جاسوس بوتين في الكنيست
هجرة “الروس” إلى (إسرائيل) أتت مفخّخة:
حرصت آلة الدعاية (الاسرائيلية)، وباعتراف مسؤولين وضباط سابقين وكتّاب بارزين، على المبالغة بتصوير قدرات أجهزة مخابراتها، وبنت أسطورة حول “الموساد”، جلعت منه “جهاز المخابرات القادر على كلّ شيء”.
قدّموا الهدف من المبالغة على أنه تعزيزٌ لقدرة إسرائيل على الردع. ولتحقيق هذه الغاية، أبقت إسرائيل إخفاقات أجهزتها الاستخبارية بعيدة عن العيون.
ينشر ملحق “فلسطين” تباعاً سلسلة مقالات تعالج إخفاقات منظومة الاستخبارات (الإسرائيلية) في مجال الحرب السرية.
في هذا العدد، سنتطرق لإخفاقات “الشاباك” في مكافحة التجسس السوفياتي. وفي الأعداد التالية، سنعرض قصة جاسوسٍ اخترق النخبة (الإسرائيلية)، ثم إنجازاً سجّلته المقاومة الفلسطينية على “الموساد” في أوروبا، وصولاً إلى حكاية سقوط ضابطٍ رفيع في فخّ أعدّته له المخابرات السورية. ونختم السلسلة بالتطرق إلى إخفاق مشروع أداره “الشاباك” لاختراق فلسطينيي الداخل.
أنس أبو عرقوب
أدّت فرنسا تجاه إسرائيل حتى العام 1967 الدور ذاته الذي تستمر في أدائه راهناً الولايات المتحدة الأميركية. فالسلاح والطائرات وحتى مفاعل ديمونا النووي، تأمنت لإسرائيل من باريس. ولكن، بعــد نكسة العام 1967، فرض الفرنسيون حظر سلاح على اسرائيل، فصارت واشنطن هي مزوّد إسرائيل الرئيس بالسلاح، وصارت حليفتها الاستراتيجية. ما حدا بالسوفيات آنذاك إلى اعتبار إسرائيل مصدراً هاماً للمعلومات حول السلاح الأميركي. فوجدت في موجات المهاجرين اليهود المتدفقة إلى إسرائيل منذ العام 1969، فرصة ذهبية أمام المخابرات السوفياتية “كي جي بي” لإغراق إسرائيل بالجواسيس.
السوفيات في إسرائيل: جبنة سويسرية
وضعت الـ “كي جي بي” المهاجرين اليهود، في كثير من الأحيان، أمام “خيار”: منحهم تصريحاً بالهجرة من الاتحاد السوفياتي إلى اسرائيل في مقابل العمل لصالحه كجواسيس. وباشرت عملية تجنيد كبرى في صفوف اليهود الراغبين بالهجرة، تميهداً لإغراق اسرائيل بالجواسيس.
خلال العام 1973 وحده، منحت “كي جي بي” 58 ألف يهودي تصريحاً بالهجرة إلى إسرائيل. وبالطبع، لم يكن بمقدور محقّقي جهاز المخابرات الإسرائيلية “الشاباك” الذين لم يتجاوز عددهم آنذاك العشرات، التحقيق مع كلّ أوالئك الوافدين الجدد، الذي بلغ تعدادهم، في عقد السبعينيات من القرن المنصرم، 163 ألف شخص، وتجاوز في الثمانينيات 250 الفاً.
المحلل الاستخباري ومؤلف كتاب “حرب الظلال: الموساد ومنظومة الاستخبارات” يوسي ملمان يشير إلى أن الأسلوب المركزيّ الذي اعتمده الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الشرقية في اختراق إسرائيل اعتمد على المهاجرين الجدد. وعن تلك الفترة، يقول ملمان: “نجح الروس بإحداث ثقوب في إسرائيل، مثل تلك الثقوب التي تميّز الجبنة السويسرية. جزء من الجواسيس واصل عمله الاستخباراتي لعشرات السنوات”.
الأسلوب السوفياتي كان يقوم على مبدأ يفيد بأن التراكم الكمّي سيتحول إلى تراكم نوعيّ. ما تجلى عبر تجنيد أكبر كمّ ممكن من المهاجرين، انطلاقاً من فرضية أن الأغلبية ستفشل. لقد كانوا يعتقدون أن نشاط خمسة أشخاص كجواسيس من بين كلّ ألف مجنّد مدرّب هو نجاح للعملية برمّتها، ولو تمكّن واحد منهم من الاندماج بالنخبة الإسرائيلية فإن ذلك سيكون إنجازاً.
ويفسر يعقوب كدمي الذي ترأس جهاز “نتيف” الحكوميّ المتخصص بتفعيل هجرة اليهود السوفييت إلى إسرائيل، المنطق الذي قام عليه اختيار “كي جي بي” هذا الأسلوب بالقول إنه “يشبه أسلوب الجيش الأحمر. يرسلون جنوداً الى حقل ألغام، ومن ينفجر ينفجر، فتخسر كتيبتين من الجنود ولكن يتمّ اقتحام حقل الألغام. وفي هذه الحالة، كانت الخطة تقوم على إغراق المخابرات الإسرائيلية “الشاباك” بكمية كبيرة من الأشخاص”.
النوعيّون: حفنة دبابيس في كومة قش
غاد شمرون هو ضابط “موساد” سابق، وصف آلية عمل “كي جي بي” بالإشارة إلى أن “غالبية المجنّدين لم يخضعوا لتدريبات في مدارس إعداد الجواسيس السوفياتية. وإنما حذّروهم من التعقّب ومن أمور يجب ألا يفعلوها حتى لا يتم اكتشافهم”.
عملية الإغراق بالأشخاص الذين من المفترَض أن يقدّموا معلومات للجهاز السوفياتي، أتت بالاستناد إلى سببين: السبب الأول يفترض أن أحدهم قد يحصُل على معلومات هامة فيرسل أسراراً إلى مشغّليه في موسكو. أما السبب الثاني وهو الأبرز فيقوم على إغراق “الشاباك” بالعمل وبالاستجوابات، بغية التحقق من الشبهات التي تثور حول المهاجرين الجدد، فينجح الجواسيس الأكثر جودة وتدريباً بالإفلات. فقد أرسلت “كي جي بي” أيضاً جواسيس محترفين تمّ تكليفهم بإنجاز مهام محددة. أهم هذه المهام قضى باختراق النخب الإسرائيلية في المجالات السياسية والعسكرية والعلمية. وبذلك، أخفى السوفيبت حفنة دبابيس في كومة قش.
هذا النوع من الجواسيس تصنّفه الأدبيات الإسرائيلية كـ “الجواسيس النوعيين”. كانوا أشدّ تدريباً، وتم الاستثمار فيهم أكثر من سواهم، وتوقّع مشغلوهم أن يحقّقوا بواسطتهم نجاحاً أكبر، وأن يصل أولئك الجواسيس إلى مواقع مؤثّرة لكي يجلبوا معلومات، فيصبح بعضهم قادراً على التأثير على السياسات الإسرائيلية لمصلحة الاتحاد السوفياتي.
أخضعت “كي جي بي” الجواسيس النوعيين لتدريبات على إتقان مبادئ العمل السرّي وأساليب جمع المعلومات والتواصل الفعّال، وإنشاء العلاقات الاجتماعية. وتراوحت مدة التأهيل ما بين العام وأعوام عدة في بيوت خاصة في سيبيريا. خلالها، يُمنَع المتدرب من الكلام بغير اللغة العبرية، ويمارس نمط حياة الإسرائيليين، ولا يشاهد أو يستمع إلا إلى الإذاعة والتلفزيون الإسرائيليين، ولا يطالع سوى الصحافة العبرية. هذا النوع من الجواسيس، بحسب ملمان، “نجح تقريباً في اختراق كلّ المواقع المفتاحية في إسرائيل”.
قصص عن جواسيس “نوعيين “
تسفي مغير هو سفير إسرائيلي سابق في روسيا وباحث في “معهد الأمن القومي الإسرائيلي”. من موقعه، قال في حديث بثته “القناة العاشرة” في التلفزيون الإسرائيلي قبل سنوات، إن السلطات الإسرائيلية لم تلقِ القبض على كلّ جواسيس “كي جي بي” الذين عملوا في إسرائيل. لكنها اعتقلت كثيرين منهم.
شبتاي كلمنوفيتش هو جاسوس سوفياتي. وصل إلى اسرائيل في العام 1971، وانضمّ إلى “حزب العمل” الحاكم، ومارس نشاطه في قسم المهاجرين في الحزب. من هنا، حصل على معلومات حول نشاط مكتب العلاقات مع يهود الاتحاد السوفياتي. لاحقاً، أصبح مساعد عضو الكنيست شموئيل شارون الذي انتخب في العام 1977، ونجح أيضاً بخداع جهاز “الشاباك”، إذ قدّم لهم معلومات حول اليهود السوفيات. في منتصف الثمانينيات، اكتشف “الشاباك” أن كلمنوفيتش هو جاسوس سوفياتي، فسجن سنوات عدّة، ثم أُفرج عنه قبل نهاية محكوميته بعدما قدّم معلومات حول مصير الجندي المفقود رون أراد. رجع كلمنوفيتش إلى وطنه بعدما صار فلاديمير بوتين، الضابط الذي كان “مشغّله” ومسؤولاً عنه رئيساً لروسيا، وأصبح رجل أعمالٍ ثريّاً قبل أن يتعرّض للاغتيال.
أما الجاسوس السوفياتي رومان فييسفلد فقد نجح على مدار ثمانية أعوام بالتجسّس داخل قاعدة تل نوف، وهي أكبر قواعد سلاح الجو، حيث عمل كميكانيكي في قطاعٍ استراتيجي داخل تلك المنشأة. لاحقاً، تم اكتشافه واعتقاله.
على مستوى دول الكتلة الشرقية، نجح ليفي ليفي مثلاً، وهو جاسوس بولندي، باختراق جهاز “الشاباك”. عمل في وحدة العمليات المتخصّصة بمراقبة الجواسيس، قبل أن يتم اكتشافه في مطلع الخمسينيات، بعد خيانة تعرّض لها من منشقّ عن مخابرات بلاده.
في المقابل، فإن بعض الجواسيس النوعيين الذي اعتقلتهم إسرائيل كانت دوافعهم في امتهان العمل الجاسوسي نابعة من منطلق إيمانهم بالفكر الشيوعي. نذكر عنهم مثل زئيف ايفني، الذي نقل للسوفيات في مطلع الخمسينيات أسرار وزارة الخارجية الإسرائيلية، حيث كان يعمل، ومعلومات حول صفقات سلاح أبرمتها إسرائيل، وكشف هوية جواسيس ألمان يعملون لمصلحة إسرائيل في مصر، بعد انضمامه للعمل في “الموساد”.
أما الضرر الأكبر الذي ألحقه جاسوس سوفياتي بأمن إسرائيل فقد تسبّب به البروفسور ماركوس كلينيبرغ، الذي شغل منصب نائب رئيس المعهد البيولوجي، وهو واحدٌ من أربعة أماكن تعتبر الأشدّ سريّة في إسرائيل. كلينيبرغ عمل لمصلحة “كي جي بي” على مدى حوالي ثلاثين عاماً، قبل اعتقاله في العام 1981. أتت دوافعه إيديولوجية، وظلّت مسألة اعتقاله سرية لعشر سنوات. بعد 16 عاماً قضاها في السجن، لم يُعرب عن ندمه، بل أكد أنه يشعر بالعار لأنه اعترف خلال التحقيق ببعض معطيات، ولكنه ادّعى أنه لم يعترف على عدد من زملائه.
ويبقى أكثر جواسيس “كي جي بي” إثارة للجدل حتى الآن في إسرائيل هو “ر”، الذي تحظر إسرائيل نشر اسمه. وقد قالت عنه “القناة العاشرة” إنه “منذ أربعين عاماً، يتجوّل بيننا كجاسوس، أرسلته إلى هنا “كي جي بي” للوصول إلى موقعٍ رفيع في إسرائيل، وتحوّل إلى جاسوس مزدوج. “كي جي بي” اعتقدت أنه جاسوسها، و “الشاباك” وثق بأنه مخلص لهم فقط. شغل الرجل اليوم مواقع بارزة في الاقتصاد، وأصبح له تأثير على غالبية الإسرائيليين، من دون أن يعلم مَن يتعاملون معه أيّ معلومة حول ماضيه”.
أكثر من ذلك، لم يُنشَر عنه.. بعد.
السفير –