ثلج أطفال وغربة
ثلج، أطفال وغربة
من عادتي قبل الخلود للنوم أن أجلس أو أتمدد في سريري ثم أقرأ كتاب ما من الكتب العديدة الموجودة في مكتبتي المتواضعة. هذه الليلة تناولت المجموعة القصصية” امرأة من هنا.. رجل من هناك” للكاتب الروائي العراقي الصديق عبد الرحمن مجيد الربيعي، والتي أهداني إياها مع أعمال أخرى من مؤلفاته خلال لقاء جمعنا في تونس العاصمة، ببيت صديقنا المشترك الكاتب السياسي الفلسطيني ياسين معتوق. وكنت خلال الشهر الحالي ونهاية الشهر الماضي قرأت للربيعي رواية (الوشم) الجميلة والمعبرة عن واقع حال الإنسان العراقي والعربي في أزمته السابقة وأزماته الحالية الخانقة. كما قرأت أيضا مجموعة قصصه الغنية والمعبرة “السومري”. هذا بالإضافة لمجموعة قصص الكاتبة التونسية رشيدة الشارني”الحياة على حافة الدنيا”، وكانت هي المرة الأولى التي أقرأ فيها أدبا نسائيا من تونس. قبل ذلك تمتعت أيضا بقراءة رواية “مجموعة 778” للمبدع الفلسطيني الروائي توفيق فياض، حيث حملتني أحداث روايته إلى فلسطين وأعادتني لزمن الفدائي الفلسطيني الأول، فدائي العقيدة والمبادئ والقواعد، والشهامة والاستقامة. لقد سعدت كثيرا بالإهداء الجميل والمُعبر الذي خصني به الأخ توفيق فياض ودونه على أولى صفحات النسخة التي أهداني.
كنت وأنا أقلب صفحات مجموعة الربيعي أخال نفسي عراقيا تعتصره آلام العراق وشعبه العريق الذي تعود جذوره لقديم الزمان، بينما لا جذور للأمريكان، وإن وجدت فلا تعود إلى أية أزمنة سوى أزمنة أباده الهنود الحمر واستعباد الزنوج… أزمنة الذل والخداع والغدر والهوان والإرهاب ونشر الأفكار اللقيطة، تلك التي تخدم أمريكا الابن الحرام المتمخض عن مضاجعة الكفر والعهر في آن.
عراق نبوخذ نصر، حمورابي، وسنحاريب والناصر صلاح الدين وهارون الرشيد والمنصور والسياب والنواب، يتعرض هذه الأيام لآخر حلقة من حلقات دفنه حيا. وتشترك في مؤامرة ذبحه أصناف منوعة ومختلفة من الأوباش والمماليك والمرتزقة والأعوان والأعداء… من أمريكا وبريطانيا و(إسرائيل) إلى آخر ما عرفنا وشاهدنا من متأمركين ومتصهينين. بعضهم وصلت به أمراض الهلوسة والتبعية حد تجرؤه على التشكيك بعروبة العراق من خلال مقالة تحت عنوان “هل العراق دولة عربية؟”.
كنت أقرأ كلمات الربيعي عن العراق فأجده عربيا نابضا بالعروبة الحرة والحية في كل كلمة من كلمات شخصياته التي أختارها لقصصه. فعروبة أبطال رواياته من النساء والرجال كانت تجعلني أزداد أيمانا بعروبتي وكفرا بأنظمة العرب المهزومة والموبوءة بالفساد والظلم والأرتهان.
بعدما انتهيت من قراءة 170 صفحة كانت عبارة عن تسعة قصص من أصل 208 صفحات لما مجموعه 16 قصة تألفت منها مجموعة “امرأة من هنا .. رجل من هناك” للكاتب الربيعي. بدأت أشعر بقليل من النعاس يداهمني… فذهبت إلى المرحاض حيث قضيت حاجتي التي كان من الصعب علي النوم دون قضاءها، خاصة انني الليلة شربت الكثير من الماء والعصير، وعددا لا بأس به من فناجين القهوة الأجنبية ، التي بالمقارنة مع فناجين القهوة العربية يعتبر الفنجان الواحد منها بخمسة عربي من حيث الحجم، أما من حيث الطعم فلكل منها طعمه المميز وميزته التي يستمدها من المكان واللحظة والمزاج والجلسة ونوعية الحضور… وكذلك من موضوع الحديث والنقاش.
بعد أن خرجت من الحمام توجهت إلى المطبخ وكانت الساعة المعلقة على جدار مطبخ بيتنا تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل. نظرت من النافذة ففوجئت بالبياض الناصع الذي زين كل شيء، من البيوت حتى الشجر والعشب والحجر… فبدلا من هطول المطر كانت الثلوج تتساقط بغزارة ولأول مرة في سنتنا الحالية، معلنة بداية موسم البرد في العاصمة النرويجية أوسلو.
وقفت لعدة دقائق أراقب من شباك نافذتي هطول الثلج وكيفية ارتداء الأشياء للزي الأبيض الجميل… وكنت أقول في قرارة نفسي: كيف للشجر الذي مازال الكثير منه يلبس ثوب الخريف الذهبي أن يحمل على أغصانه، الأوراق الصفراء والثلوج البيضاء معا؟
فعلا سوف يكون المنظر جميلا صباح الغد.
في صباح اليوم التالي وكان يوم أحد، أي يوم العطلة الأطول في نهاية الأسبوع. سمعت حوار بين أطفالي الثلاثة، الذين فوجئوا بدورهم بالبياض الذي غير كل شيء وألبس كل ما نراه حولنا ثيابا بيضاء ناصعة البياض. كان أطفالي يعدون خطتهم لقضاء اليوم على الثلج، حيث سيلعبون وسيتزلجون وسوف يتزحلقون على الثلج، مستخدمين قطعا مصنوعة من البلاستيك شكلها كأوراق الشجر، يضعونها على الثلج ثم يجلسون عليها ويندفعون إلى الأسفل بقوة وبسرعة، تمتزج مع صرخات الأطفال المعبرة عن فرحهم بالألعاب الشتوية.
كانوا ينتظرون نهوض أمهم من السرير لكي تجهز لهم عدة وملابس الثلج. وسرعان ما كان لهم ما يريدون. فالتحقوا ببقية أطفال الحيّ الذين كانوا بدورهم في الخارج يشكلون بألبستهم الملونة فوق الثلج الأبيض لوحة جميلة و شاعرية…
أما أطفالي الثلاثة فكانت ألوان ملابسهم تجمع بينهم وبين الأعلام التي يستظلون بها ويقدمون ألوانها عند التعريف بهويتهم. فهم من أبٍ فلسطيني وأمٍ بولندية، وولدوا ويعيشون ويحملون جنسية النرويج، ويتكلمون لغات ثلاث النرويجية والبولندية والعربية.
بعد أن عادوا من اللعب اقتحموا الحديقة وأخذوا يبنون تمثالا من الثلوج لرجل الثلج. كنت أراقب الأولاد وهم يبنونه… رجل الثلج معروف وتتم تشييده على هيئة إنسان سمين، يثبت حجران صغيران مكان العينين، وجزرة مكان الأنف، وعودان من أغصان الشجر حول الخصر، فيعطيه هذا الديكور شكل الإنسان. ثم يبدأ الأطفال بالركض والدوران حوله في حالة فرح مرح إلى أن يأتي من يهدمه في لحظات.
في هذه اللحظات بالذات تذكرت المخيم حيث ولدت وترعرعت وكبرت وتعلمت ولعبت, تذكرت أخوتي وأخواتي وأبناء أعمامي وعماتي وخالاتي وأولاد وبنات الجيران… وكيف كنا نلعب في بحيرات المياه التي تخلفها أمطار الشتاء الغزيرة… وكيف كنا نفرح كثيرا ببعض حبات البرد الذي ينزل مرة واحدة أو مرتين في العام.
ترى كيف يلعب الآن أطفال مخيمي عين الحلوة؟
وما هي أسماء لُعبهم وكيف حِيَلهم وهل هناك ما يلعبون به؟؟
أليس المخيم أضيق مكان في لبنان وعلى الكرة الأرضية وهل هناك مكان للعب في كلم مربع واحد يسكنه حوالي المائة ألف نسمة؟؟
انها الحقيقة التي تبحث عن حلٍ حقيقي لمأساة اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات التشرد واللجوء والحرمان.
لكن كيف تتم معالجة هذا الأمر ونحن في زمن أصبح فيه الجلاد ضحية، واللص شرطيا، والبريء متهما، والقاتل قاضيا، والفكر الحر ممنوعا…؟؟ ممنوع أن تفكروا بدون اذن أمريكا … فهي لا تسمح بالفكر الحر ولا تقبله بفعل أفكارها المدمرة….
ارتديت ملابسي وخرجت مسرعا لأنظم لأولادي في لعبتهم المسلية حول ما تبقى من رجل الثلج، الذي بنوه بأيديهم الصغيرة، وسوف يبنون بها غدا مع كل أطفال فلسطين الوطن الفلسطيني الخارج من عهد الاحتلال إلى عهد الحرية والنور والاستقلال.
ثلج أطفال وغربة
نضال حمد
2002 / 10 / 21