميزانية وللإنفاق العمومي، وغير ذلك، ما يعني أن هذه الأطراف تتحكّم بالقرار السياسي للدولة التي فقدت هامش استقلالية القرار والسّيادة، ولن يتطور اقتصاد البلاد في ظل هذا الوضع، بل يبقى معتمدًا على القُروض، ويلهث وراء الإستثمارات الأجنبية والسائحين الأوروبيين الذين لا يهتمون بثقافة وتراث وتاريخ البلاد، بل يختارونها بسبب انخفاض الأسعار وبسبب الترحيب المبالغ به لأناس مُتعالِين لا يستحقّون تلك الحفاوة (المَفْرُوضة على العاملين)، كما بقي الإقتصاد، منذ نصف قرن مُثْقَلاً بالدّيُون، ما يَرْهَنُ مُستقبل ومَصير الأجيال القادمة…
المكاسب والخسائر، خلال عشر سنوات:
يمكن تلخيص الوضع، بعد عشر سنوات من انتفاضة 2010، بارتفاع بطالة الشباب وخريجي التعليم العالي، والنساء (ضِعْف نسبة الرجال)، وبمضاعفة قيمة الدّيون الخارجية، بحسب المصرف الأفريقي للتنمية، الذي قدَّرَ قُرُوض البنك العالمي بنحو 4,2 مليار دولارا، بين 2011 و 2019، بالإضافة إلى مبلغ مماثل (أو أقل قليلا) من صندوق النقد الدّولي، وقُروض أخرى، فاقت في مجملها 14 مليار دولارا، وهي قُرُوض مشروطة بإلغاء دعم الطاقة والمواد الأساسية، وخفض الرواتب وتسريح موظفي القطاع العام، وغيرها من الشروط التي يَفْرِضُها الدّائنون على الدُّول المُقترضة، وإذا أضفنا الرّكُود الذي سبَّبَته جائحة “كوفيد 19″، تكون نتيجة الرّكود والكساد الإقتصادي كارثية، لأنها تُتَرْجَمُ إلى انخفاض دَخْل العاملين، ولم تتخذ الحكومة الحالية ولا الحكومات التي سبقتها إجراءات تصُبُّ في اتجاه بناء اقتصاد مُنتج يُحقِّقُ الإكتفاء الغذائي، وتلبية الحاجيات الأساسية للمواطنين، بل وَسّعت مجال التّبَعِيّة إلى تركيا ودُوَيْلات الخليج (الإمارات وقَطَر)، بالإضافة إلى زيادة تغلغل اللغة (والثقافة) الفرنسية، لغة وثقافة المُسْتَعْمِر، وكان من المتوقع تنظيم تونس لقمة الفرنكفونية في كانون الأول/ديسمبر 2020 ، بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس المنظمة الدولية للفرانكوفونية، بينما أغلقت الجامعات ومراكز البحث الفرنسية أبوابها أمام الطلبة التونسيين، وسوف تزداد تبعية الإقتصاد التونسي لأوروبا، بسبب اتفاقيات التجارة الحرة، وآخرها “اتفاقية تجارة حرة شاملة ومعمقة”
أفْضَتْ انتفاضة 2010/2011 إلى تغيير في أُسْلُوب الحكم، وإلى توسيع قاعدة النّظام، لِتَضُمَّ الإخوان المُسْلِمين (وهم من دُعاة الإقتصاد الليبرالي) وبعض الفئات المحسوبة على الفكر القومي والتقدمي والإشتراكي، وجرت انتخابات برلمانية ورئاسية وبلدية، فاز بها من يمتلك المال والإعلام المَأجُور، من إخوان مسلمين وتفرعاتهم، ودساترة بتفرعاتهم أيضًا، ولم ينتصر بالضّرورة من يُقدّم حُلُولاً لمشاكل العباد والبلاد، وبالتوازي مع احترام مواعيد الإنتخابات وتوسيع القاعدة الطبقية للنظام، توسعت أيضًا قاعدة الفساد والرشوة والتّهريب، والإرهاب، كما توسع حجم من تأثّرُوا سَلْبًا بالأزمات، فزاد عدد المُعَطّلين عن العمل والفُقراء، والمُهاجرين غير النّظاميين، لتشمل الهجرة المزيد من الشباب، وحتى الكُهول من الجنسَيْن، كما شملت الهجرة النظامية الكفاءات العلمية من الباحثين والأطباء والمُهندسين…
لم تُفْضِ الإنتفاضة إلى تغيير في جوهر النظام، وبقي الإئتلاف الطبقي الحاكم كُمْبرادوريا (أي وكيلا لمصالح رأس المال الأجنبي، ويُشارِكُهُ نهب الثروات واستغلال العاملين)، وجَسَّدَ رئيس الحكومة (هشام المشيشي ) هذه التّبَعِيّة، التي أدّت إلى استمرارية الوضع (الذي كان سائدًا قبل 2010)، بل واتجاهه نحو الأسوأ، لمّا اعترف بعدم حصول أي تغيير في المجال الإقتصادي، منذ 2010، ثم أعلن، يوم الثلاثاء، الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر 2020: ” إن البلاد ليست بحالة إفلاس، ولكنها تمر بأزمة اقتصادية واجتماعية خطيرة، وقد يصل عجز الميزانية، بنهاية سنة 2020، إلى 14% من الناتج المحلي الإجمالي، ونسبة البطالة إلى 20% من قوة العمل…”، بحسب وكالة تونس إفريقيا للأنباء (وات 03/11/2020)، ويعتقد رئيس الحكومة (وما هو سوى ممثل للإتلاف طبقي) أن الحل يكمن في البحث عن قُرُوض خارجية جديدة، ومواصلة السياسات السابقة، المتمثلة في زيادة الحوافز والإعفاءات الضريبية، والإقتطاع من رواتب الأجراء، التي استفاد منها أرباب العمل والأثرياء، بدل محاولة القضاء على الفَقْر، وبلغت قيمة مجمل الحوافز الجبائية والإعفاء من تسديد ديون أرباب العمل للتأمين الإجتماعي، سنة 2019، نحو سبعة آلاف مليون دينارا، أو ما يقارب 18% من ميزانية الدّولة، البالغة أربعين ألف مليون دينارا، وللمقارنة، لا تتجاوز قيمة صادرات مجمل هذه الشركات، أربعة آلاف مليون دينارً، وبلغت أرباح الشركات الكُبرى المُدْرَجَة بالبورصة نحو 18 ألف مليون دينارًا، فيما لا تزيد قيمة الناتج المحلي الإجمالي عن 120 ألف مليون دينارًا…
قد لا يعرف المواطن العادي هذه الأرقام والنِّسَب، لكنه ليس في حاجة لمعرفتها، فهو يُسدّدُ يوميا ثمن هذه الخيارات الإقتصادية والسياسية المُعادِية لمصالحه، ويعرف أن الفاسدين واللصوص الحاليِّين قد عقدُوا صُلْحًا “قانونيًّا” مع الفاسدين واللُّصُوص القُدامى (الرّاسخون في فن اللصوصية)، وأقَرّ مجلس النّواب هذا “الوفاق التّاريخي، في إشارة إلى تقاسم النُّفُوذ، وإعلان اتحاد اللصوص والفاسدين، ولذلك تعدّدت الإحتجاجات، وتوسعت رُقعتها الجغرافية والبشرية، إذ شملت فئات عديدة، في المناطق الحَضَرِيّة والرِّيفِيّة، ولجأت كافة الحكومات المتعاقبة إلى قمع الإحتجاجات، وإلى تلجيم حُرِّيّة الرّأي والتّعبير، عبر أجهزة القمع ( قوات الشرطة، والقضاء )، وبينما انخفضت الميزانيات ذات الصبغة الإجتماعية (كالتشغيل والتنمية)، ارتفعت ميزانيات الشرطة والجيش، بذريعة مقاومة الإرهاب، هذا الإرهاب الذي تدعمه، بل تشرف على دواليبه بعض فئات النافذين في مجلس النواب والحكومة ودوائر القرار، من تيارات الإخوان المسلمين وتَفَرعاتها العديدة، التي أدّى حقدها إلى اغتيال المُعارضين، ومنهم شكري بلعيد ومحمد البراهمي، مع محاولة طَمْس الطريق المُوصِلَة إلى من أصدر ومن نفذ ومن تَسَتَّرَ على عمليات الإغتيال…
دُرُوس واستنتاجات:
تُشير البيانات الرّسمية للمعهد الوطني للإحصاء (أيلول/سبتمبر 2020) إلى عدم خروج مناطق غرب تونس (شمال وَوَسَط وجنوب ) من حالة التهميش والفقر، بل زادت حدّة الفَقْر في ولاية (محافظة) “سيدي بوزيد”، نقطة انطلاق انتفاضة 2010، وفي محافظات أخرى (القصْرين والقيروان والكاف وسليانة وجندوبة وقفصة وتوزر وقبِلِّي…) في ظل غياب خطط تنمية هذه المناطق التي تفتقد للبُنْيَة التحتية الأساسية، وتتميز بارتفاع نِسَب البطالة، والهجرة غير النظامية، وضُعْف مُستوى التعليم…
هذه الأسباب التي أدّت إلى انتفاضة 2010، لا تزال قائمة، بل زادت حدّتها، ليبقى مطلب التشغيل أو التنمية أو العدالة الإجتماعية قائمًا، لأن ائتلاف الإخوان المسلمين والدّساترة لم يُعر اهتمامًا لأي من هذه المطالب، وهو غير قادر على تحقيق هذه المطالب، لأنه ائتلاف قائم على التبعية لمصالح الدّول والشركات الأجنبية، ولا يُمكنه الخروج عن طاعتها، ولا عن أوامر صندوق النقد الدّولي، ممثل مصالح هذه الدول والشركات العابرة للقارات، والمُتمثلة في خفض الإنفاق وخفض قيمة الدّينار، وإلغاء دعم المواد الأساسية، وخصخصة ما تَبَقَّى من القطاع العام، وتصب جميع هذه الإجراءات في خانة تعميق الفجوة الطبقية، وتكثيف حدة الإستغلال والإضطهاد…
يُدْرِكُ المُستغَلُّون والمُضْطَهَدُون هذه الخطط ويُدْرِكُون أهدافَها بالسّليقة، ويُدْرِكُون أنها تستهدفُهم بدرجة أولى، ويتأثّون سَلْبًا، وبسرعة، بهذه الإجراءات، فما الذي يمنعهم (وهم أغلبية عَدَدِيّة في المجتمع) من الثورة ومن افتكاك زمام السّلطة من الفاسدين واللُّصُوص، أي من الأثرياء؟
لقد بثّ ائتلاف “الجبهة الشعبية” وَهْم التّغْيِير عبر انتخاب المجلس التأسيسي، وإقرار دستور جديد، وإجراء انتخابات دَوْرِيّة، في مواعيدها، بدل الإضراب والإعتصام واحتلال محلات المؤسسات، وحصل هذا الإئتلاف على الحد الأقصى الذي كان مُتاحًا له (15 نائبًا من إجمالي 217 نائب) في البرلمان، ولئن ارتقى خمسة عشر شخصًا في درجات السُّلّم الطبقي، وأصبح بإمكانهم الإدلاء بتصريحات لوسائل الإعلام، فإنهم لم يُغيِّرُوا من طابع النّظام، لو افترَضْنا جَدَلاً أنهم كانوا يعتزمون التّغيير لصالح العاملين والمُعَطّلِين والفُقراء، بل أضْفُوا عليه صفة الدّيمقراطية، وصفة التّسامح وقُبُول الرّأي المُخالف، وغير ذلك من الصّفات الزائفة، والتي لن تَحُلّ مشاكل المُجتمع ومشاكل الفُقراء، ومسائل أخرى كالدُّيُون المُرتفعة…
ساهمت بعض أحزاب ومنظمات اليسار، وكذلك قيادة الإتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد نقابات الأُجَراء) في فض اعتصامات ساحة “القصبة”، حيث مقر رئيس الحكومة والعديد من الوزارات، ضد خطر الإلتفاف على الإنتفاضة واحتوائها…
إن الوعْي الحماسة والوعي الحِسِّي لا يكفيان لإتمام عملية التغيير أو إنجاز ثورة، ولم يكن الشباب المنتفض متجانسًا سياسيًّا، ولا يمتلك بديلاً أو تَصَوُّرًا للمجتمع البديل، كما لم تكن الأحزاب والمنظمات، التي تَدّعي النضال من أجل الإشتراكية، برنامجًا أو تَصَوُّرًا للمجتمع الذي تريد بناءه، وكانت هذه العوامل بابًا مُشرعًا للقوى الأكثر ثراءًا (مادِّيًّا) والأكثر خبرةً وتنظيمًا، للإلتفاف على مطالب المُتظاهرين والمُحتجّين، واختلق الدّستوريون والإخوان المسلمون انقسامًا في المجتمع بين “الأصالة” (الإسلامية) و “المُعاصَرَة” (الدّستورية)، أو بين “الحداثة والعلمانية” في مواجهة “الإسلام السياسي المُحافظ”، ما أقْصَى شباب “الثورة” من المَشهد الإعلامي والسياسي، قبل أن يقع إقصاء منظمات اليسار التي اصطفّت وراء الباجي قائد السبسي، وزير داخلية بورقيبة لفترة 14 سنة، والذي تدعمه دُوَيْلَة الإمارات، في مقابل دعم مَشْيَخَة “قطر” للإخوان المسلمين، وكلاهما (قطر والإمارات، أو الإخوان والدساترة) عُملاء للإمبريالية الأمريكية والأوروبية، واكتفى قادة اليسار، الذي دفع مناضلوه ثمنا مرتفعًا جدا، خلال حكم بورقيبة (1956 – 1987) وبن علي (1987- 2010)، بالدخول كطرف في “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي”، بدون برنامج ولا خطة مُستقلة على الأطراف الرجعية والإصلاحية.
تخوّفت أحزاب ومنظمات اليسار من قُدْرَة شباب المناطق والأحياء المحرومة على ابتكار أشكال اتخاذ القرار بشكل جماعي، وممارسة ديمقراطية أُفُقِيّة، وغير ذلك من أشكال النضال التي سارعت قيادات اليسار في وضع حدّ لها، بالتعاون مع رموز نقابية، وأخرى حزبية رجعية، وأرْجأت بذلك النقاش بشأن قضايا استراتيجية كنموذج التنمية، وقضايا آنية مثل تحسين حياة المواطنين الفُقراء، وتشغيل المُعَطّلين عن العمل، وهي القضايا التي لا تزال بارزة، بعد عشر سنوات، في الإعتصامات الأخيرة (سنة 2020) بولايات قفصة وقابس والقصرين وتطاوين والقيروان و جندوبة، وأشرفَ على هذه الإحتجاجات، وعلى إضراب الأطباء والقُضاة وغيرهم، لجان أو “تنسيقيات” مُستقلة، ما يُثِير التّساؤل حول مكانة ودَوْر أحزاب اليسار، ودور الإتحاد النقابي…
من يحكم البلاد، بعد عشر سنوات من الإنتفاضة؟
انتشر، منذ بداية العام 2020، خبر احتمال لجوء حكومة تحالف الإخوان المسلمين والدّساترة إلى طلب تأجيل تسديد أقساط الدّيون التي تضاعفت، خلال تسع سنوات وتأكّدت هذا الأخبار في آذار/مارس 2020، حيث وجدت الحكومة صعوبات في تسديد أقساط بقيمة 200 مليون دولار في نيسان/ابريل 2020، وبقيمة 444 مليون دولارا، في حزيران/يونيو 2020، بحسب المصرف المركزي، وترتبط نسبة 70% من التمويلات الخارجية بنجاح التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وتوقف التفاوض طيلة سبعة أشهر، وسبق أن أجّل صندوق النقد الدولي تسديد أَقْساط من القرض الذي حصلت عليه الحكومة في أيار/مايو 2016 بقيمة 2,8 مليار دولار، استخدمت الحكومة مبلغ 1,6 مليار دولارا منه في تمويل عجز الموازنة، وبعض النفقات الأخرى، خلال خمس سنوات، مع العلم أن قُروض صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ليست مُوَجَّهَة للإستثمار في القطاعات الإنتاجية، وتخضع لشروط مجحفة، أما طلب تأجيل أو إعادة جدولة تسديد الأقساط، فإنها ذات تكلفة كبيرة، سياسيا وماليا، وقُدِّرت الاحتياجات التونسية من التمويلات الخارجية في بداية العام 2020، بنحو أربعة مليارات دولار، ثم ارتفعت إلى أكثر من خمسة مليارات دولارا…
أعلن رئيس لجنة المالية بالبرلمان يوم الجمعة 30 تشرين الأول/اكتوبر 2020، أن ديون البلاد بلغت 90 ألف مليار دينار، وبذلك فاقت نسبة التّدايُن 100% من الناتج الداخلي الخام، بالإضافة إلى ديون المؤسسات العمومية البالغة قيمتها 17 مليار دينارا، ما يرفع حجم الدّين الإجمالي إلى 114 مليار دينار، وأعلن المصرف المركزي التوني، خلال نفس اليوم، 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، أن الاقتصاد التونسي قد سجل انكماشا غير مسبوق بنسبة 10% خلال الأشهر التسعة الأولى من سنة 2020، وبلغت نسبة التضخم 5,4% على أساس سنوي، بنهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر 2020…
اعلن وزير الإستثمار، يوم 13 تموز/يوليو 2020، أن الحكومة التونسية تتفاوض مع عدد من الدول بهدف تأجيل تسديد أقساط قروض مُبرمجة خلال العام الجاري 2020. أما رئيس الحكومة التونسية فقد نفى يوم الإثنين 14 كانون الأول/ديسمبر 2020 ان تكون الدّولة مُهَدَّدَة بالإفلاس، و”إن تونس لازالت تحظى بثقة المستثمرين والمانحين الدوليين والمستثمرين”.
طالب البنك العالمي، يوم الإثنين 14 كانون الأول/ديسمبر 2020، الحكومة التونسية ومجلس النواب بالتسريع في تنفيذ جملة من الاصلاحات التي تعهدت بها الحكومة منذ سنة 2018.
قال رئيس لجنة البرلمان للمالية والتخطيط والتنمية: “لقد كانت قُرُوض البنك العالمي وتونس في السنوات الأولى، بعد الاستقلال، مُوجّهة لتمويل التعليم العمومي وبناء البنية التحتية دون أن تخضع تونس لشروط مجحفة أو املاءات، أما الآن فإن العلاقة تهدد سيادة تونس، لأنها ذات خلفية استعمارية…”
أن حكومة تونس لا تملك حرية اتخاذ القرارات الإقتصادية، بل يتحكم صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، وبقية الدّائنين بمثل هذه القرارات، ومن يتحكم بالقرار الإقتصادي، يتحكم بالقرار السياسي، ولذا يمكن اعتبار تونس فاقدة أو منقوصة السيادة، سوى في مجال القمع.
ماذا تبقى من الإنتفاضة؟ وما هي الآفاق؟
تميزت انتفاضة 2010، كما انتفاضة 1983/1984، بانطلاقها من “الأطراف”، أي من خارج المُدُن الكبرى، ومن خارج المناطق العُمالية، وتقودها فئة الشباب التي وقع تهميشها، وإقصاؤها من المجالات الإقتصادية والسياسية، وشكّلت مُنطلقًا لانتفاضة مصر، البلد العربي الأكثر كثافة سكانية، وشكلت هذه الإنتفاضة صفعةً للعديد من القُوى التي كانت (منذ 2005 ) تستدعي، جَهْرًا وعلانية، الإمبريالية للتدخل في تونس أو في مصر أو غيرها، لتغيير الدكتاتور بحاكم آخر غيره، وكانت هذه القوى (أحزاب ومنظمات “غير حكومية”) تدّعي أن الشّعبَ مُخَدَّرٌ، وغير قادرٍ على الإحتجاج، ولمّا انتفض شباب “سيدي بوزيد” ثم القصرين وقفصة وغيرها، رافعًا مطالب وشعارات تتلخص في “الشغل والحُرّية والكرامة”، أو “الشُّغل استحقاق ياعصابة السُّرّاق (اللُّصُوص)”، و”الشعب يريد إسقاط النّظام” (ليس منذ البداية، بل بعد بضعة أيام)، انتظرت القيادة المركزية لاتحاد الشغل وجمعية المحامين ورابطة حقوق الإنسان، وغيرها، يوم السابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر 2010، للإحتجاج بأعداد صغيرة أمام محلاّت المُنظمات في البداية، ثم في الشوارع، مع تغيير الشعارات، التي صبغتها فئات البرجوازية الصغيرة بطابعها الخاص، وطغى عليها الطابع “الديمقراطي”، والمُفرغ من أي محتوى أحيانًا، مثل “ارْحَلْ”، أي اختزال شعار “الشعب يريد إسقاط النّظام”، في رحيل رأس النظام، دون الإكتراث بالبديل، أو بما سوف يحصل بعد رحيل زين العابدين بن علي…
شَكّلَ طُغيان شعارات هذه الفئات، خلال الأيام الأخيرة من حُكم “زين العابدين بن علي”، واستبعاد شعارات وشباب “الآفاق” (المناطق الدّاخلية) من الواجهة، ناقوس خطر على منظمات وأحزاب اليسار، التي ظَهَر ضُعْفُها كمجموعات سياسية، وضُعْفُ قياداتها، رغم تضحيات مناضليها كأفراد، وشكلت هذه الفئات البرجوازية الصغيرة والليبرالية خَطَرًا على جوهر الإنتفاضة…
لم يُوافق قادة بعض أحزاب اليسار على شعار “إلغاء الدّيُون”، وقبل بعضهم على مَضَضٍ شعار “تأجيل تسديد الدّيون”، أو تجميد” تسديدها، لكن إلى متى؟ تُشكّل الدّيُون وشروطها المجحفة شكلاً من أشكال النهب لثروات البلدان المُسْتَدِينة، ونقلاً للثروات (أي جُهُود العاملين، وفائض القيمة) من “الجنوب” إلى “الشّمال”، ولا يقل ذلك خطرًا عن السرقة والتّهريب.
روّجت منظمات اليسار وهم الحلول المُؤسّساتية، مثل انتخاب مجلس تأسيسي، لا يضمن لها وزنها داخله أي ثقل، وأي وزن عند اتخاذ القرارات، وإعداد دستور جديد، ثم انخرط الإتحاد العام التونسي للشغل، أكبر قُوّة مُنَظَّمَة في البلاد، في حوارات ووفاقات لا تضمن مصالح الأُجراء ومُنخرطي الإتحاد، لأن الهدف كان حصول وفاق يجمع بين الدّستوري (الذي خَرّب البلاد، منذ 1956) والإخوانجي والقومي واليساري، وغير ذلك من الأطياف المتنافرة، من أجل هدف غير واضح، أو من أجل مواصلة نفس السياسات السابقة، بوسائل مختلفة، وبذلك تورّط الإتحاد العام التونسي للشغل ورابطة حقوق الإنسان وعمادة المحامين، إلى جانب اتحاد أرباب العمل، في تثبيت سلطة يمارس قادة أحزابها الفساد والرّشوة والتهرّب الضريبي، ورهن البلاد للقوى الإمبريالية، وشركاتها العابرة للقارات…
إن اليسار (الإتجاهات الإشتراكية) غير معني بسياسات الوفاق الطّبقي، ولكن من واجبه العمل على بلورة الوعي ونشر الفكر الثوري الإشتراكي، مع المبادرة إلى إنشاء مجموعات اقتصاد تضامني أو تشاركي، سواء في الأرياف (الزراعة وتربية المواشي، وتصنيع الإنتاج الغذائي)، أو في الحَواضر، لإنشاء تعاونيات حرَفِيِّين أو في قطاع الخدمات والتجارة، وغيرها، على أُسس المُساواة بين العاملين، والضّغط لتغيير القوانين السّائدة التي تَضع العديد من العراقيل أمام إنجاز مثل هذه المشاريع…
إن مثل هذه المشاريع تُمكّن اليسار من الإنغماس في الواقع اليومي للشغالين وللمَحْرُومين، ويمكن أن تكون نواة لبرنامج مُستقبلي يقع تنقيحه وفق الصعوبات أو السلبيات والإيجابيات التي يُظْهِرُها العمل اليومي…
عند ذلك يمكن لليسار أن يُشارك في الإنتخابات البلدية، بشعارات تدعو إلى إنجاز برامج التنمية عبر العمل الجماعي والتّشارُكِي، وعند ذلك يمكن لمناضلي اليسار المُشاركة، وربما قيادة الحركات المطلبية للسكان، في مواقع العمل أو في مواقع الإقامة…
خاتمة:
ألَّفَ المبعوث الأمريكي “جيفري فلتمان” (سفير سابق في لبنان، وأحد مُدَمِّرِي جهاز الدّولة في العراق) أول حكومة بعد رحيل بن علي، برئاسة الوزير الأول لبن علي، قبل مجيء دساترة آخرين، مثل فؤاد المبزّع وابن خالته الباجي قائد السّبسي، ولا تزال القوى الأجنبية تُشارك في تأليف الحكومات التونسية، وشاركت حكومة الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومنظمات التنمية الدولية الأخرى، في تأليف الحكومة الحالية، لضمان سيادة “السوق الحرة”، والليبرالية الإقتصادية، ما يُمثّل تجسيدًا صارخًا للهيمنة الإمبريالية على البلاد، ولا يمكن لأي قوة تَعمل على تغيير الوضع إهمال أو تجاهل هذه الهيمنة التي تُشكّل اتفاقية الشراكة مع الإتحاد الأوروبي (أليكا) أهم رُمُوزِها، بالإضافة إلى أوامر صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي.
يتميز الوضع الحالي بتقاسم النفوذ السياسي، بين تركيا وقطر والإمارات، بالإضافة إلى القوى الإستعمارية التقليدية، كالولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، وفرنسا بشكل خاص، ويتميز، على الصعيد السياسي الدّاخلي، بقَضْمِ بعض المكتسبات مثل حرية التعبير والرأي، وضُعْف النّمو الإقتصادي وارتفاع نسبة البطالة والفَقْر، وهي نفس الأسباب التي أدّت إلى انتفاضة 17 كانون الأول/ديسمبر 2010، مع وَعْيِ قطاع هام من المواطنين (رغم الإستِياء والإحباط ) بقوتهم كمجموعة، وليس كأفراد، وبإمكانية الإنتصار، ولو مُؤقّتًا، على النظام ومنظومة القمع، فماذا أعدَدْنا للمرحلة القادمة؟
يتطلّبُ الوضع الحالي نقدًا يتمثل في الوقوف عند أخطاء القوى السياسية التقدمية، خلال الإنتفاضة، والفترة التي لحقتها، بهدف تفاديها في المستقبل.
ركَّزت بعض فصائل اليسار التونسي (وكذلك المصري والسُّوري والمغربي وغيرها) على المطالب الليبرالية، كحقوق الإنسان والديمقراطية والحريات الفَردية والحُرّيات السياسية العامّة، بالتّحالف مع اليمين الليبرالي والإسلامي أحيانًا، وبتمويل من منظمات أمريكية وأوروبية، وأهملت معظم منظمات اليسار مطالب واهتمامات ومصالح الطبقة العاملة والفُقراء، كما أهملت عَمْدًا، وباسم “التّكتيك”، الرّبط بين مطلب الحريات الفردية والديمقراطية، ومطالب العاملين والفُقَراء وأهمها: الشغل والكرامة، وإعادة توزيع الثروة، وعقد اجتماعي جديد، ما خلق انفصامًا أو قطيعة بين الأهداف الإستراتيجية المَزْعُومة المُعْلَنَة، من جهة، والتكتيكات المُتّبَعَة لبلوغ الهدف الإستراتيجي، من جهة أخرى، ويظهر التكتيك في المُمارسات اليومية والمطالب الآنية، والتحالفات الظّرفية، ويكون التكتيك سليمًا إذا كان يسمح بالتقدم خطوةً أو خطوات نحو إنجاز الأهداف الإستراتيجية…
تهدف مخططات بعض فصائل اليسار التونسي إلى احتلال بعض المراكز داخل الإتحاد العام التونسي للشغل، وناضلت عناصر اليسار داخل النقابات، من أجل انتخابات ديمقراطية وشَفّافة، داخل الاتحاد العام التونسي للشغل، لكن الإتحاد النقابي جهاز بيروقراطي ضخم، يبتلع كل من تحمل مسؤولية على مستوى قطاع أو إقليم (جهة)، بفعل المحفزات المالية العديدة، وبحكم التّفرّغ للعمل النّقابي، والإبتعاد شيئًا فشيئًا عن مواقع العمل، وعن المشاغل اليومية للشّغيلة…
نجحت بعض الحركات في إنجاز بعض النّجاحات بفضل انتفاضة 2010/2011، منها تضامن المواطنين في “قرقنة”، سنة 2016، مع العُمّال الذين اعتصموا وطالبوا شركة تستخرج المحروقات، بزيادة نصيبهم من الثروة، ونجاحهم في طرد قوات القمع التي مارست القمع الشديد ضد سكان الجزيرة، واضطرت الحكومة للتفاوض مع المضربين، بعد اختلال ميزان القوى لغير صالحها.
في مجال التنمية الفلاحية، تمكّن سُكّان قرية “جمْنة”، في الجنوب الغربي، من استرجاع الواحة التي تمت مصادرتها من الأجيال السابقة، لصالح مُسْتعمِر فرنسي، ثم استولت عليها الدولة، ورفضت إرجاعها لأصحابها الذين بقوا يُطالبون بها، وأَجّرَتْها للمُقَرّبين من النظام الحاكم، واستولى المواطنون على أراضيهم، أثناء الإنتفاضة، وأشرفت جمعية من المتطوعين على تنمية الواحة وعلى استثمار جُزْءٍ من الأرباح في منطقة الجنوب الغربي للبلاد، ولم تنجح الدّولة في تفكيك التجربة، رغم الحصار المالي والتهديدات، ولكن المواطنين المُلْتفِّين حول الجمعية، وشبكة المتضامنين في تونس وفي الخارج، ساهموا في دعم صمود السّكّان وفي التّعريف بنضالاتهم، وبذلك تراجعت الحكومة، ربما مؤقتًا، عن استخدام القوة، وعن ابتزاز التّجّار الذين يشترون إنتاج الواحة، ووجب دراسة هذه التجربة، والوقوف عند نقاط الضعف والقوة، وإعداد خطة لتنمية قطاع الفلاحة، لتأمين الإستقلال والإكتفاء الذاتي الغذائي، ولتشغيل عدد هام من أبناء الأرياف، على أن يتم إعداد خطة لإنشاء وتطوير الإقتصاد التشاركي، أو التضامني، أو ما يعبّرُ عنه الرفيق عادل سمارة ب”التنمية بالحماية الشعبية”.
قد تُشكّل بعض هذه التّجارب الإيجابية نواةً لدراسة أو إثراء برنامج مُستقبلي، لتفادي نتائج عفوية الإنتفاضات السابقة (والإنتفاضات بطبعها عفوية، لكن وجب التحسّب لها وإعداد العُدّة لتحويلها إلى ثورة)، ولتفادي استيلاء القوة الأكثر تنظيمًا ( واستعدادًا لتَحَمُّل أعباء السلطة ) على ثمارها…
رفَع اليسار، منذ فترة سبعينيات القرن العشرين شعار “مجلس تأسيسي”، ولكن ظَهَرَت عبثية هذا المطلب، بسبب عدم امتلاك اليسار لمشروع دستور جديد ولا للقوة المادية الضرورية لفرض إقرار مشروعه، وبقي مُصِرًّا على الشّعار، رغم الضُّعْف الذي أصاب اليسار، بسبب القمع والمُحاكمات، وكذلك بسبب التّمسّك ببعض الشعارات الإستراتيجية، دون الإهتمام بالتكتيكات أو الخطط المرحلية التي تجعل البرنامج الإستراتيجي قابلاً للإنجاز…
ماذا أعْدَدْنا لانتفاضة أخرى قد تنطلق غدًا أو بعد غدٍ، لأن العوامل التي فَجّرت الإنتفاضة لا تزال حاضرة، وهل نترك السّاحة مُجَدّدًا لقوى الثورة المُضادّة ؟
تونس بعد عشر سنوات
الطاهر المعز
تم إرسال هذا البريد الإلكتروني عن طريق إحدى النماذج عبر موقع الصفصاف (http://www.al-safsaf.com)