تونس تزاحم لبنان على القضية الفللسطينية – عبد الستار قاسم
اختفت منذ زمن أغلب الساحات العربية الناشطة بخصوص القضية الفلسطينية. لقد ضحى الفلسطينيون بساحة الكويت، وأداروا ظهورهم للساحة السورية، ولم يركزوا على الساحة الجزائرية بما يكفي. كما أن الأنظمة العربية وقعت بالمزيد تحت الهيمنة الصهيونية الأمريكية وسحبت يدها من القضية وتحولت إلى أدوات لإقناع الفلسطينيين بضرورة خيانة قضيتهم والركون إلى العمل التفاوضي الذي نال كثيرا من الساحة الفلسطينية ذاتها. بقيت ساحة لبنان رغم أنف القيادة الفلسطينية ورغم أنف الأنظمة العربية فاعلة وناشطة، وتمكنت من دحر الصهاينة عام 2000 وإخراجهم من الجنوب اللبناني دون قيد أو شرط، وتمكنت بعد ذلك من صناعة انتصار على جيش الصهاينة اعترف به الصهاينة وأنكره العرب على أنفسهم. وبرغم كل التضييق على لبنان والتحشيد والإساءة والتشويه إلا أن القوى الوطنية والقومية بقيت متماسكة وقوية ومصرة على إبقاء القضية الفلسطينية على قمة سلم أولوياتها واهتماماتها.
لبنان هي البلد العربي الوحيد الذي ما زال يشكل ساحة فاعلة وناهضة من أجل القضية الفلسطينية. فهي تحتضن النشاطات الثقافية الخاصة بفلسطين، وهي التي تحتضن المؤتمرات الفكرية والسياسية، وهي التي ما زالت تضع أصابعها على الزناد وتمتلك قدرة ردع في مواجهة الكيان الصهيوني. ربما يقول أحد إن وجود المخيمات الفلسطينية في لبنان يساعد اللبنانيين على الاستمرار في تحدي الصهاينة والمحافظة على مكانة القضية الفلسطينية. هذا ليس بالضرورة، توجد في الضفة الغربية مخيمات لاجئين كثيرة، وكثير من اللاجئين يعملون في الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي تتعاون مع الصهاينة. والحق أن في لبنان أناس أشداء خبروا الحرب وخبروا ضنك العيش، وهم أصحاب مراس وبأس، وكرامتهم أعز ما يملكون وأكثر ما يحركهم. لم يرضخوا للمغريات، ولا للتهديدات، وبقوا صامدين يتحدون التحدي، ويواجهون الأعداء بصدورهم. إنهم يسهرون الليل ويجدّون النهار من أجل المحافظة على عزتهم وأنفتهم وبلادهم وحقوق الفلسطينيين الذين هم جميعا أهل الشام، أهل الشهامة والحمية والشجاعة.
اللبنانيون بمختلف فئاتهم وقفوا مع القضية الفلسطينية ولو بنسب متفاوتة، ولا حظنا أن اللبنانيين لا ينظرون إلى القضية نظرة طائفية أو مذهبية، وأكدت الاستطلاعات أن منهم غير مسلمين يؤيدون المقاومة ضد الصهاينة أكثر من المسلمين الذين يقولون إن أرض الشام أرض وقف إسلامي. وتفسير هذه المواقف اللبنانية الشعبية يتطلب الدراسة والتمحيص، والاستفادة من النتائج عسى الفلسطينيون يستفيدون منها للتأثير على مواقف شعبية ورسمية في مختلف البلدان العربية.
تكتسب هذه الأيام القضية الفلسطينية زخما على الساحة التونسية، وواضح أن شعبنا العربي في تونس يمارس ضغوطا متزايدة لكي تكون تونس ساحة نشاط للقضية الفلسطينية. معروف أن الشعب التونسي من أكثر الشعوب العربية تحمسا للقضية الفلسطينية، وتظهر استطلاعات الرأي أن نسبة الرافضين لوجود الكيان الصهيوني في تونس أعلى منها في أي بلد عربي آخر بما في ذلك فلسطين. هناك فلسطينيون يعترفون بالكيان الصهيوني ويطبعون معه، وارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أدوات أمنية بيد الصهاينة، لكن شعب تونس يرفض أساسا مناقشة فكرة التطبيع.
لم تحظ القضية الفلسطينية بهامش واسع من النشاط في تونس أيام الحبيب بورقيبة، واضمحل ذكرها أيام زين العابدين بن علي، بل شاع اتهام لزين العابدين بأن أحد وزرائه قد تآمر مع الصهاينة من أجل قتل المناضل الفلسطيني خليل الوزير في تونس. وابن علي أدار وجه تونس عن القضية الفلسطينية وعملت أجهزة أمنه على تقليص النشاطات التثقيفية والسياسية الخاصة بالقضية. تونس استضافت بعض الفلسطينيين بعد الحرب على لبنان عام 1982، لكنها لم تكن استضافة بهدف تعزيز روح المقاومة العربية، إنما كانت مرحلة نحو نفض يد بعض القيادات الفلسطينية من القضية.
بعد ثورة تونس، شهدت الساحة التونسية حراكا سياسيا واسعا، واتسعت دائرة حرية التعبير والدفاع عن القضية العربية. ويبدو أن تنافسا حول تعزيز مكانة القضية الفلسطينية قد جرى بين الفئات التونسية المختلفة. حملت حركة النهضة على استحياء فكرة المقاومة وتعزيز المقاومين الفلسطينيين، واختارت الجبهة الشعبية طريق تحريك الشارع التونسي وبث المزيد من الوعي في صفوفه. وقفت الجبهة الشعبية ومن يصبون في إطار القومية العربية ضد التطبيع مع الصهاينة، وحالت دون تسلل المطبعين إلى تونس، وشنت حملة شعواء على المطبعين والمهادنين للكيان الصهيوني. وقد رأينا مؤخرا الحملة الدائرة في تونس الآن تضامنا مع الأسرى الفلسطينيين المضربين عن الطعام. هناك مسعى واضح وقوي لدى التونسيين لاستعادة مكانة القضية الفلسطينية في نفوس الناس، وإبرازها على أنها قضية العرب الأولى. كما أن الجانب الإعلامي لا يقصر في استنهاض الهمم التونسية. وأذكر هنا جريدتي الشروق والحرية اللتين تتبنيان القضية الفلسطينية.
ماذا عن دور الفلسطينيين؟ هناك جمهور فلسطيني في كل مكان مستعد للتعاون مع أهلنا في تونس، وتزويدهم بمختلف المواد والمعلومات الضرورية للإبقاء على جذوة القضية الفلسطينية. لن يبخل فلسطيني وطني ببذل كل جهد ممكن من أجل صمود تونس وعنفوانها وقوة شعبها، وحرية فلسطين من حرية تونس. ونحن نتوقع من أهلنا في تونس أن يعززوا الوجود الثقافي الفلسطيني في تونس، وأن يقيموا الصداقات اللازمة من أجل أن تبقى وحدة الشعبين ووحدة كل الشعوب العربية.
كاتب فلسطيني