جدار العزل الأخوي! – عبد اللطيف مهنا
“المحاسيم”، جمع “محسوم” بالعربية، وهي كلمة عبرية فُرضت على يوميات العامة الفلسطينيين فتسللت لدارجتهم، وتعني الحواجز العسكرية الاحتلالية الصهيونية المنتشرة في طول الضفة الغربية وعرضها، فاصلةً بين مدنها، عازلة بين قراها، وقابضةً على مداخل مخيمات اللاجئين فيها، بل وتجدها بين أحياء بعض مدنها، كالقدس والخليل مثلاً. وهى إذ من مهمتها أن تحيل حياة الفلسطينيين إلى جحيم، حيث في انتظاراتها الطويلة المتعمدة تلد الحوامل ويموت المرضى في سيارات الإسعاف، وتحوِّل تجمُّعاتهم إلى معازل ومعتقلات، تطورت إلى ميادين رماية يطلق فيها جند الاحتلال النار على مطلق شاب أو شابة، وحتى تلميذ في مدرسة، قد يتوهم جندي منهم، أو يخطر بباله، أو حتى من باب التسلية وتنفيساً للحقد، أنه ربما يحمل سكيناً في جيبه، أو يخفيه في حقيبته، وبعدها ما هم إن تبين أن الضحية اعزلاً، كل ما في الأمر أن المسألة تطوى مذيلةً بعبارة أنه لم يمتثل لأمر التوقُّف، أو كان يحمل سكيناً لم يحمله.
هذه “المحاسيم”، أو بوَّابات المعتقلات والمعازل الكبيرة، تمظهرت في اشكال أخرى متعددة، منها الأسوار التهويدية العازلة، أو الخانقة، الملتفة حول مزق التواجد الفلسطيني في الضفة، والأسلاك الشائكة وابراج المراقبه المطلة والمسوِّرتان لقطاع غزة المحاصر براً، تعضدهما البوارج الحربية بحراً، والطيران بطيارين او بدونهم جواً…باختصار إن لهذا المصطلح الاحتلالي مدلولاً واحداً لدى الفلسطينين هو فوق الحجز والاحتجاز، وليس دون الاعتقال والأسر، وأكثر من المهانة والإذلال، وأقرب إلى القتل العمد…لكن الأنكى والأمرَّ هو أن ل”المحاسيم” العبرية ما يردفها عربياً، من تلكم، مثلاً، معبر رفح القابض على انفاس الغزيين، والذي لا يدع لهم مجالاً لتنفس فيما خلا أياما تنفيسيةً معدودة المرات في العام.
…وإذا كان أكبر هذه “المحاسيم” هى أكثرها تضييقاً واحكمها عزلاً، أو خنقاً وقهراً، أي الأسوار التهويدية العازلة الممتدة لمصادرة الأرض وأسر البشر داخل الوطن المُغتصب، فإن انتقال عدواها، أو اعتماد مثالها، في مخيمات الشتات الفلسطيني في دنيا العرب، هو ضرب يعادل اللامعقول والأكثر من جلل، لاسيما في راهن أمة تكسَّرت على جسدها المثخن بجراحات الفتن والتدخل الأجنبي النصال على النصال…في هذا الراهن، وربما اغتناماً لفرصته، سمعنا من غيارى اللبنانيين، قبل غيرهم، ما يطلقون عليه هم لا سواهم، “جدار العار” اللبناني قبل أن نشاهد في التلفزة ابراجه المُحدِّقة بأزقة مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين وبينما كتله الخرسانية تشاد ويتواصل التفافها من حوله.
نعم، ومن أسف، إن هذا ما يحث الآن في لبنان، وإذ هو يحدث، فالبراءة من عاره للبنان لبنانيي تلكم الدماء الزكية التي لطالما سالت وامتزجت مع دماء الفلسطينيين في الخندق الواحد في معاركهما الواحدة ضد أعداء الأمة ودفاعاً عن فلسطينها، ولا من براءة للبنان القطرية ذات التكوين الطوائفي بعنصريتها المقيمة المترتبة على تكوينها فالمكتسبة للمناعة المضادة لمستحقات انتمائها القومي…هذا التكوين الطوائفي الذي لطالما لاقى منه اللاجئون الفلسطينيون معاملةً يصفها بعض اللبنانيين قبل منظمات حقوق الإنسان الدولية بغير الإنسانية، جوهرها حرمانهم من ابسط الحقوق المدنية…نكتفي هنا بذكر حالتين تساويان التهجير المكمِّل لما بدأته النكبة، أو محاولة إعادة انتاج اللجوء، وهما حرمان الفلسطيني من مزاولة ما ينوف عن سبعين إلى ثمانين مهنة، ومن حق التملك، وحتى من سبق وأن امتلك بيتاً فلا يحق له أن يورثه لبنيه، وكذا الرعاية الصحية، وكله بذريعة الحؤول دون التوطين!
وهنا، يعرف القاصي والداني حقيقةً خُطَّت بالدم الفلسطيني على مدار سبعين عاماً، وهى أنه لا يوجد فلسطيني واحد يريد توطينا خارج فلسطينه، أو يرضى عن العودة لها بديلاً…وأخرى، هي إن الكينونة الطوائفية العنصرية الرافعة لفزاعة التوطين هي إياها من جنَّست الأثرياء الفلسطينيين عندما لجأوا اليها مع أموالهم عقب النكبة، ومن جنَّست لحسابات تتعلق بطبيعة تكوينها إياه 55 الفاً من الفلسطينيين لانتمائهم لديانة معينة في خمسينيات القرن الماضي، ولاحقاً، ضمن بازارات محاصصاتها الطوائفية وترضياتها اكملت تجنيس ما تبقَّى منهم، ومعهم، أو مقابلهم، من عرفوا بلاجئي القرى الحدودية السبع شمال فلسطين المحتلة، والمفارقة أن تجنيس الأخيرين تم باعتبار أنهم كانوا لبنانيين، لكن دون اعتبار قراهم كذلك، إذ يتوجب حينها المطالبة باستعادتها من محتليها!
يسجَّل في لبنان 480 ألف فلسطيني، والمقيمون منهم فيه قرابة نصفهم، واثنى عشر مخيماً، دُمِّر اثنان، هما تل الزعتر وجسر الباشا، وثالث بات اطلالاً وإعادة اعماره برسم التأجيل، أي المنع، هو نهر البارد، والتسعة كانتونات بؤس ومراتع تهميش والتعامل الرسمي معها أمني لا غير، وفوقه، قلَّصت الأونروا خدماتها بزعم شح في التمويل…والجديد هو إفادة الأشقاء من المثال الصهيوني بنقله حرفيا وتطبيقه في عين الحلوة ليُضرب من حول مخيم يحوي ما يزيد عن السبعين الف نسمة ولا تزيد مساحته عن الكيلو متر مربع واحد جداراً عازلاً ذا أبراج مراقبة بذريعة الحؤول دون دخول أو خروج “إرهابيين” اليه أو منه، ذلكم في تجاهل تام لحقيقة انعدام ما يتهدد أمن لبنان فلسطينياً…وأن مثل هكذا إجراء هو خير وصفة لاختلاق “الارهابين” إن هم افتقدوا.
…إذا ما تذكرنا مقولة قديمة للوزير اللبناني السابق نقولا فتوش تصف الفلسطينيين ب”نفايات بشرية”، ندرك أن جدار العزل الأخوي في عين الحلوة لا يعدو “محسوماً” تهجيرياً رديفاً ل”محاسيم” الجدران التهويدية الترانسفيرية الصهيونية ومكملاً لها، وإلا فما الفرق؟!