تونس .. مخاوف وتساؤلات – محمد سيف الدولة
أصدر قيس سعيد ثالث رئيس منتخب منذ الثورة التونسية 2011، حزمة من القرارات الاستثنائية تضمنت ما يلى:
- تجميد البرلمان المنتخب لمدة 30 يوما.
- مع رفع الحصانة عن نوابه.
- واعفاء رئيس الوزراء، وتولى السلطة التنفيذية بنفسه بمساعدة رئيس وزراء جديد.
- مع تولى رئاسة النيابة العمومية.
- تلاها قرار بحظر التجوال ليلا لمدة شهر.
- وقرارات اخرى فى ذات السياق.
***
أما عن الاسباب التى برر بها الرئيس التونسى اصداره لهذه القرارات فلقد حددها فى خطابه فيما يلى:
- أن عديد من المناطق العمومية تتهاوى، وهناك عمليات حرق ونهب، وهناك من يستعد الآن لدفع الأموال في بعض الأحياء للاقتتال الداخلي.
- والنيابة العمومية تسكت عن جرائم ترتكب في حق تونس، ويتم إخفاء جملة من الملفات في أضابير وزارة العدل، أو في ملفات المجلس النيابي.
- وتحول القانون إلى أداة لتصفية الحسابات، وإلى أداة لتمكين اللصوص الذين نهبوا أموال الدولة وأموال الشعب المفقر، والى أدوات للسطو على إرادة الشعب.
- يضاف علي ما ذكره بنفسه، ما يردده انصاره من الاحزاب والقوى السياسية، من تحالف الاخوان مع الفاسدين فى البرلمان لتمرير تشريعات وقوانين لسرقة اقوات الشعب التونسى.
***
ردود الفعل الداخلية:
اختلفت الشخصيات والقوى السياسية داخل تونس على هذه القرارات فهناك من ايدها واعتبرها تعبيرا عن ارادة الشعب التى تجلت فى المظاهرات التى انطلقت يوم 25 يوليو، وهناك من اعتبرها انقلابا دستوريا، يتخفى وراء المادة 80 من الدستور الذى تم تأويلها بما ليس فيها.
والى حين اتضاح الصورة اكثر فى الايام والاسابيع القادمة، وما اذا كنا بصدد مشروع ثورة مضادة يقوم بها النظام القديم متخفيا وراء شخص رئيس الدولة، تبدأ بتصفية كل مكتسبات الثورة من حريات وحق تاسيس الاحزاب وتنظيم المظاهرات والانتخابات النزيهة وتبادل الآراء وتداول السلطة والفصل بين السلطات .. الخ، وتنتهى بالزج بكل من شارك فيها فى السجون والمعتقلات فصيلا وراء آخر ..الخ
ام اننا بصدد اصلاح ثورى حقيقى واجب، مع الحفاظ على مكتسبات الثورة، واعادة فرز قواها وتطهير صفوفها من عناصر وقوى الثورة المضادة، وفقا لخطة عمل لم يعلن عنها بعد؟
***
نقول الى حين ان تتضح الصورة فاننا سنعود الى ذات السؤال الذى طرحناه من عشر سنوات فى 20 يناير 2011 تحت عنوان “البحث عن سر تونس” حين اطلقت شرارة اول ثورة عربية.
سنعود الى ذات السؤال ولكن هذه المرة لنطرح تخوفاتنا وتساؤلاتنا على الاخوة هناك لينيروا لنا الطريق ويزيلوا ما قد التبس علينا من غموض خلال متابعة تطور الاحداث فى الايام الماضية.
ليس فقط بصفتنا اشقاء لهم، يهمنا امرهم ويهمهم امرنا، بل لانها الثورة العربية الاخيرة الباقية على قيد الحياة، بعد ان تم العصف بباقى الثورات العربية اجهاضا او اختراقا واحتواءا او عسكرة وحروبا اهلية وتدخلات دولية.
وفى سقوطها، لا قدر الله، حكم بالفشل على عشر سنوات كاملة من محاولات الشعوب العربية واحلامها فى التحرر من قيود الاستبداد.
وفى نجاحها وعبورها للازمة الاخيرة، باذن الله، تجديد لبوارق الحلم والامل لدى المواطن العربى فى ان الحرية والديمقراطية وتداول السلطة وعدم تقديس وتأبيد الحكام العرب والفصل بين السلطات والانتخابات الحرة النزيهة وإطلاق الحقوق والحريات للجميع.. الخ، امور لا تزال ممكنة.
***
مخاوف وتساؤلات:
1) هل نحن بصدد تصحيح ثورى طارئ يستجيب لغضب شعبى تلقائى نتيجة تفاقم المشكلات الداخلية بسبب فشل وفساد النخب السياسية الحاكمة بعد الثورة، وهو تصحيح طارئ سرعان ما سيلغى اى قرار استثنائى لتعود الحياة والحريات السياسية والدستورية الى سابق عهدها.
ام اننا بصدد مشروع مخطط ومدروس ومعد سلفا من الدولة العميقة والنظام القديم بافشال كل حكومات ما بعد الثورة، لاثارة غضب عامة التونسيين ضد الثورة ومن قام بها ودفعهم وتحريضهم للانقلاب عليها، والمطالبة بالعودة الى سنوات (الاستقرار) والقبضة الحديدة للنظام والدولة ايام بن على وبوتفليقة.
***
2) وفى ذات السياق، هل نجحت القوى السياسية التى قامت بالثورة فى اسقاط النظام القديم، وعزل قواه وطبقاته المسيطرة والحاكمة، وتاسيس نظاما جديدا بسياسات وتوجهات وطنية واجتماعية واقتصادية ثورية ومختلفة، أم ان قوى النظام القديم لا تزال تحكم البلاد من وراء الكواليس؟
***
3) وهل الحديث الدائر عن ان قرار تجميد البرلمان او حتى حله مستقبلا، كان قرارا حتميا لتقييد حركة النهضة التى تتحمل الجانب الاكبر من الازمة ومن اسباب الفشل، سيتبعه عاجلا أم آجلا قرارا رئاسيا باقصائها تماما من الحياة السياسية وفرض حظر قانونى على مشاركتها فى اى نشاط سياسى او استحقاقات انتخابية قادمة؟ حتى لا تعود للمشهد مجددا وتظل المشكلة قائمة؟
وهل سيتم تصنيفها كجماعة ارهابية لتبرير وتسهيل مثل هذه العملية الجراحية؟
وهل هناك دراسة وتقدير للعواقب وردود الفعل المتوقعة والمحتملة من انصارهم ومؤيديهم من المواطنين التونسيين الذين انتخبوهم؟
وهل يمكن تنفيذ هذا التوجه وهذه السياسات الاقصائية بدون فرض سلسلة من القيود السياسية والقانونية والامنية المماثلة على الجميع من غير الاسلاميين، مثل حظر التجوال وحظر التظاهر وحظر النقد والرأى الآخر، وحظر اى معارضة للرئيس او للنظام لانها ستصب حتما فى صالح النهضة، وفقا لقاعدة اما ان تكونوا مع الرئيس او مع النهضة؟
وهل القوى والتيارات التى عاشت لعقود طويلة تحت الحصار والحظر السياسى والحكم البوليسى قبل الثورة، تدرك ان هذا قد يكون مصيرها مجددا؟
وهل اتخذت من الضمانات ووضعت من الشروط ما يجنبها هذا المصير؟
***
4) وهل سيتم تطبيق ذات السيناريو وذات الاجراءات على (طبقة) رجال الاعمال التابعة والفاسدة وقلب الدولة العميقة والنظام القديم، من ناهبى ومحتكرى الثروات التونسية على مر العصور؟
***
5) واذا كان هناك بالفعل خللا جسيما فى مسار الثورة يتطلب وقفات وتغييرات جذرية وحاسمة، فلماذا لم تسعَ القوى والأحزاب السياسية المدنية، الى انجاز هذه المهمة بنفسها من خلال العمل والنضال عبر قنوات الحياة السياسية والبرلمانية المتاحة، بدلا من ان تستقوى بالرئيس وباجرائاته الاستثنائية؟
ومنذ متى كان تركيز كل السلطات فى يد رجل واحد رئيسا او ملكا او زعيما هو الطريق لتصحيح المسار الثورى؟
فحتى جمال عبد الناصر الذى يحسب له النجاح فى انجاز نقلة جذرية وثورية حقيقية فى مصر، فان انجازاته لم تصمد ولم تستمر بعد وفاته، بسبب جرثومة الهيمنة الكاملة على كل السلطات التى وظفها خلفه فى الانقلاب على المشروع الوطنى لعبد الناصر وتصفيته.
وكذلك حركة المقاومة الفلسطينية التى تأسست على أيدى ابو عمار ورفاقه فى الستينات وخاضت معارك ونضالات تاريخية على امتداد ما يقرب من عشرين عاما، تم اجهاضها فى النهاية على ايديهم هم ايضا حين نجحت الولايات المتحدة و(اسرائيل) ومجتمعهما الدولى فى حصارهم وكسر ارادتهم وتوريطهم فى توقيع اتفاقيات أوسلو.
فتجاربنا الوطنية والتاريخية المريرة علمتنا خطورة الرهان على الحاكم أو الزعيم الاوحد، مهما كان من الاخيار، لانه بكل بساطة يمكن ان يمرض او يموت او يضعف او ينكسر او يخون.
***
6) وهل نضال وتضحيات شعب باكمله على امتداد عقود طويلة لاسقاط نظم الاستبداد، يجوز ان نعرضه لمخاطر واحتمالات التراجع عنها والعصف بها بسبب تظاهرات شعبية غاضبة تمت فى حماية السلطات وسط حالة من المنافسة والانقسام والاستقطاب الحاد.
وهل المظاهرات دائما على حق؟ وماذا لو اختلفت الحشود والتظاهرات والهتافات والانحيازات فالى من نحتكم: المظاهرات ام الانتخابات؟
وهل الاجراءات الاستثنائية الاخيرة، ستنجح فى اخراج البلاد من حالة الشلل السياسى والدستورى والاقتصادى، ام انها ستزيدها تعقيدا واستقطابا؟
وهل ستكون فعلا مؤقتة واستثنائية، أم ستتحول بقدرة قادر الى اجراءات وسياسات دائمة؟
***
7) وهل اقتصار انجازات الثورة التونسية على تحقيق مكاسب تتعلق بالحريات والديمقراطية وحقوق الانسان فقط على الطريقة الليبرالية، والتى لا تمثل سوى جزءا صغيرا من مشروعات التغيير الثورى الكبرى لدى التيارات الاشتراكية والقومية وربما الاسلامية ايضا، تبرر الاستخفاف والتضحية بها بذريعة انها غير كافية؟
ام انه يتوجب علينا ان نوظف ما حققناه من مكاسب ولو كانت محدودة، كأدوات للانتقال الى المرحلة التالية، على غرار نظرية المراحل الثورية فى النموذج الماركسى من الثورة الوطنية الديمقراطية الى الثورة الاشتراكية؟
***
8) لقد كان المعارضون التونسيون قبل الثورة مثلهم مثلنا جميعا، يتشوقون لثقب ديمقراطى صغير يتسرب منه “سرسوب” اكسجين ديمقراطى.
اما اليوم وبفضل ما حققته الثورة من مكتسبات فان لهم المقدرة على النضال بحرية والتواصل مع الجماهير والتفاعل والتاثير والمشاركة فى صناعة القرار والرقابة والتصحيح. أفلا يخشون مخاطر واحتمالات التضحية بكل ذلك؟
***
9) وهل صحيح ان هناك قرارا دوليا واقليميا بتصفية ما سمى بالربيع العربى والقضاء على آخر توابعه وآثاره، وأن ما يحدث فى تونس ليس سوى الحلقة الأخيرة؟
***
10) وهل هناك خصائص فى الشعوب العربية ونخبها، تجعلها تفضل استبداد الحاكم الاوحد عن القبول بدور الاقلية فى برلمان تسيطر عليه اغلبية من خصومهم السياسيين والحزبيين؟
وفى قول آخر هل بلغت الكراهية بيننا كتيارات فكرية وقوى سياسية فى غالبية الاقطار العربية، ما يجعلنا نرحب بهدم المعبد على رؤوسنا جميعا إذا لم نجد أنفسنا نحتل مقاعد القيادة والريادة؟
***
كانت هذه بعض التخوفات والتساؤلات التى راودتنا فى الساعات والايام القليلة الماضية، نضعها أمام اشقائنا ورفاقنا فى تونس، ونتمنى الا تكون فى محلها، مع خالص تمنياتنا الى تونس الحبيبة بالنجاح والنجاة والوصول الى بر الامان.
محمد سيف الدولة
القاهرة فى 28 يوليو 2021