جرائم الصهاينة في منطقتنا العربية – الدكتور عادل عامر
لم تتوقف على مدى أكثر من سبعة أشهرٍ متواصلة، محاولات التوصل إلى صفقةٍ لتبادل الأسرى والمعتقلين بين المقاومة الفلسطينية وحكومة الكيان الصهيوني، رغم أن الأخيرة غير جادة في مسعاها، وغير صادقة في نواياها، ولا يبدو أنها ورئيسها بنيامين نتنياهو يريدون حقاً التوصل إلى صفقةٍ تفضي إلى استعادتهم أسراهم وعودة جنودهم وضباطهم أحياءً إلى عائلاتهم وأسرهم، إلا أن الوسطاء لم ييأسوا من المحاولة، ولم يتوقفوا عن السعي، لقناعتهم أن المقاومة الفلسطينية جادة في سعيها، وصادقة في نواياها، وعادلة في مطالبها، وهي تتطلع إلى صيغةٍ مقدرة تحقق أهدافها، وترضي شعبها، وتحرر بها أسراها.
ولعل ذوو الجنود “الإسرائيليين” الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية يعلمون يقيناً أن حكومتهم ورئيسها لا يريدون تحرير أبنائهم، ولا يبذلون جهوداً حقيقيةً لتحقيق هذا الهدف، الذي ترفعه الحكومة كاذبة، ويتشدق به وزراؤها وقادتها العسكريون والأمنيون، ويدعون كذباً وخداعاً أنهم يعملون لأجله، ويضغطون عسكرياً لتحقيقه، إلا أن الحقيقة التي بات المستوطنون “الإسرائيليون” يعلمونها جيداً، أن الجيش والحكومة لا يحرصون على استعادة جنودهم، ولا يريدون استبدالهم، ولا يشعرون بمعاناتهم، ولا بطول المدة التي قضوها في الأسر في ظل أجواء القصف والغارات العنيفة، وليس مستبعداً أنهم يتمنون قتلهم، ويريدون التخلص منهم، لئلا يضطروا إلى دفع أثمانٍ باهظة مقابل حريتهم.
وهم يدركون أن حكومتهم ورئيسها قد تورطوا فعلياً في قتل الأسرى، وذلك من خلال عمليات القصف الهمجية التي يقوم بها جيشهم في المناطق الفلسطينية التي يحتمل أن يكون فيها بعض الأسرى الإسرائيليين، وقد أعلن أبو عبيدة الناطق الرسمي باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام، عن مقتل العديد من جنود العدو ومجنداته وضباطه الأسرى، وأثبتت المقاومة صدقيتها في الإعلان الصريح والواضح عن أسماء القتلى، ونشرت صوراً لهم عندما كانوا في الأسر، حيث كانوا يتمتعون بصحةٍ جيدة، رغم حالة الحصار العامة التي يفرضها العدو على كل قطاع غزة، وتدميره للمستشفيات والمراكز الصحية، ومنعه إدخال الأدوية والمعدات الطبية الضرورية لأهل غزة، إلا أن المقاومة كانت حريصة على حياة الأسرى “الإسرائيليين”، عسكريين ومدنيين، رجالاً ونساءً، وكانت تجري لهم فحوصاتٍ طبية دورية، وتوفر لهم رغم صعوبة الظروف وشدة الحصار الأدوية اللازمة، وتجري لهم العمليات الضرورية المستعجلة.
ما زالت المحاولات قائمة والمساعي جارية، وما زال الوسطاء الإقليميون والدوليون يبذلون جهوداً كبيرة بين الطرفين لمحاولة التوصل إلى صيغة اتفاقٍ مرضية، أو صفقة شاملة تحقق أهداف الطرفين، رغم يقين المقاومة أن العدو يكذب ويراوغ، ويمكر ويخدع، وقد انقلب على الورقة الأخيرة التي كان جزءً منها، ووافق عليها، وأشرفت على إعدادها الإدارة الأمريكية، شريكته في العدوان، وحليفته التي تمده بالذخائر والقذائف والقنابل والصواريخ ومختلف أنواع السلاح، ورغم أن نتنياهو قد انقلب عليها وعصى أمرها وخالف تعليماتها، ولعله صفعها وأحرجها وأهانها، إلا أنها ما زالت تؤيده وتسانده، وتتفهم مخاوفه وتعذره في سياسته، وتبرر عدوانه وتدافع عن حقه ومظلوميته.
يظن نتنياهو وحكومته، ومجلسه الحربي الذي نكص على عقبيه وانقلب على الاتفاق، أن المقاومة التي أعلنت موافقتها على الورقة الأخيرة، وحرصت على الإعلان رسمياً عن موقفها، وأبلغت عدداً من قادة دول العالم موافقتها، حرصاً منها على مصالح شعبها، وإيماناً منها بالمسؤولية الملقاة على عاتقها، أنها وافقت عن ضعف، وقبلت نتيجة ضغط، وأنها عاجزة عن الصمود أكثر، والثبات في مواجهة الضغوط والتحديات “الإسرائيلية”، وأنه يستطيع ببعض الضغط الإضافي والجهد العسكري دفعها إلى التراجع عن مواقفها، والتنازل عن شروطها، والقبول بالتعديلات الإسرائيلية، التي تعني الاحتلال واستمرار القتال، ومواصلة الحرب والقصف والعدوان.
أخطأ نتنياهو ويخطئ أكثر إذا ظن أنه يستطيع باجتياح معبر رفح، والتهديد باجتياح المدينة، أن يرغم الشعب والمقاومة على تقديم تنازلاتٍ، ولعله ذاق في الأيام القليلة الماضية، التي تلت انقلابه على الورقة، مرارة الفقد وألم الخسارة، إذ بادرته المقاومة وباغتته في كرم أبو سالم ومنطقة نتساريم، وأدخلت جنوده وضباطه في حقولٍ ملغمةٍ، كانت قد أعدتها لهم شراكاً وفخاخاً، فوقعوا فيها وقتل وأصيب عددٌ كبيرٌ منهم، فضلاً عن عمليات القنص الدقيقة، التي طالت قناصيه وجنوده، والصواريخ التي انطلقت نحو مستوطناته وبلدات الغلاف، من مدينة رفح المحاصرة التي تتعرض للقصف المستمر والمتواصل، ومن الشمال الذي ادعى جيش العدو أنه قد قضى على المقاومة فيها، وفكك بنيتها وقتل رجالها، ولم تعد تشكل خطراً عليه.
لم يعلم هذا الغبي نتنياهو وحكومته، أن حركة حماس هي التي دفعت إليه بالسلم لينزل من على الشجرة وينجو بنفسه وجيشه، وأن إعلانها الموافقة على الصفقة كان طود نجاته، إلا أن غباءه قد أوقعه في شر أعماله، وقد كان بإمكانه أن يستفيد من الورقة التي شارك في صياغتها، فهو بدونها سيبقى عالقاً مكانه، وستسوخ أقدامه في رمال غزة أكثر، وستتناثر أشلاء جنوده بين ركام بيوتها المدمرة، ولن يتمكن مهما حاول تكرار ما قام به، وتجريب ما أقدم عليه، من تحقيق نصرٍ زائفٍ لا يصدقه أحد، أو استسلام مستحيلٍ يحلم به ويتمناه، ولعله سيدرك بعد فوات الأوان أنه خسر الصفقة وضيع الفرصة ووأد الحلم وأجهض الأمل، واقترب أكثر من هوة السقوط وحافة الهاوية التي ظن بكذبه ونفاقه، وحيله وأحابيله، أنه سينجو وكيانه منها.
لا تفتأ المقاومة الفلسطينية تصفع جيش الكيان الصهيوني كل يومٍ بيدٍ من حديدٍ، وتركله على قفاه وتزيد، وتضربه في كل مكانٍ وعن مواجهته لا تحيد، وتخرج له في الليل والنهار دون تحديد، فتفاجئه في جباليا وتصدمه في رفح، وتفخخه في دير البلح، وتباغته في كرم أبو سالم، وتتربص به في المخيمات الوسطى، وتستدرجه إلى كمائنها في بيت حانون، وتصطاد جنوده وتقنص ضباطه، وتحرق آلياته وتدمر دباباته، وتشتبك معه مباشرةً، وتقاتله وجهاً لوجهٍ، وتصيبه وتنال منه من نقطة الصفر، وتنجح في إرباك جيشه وتخبط جنوده، فيشتبكون فيما بينهم ويقتلون بعضهم البعض، وأخيراً وليس آخراً تنتصر على وحدات النخبة، وتنال من الفرق المختصة بتحرير الأسرى، فتوقع عناصرها المختارة والمجهزة لتحرير الأسرى بين قتيلٍ وأسيرٍ وجريح.
لكن الكيان الصهيوني لا يتعرض فقط لضربات المقاومة التي تؤلمه وتؤذيه، وتوجعه وتعجزه، وتحبطه وتزيد في خسائره، وتضعف جيشه المتهالك وتصدع جبهته الداخلية، وإن كانت هي الأشد والأقسى، وهي التي يتعلم منها ويخشاها، ويفهمها ويعي أبعادها، إذ عودنا عبر تاريخه الأسود أنه لا يفهم غير لغة القوة، ولا يخضع إلا إذا تأذى وتألم، وشعر بالخطر وتأكد من الخسارة، مع التأكيد على أن الضربات الأخرى وإن لم تكن عسكرية في الميدان ومواجهة على الأرض، موجعة ومؤلمة، ومؤذية له ومحرجة، وتتسبب في اهتزاز صورته وبيان حقيقته، وتغيير وجهات النظر الإيجابية التي كانت سائدة حوله، وتتسبب في تراجع مستوى التأييد الدولي والشعبي له، وقد تقود إلى محاصرته وعزله وفرض عقوباتٍ مختلفةٍ عليه.
ربما لم يكن الكيان الصهيوني يتوقع يوماً تغير المزاج الدولي كله ضده، وأن يصل به الحال إلى هذا الدرك السحيق من الواقع، وأن تضيق الدنيا عليه وعلى مستوطنيه، وتتعقد الحياة أمامهم، ويصعب عليهم العيش في “بلداتهم ومستوطناتهم”، ويصبحوا محل انتقاد وإدانة، وأن ينفض العالم من حولهم، ويبدأ التفكير في التخلي عنهم، والخلاص من مشاكلهم، وأن تخرج ضدهم الشعوب الأمريكية والأوروبية، وغيرهم من شعوب الدول الأكثر صدقاً وإخلاصاً في التحالف معهم، في تظاهراتٍ عارمة تدين سياستهم، وتطالب بمعاقبتهم، وتصر على حكومات بلادها بالتوقف عن تصدير الأسلحة إليهم، والامتناع عن تأييدهم، ورفع الصوت ضدهم، وتحذيرهم من مغبة الاستمرار في عدوانهم على الفلسطينيين عموماً وعلى قطاع غزة خصوصاً.
الصفعات التي بدأ الكيان بتلقيها واحدةً تلو الأخرى، بعضها مدوي قاس، وخلف آثاراً كبيرة، وسيكون لها تداعيات كثيرة، وهي أكبر بكثيرٍ من قدرته على الاستيعاب، وربما لن يقوى على تحملها، ويلزمه وقتٌ طويلٌ، إن تسنى له ذلك وعاش، لأن يتجاوزها ويتخلص من نتائجها، فهذه المظاهرات الشعبية والاحتجاجات الطلابية، تجتاح كبريات ومشاهير الجامعات الأمريكية والأوروبية والكندية والاسترالية، وهؤلاء الطلاب هم جيل المستقبل، وقادة ورواد العالم في العقود القادمة، وهم أصحاب الرأي وصناع القرار، والذين سيكون لحراكهم دورٌ وأثر في الانتخابات القادمة، وفي اختيار الحكام وفرض الأنظمة والسياسات، مما جعل صفعة الطلاب والجماهير قاسية على وجوه قادة الكيان ومستوطنيه.
وهؤلاء نواب الشعوب الأوروبية والغربية، يرفعون تحت قبب برلماناتهم الأعلام الفلسطينية، ويطلقون العنان لألسنتهم على أعلى المنابر دعماً لفلسطين، وتأييداً لأهلها، وتشريعاً لمقاومتها، وتنديداً بالكيان الصهيوني وعدوانه، ورفضاً لسياساته وفضحاً لممارساته.
وها هي محكمة الجنايات الدولية، بغض النظر عن مساواتها الباطلة بين الضحية والجلاد، تصدر نيابتها العامة توصيةً باعتقال رئيس حكومة الكيان ووزير حربه، وتبدي استعدادها لمواصلة البحث والتقصي تمهيداً لاستصدار أوامر اعتقالٍ جديدةٍ، ضد قادةٍ ومسؤولين “إسرائيليين” كبار، يتهمون بلعب أدوار مباشرة في عمليات الحرب والإبادة بحق الشعب الفلسطيني.
وتبعتها محكمة العدل الدولية، التي دانت حكومة الكيان، وحملتها المسؤولية الكاملة عن المذابح وعمليات الإبادة الجماعية، وجرائم الحصار والتجويع وقتل النساء والأطفال، وأمرته بالتوقف عن عملياته الحربية ضد الفلسطينيين في مدينة رفح، وإنهاء عملياته العسكرية فيها.
ثم جاءت ثلاث دول أوروبية، إسبانيا والنرويج وإيرلندا، لتنظم إلى ثماني دولٍ أخرى سبق لها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وأكدت على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه وقدسه، الأمر الذي أغاظ العدو الإسرائيلي وأحرجه، إذ أنه راهن كثيراً على مواقف الدول الأوروبية الداعمة له، ولم يهتم كثيراً باعتراف عشرات الدول الأخرى بالدولة الفلسطينية، لكن اعتراف دول أوروبا بها يوجعه ويؤلمه ويقلقه.
لم تسلم الإدارات الأمريكية والغربية المؤيدة للكيان الصهيوني من التصدع والاضطراب، فقد جنح عددٌ غير قليل من موظفيها إلى بيان مواقفهم وتقديم استقالاتهم، احتجاجاً على سياسات حكوماتهم المنحازة إلى الكيان الصهيوني، فيما يبدو أنها ثورة أخلاقية إنسانية ضد السياسات العدوانية لبلادهم، ودعوة صريحة وواضحة لحكوماتهم للتراجع عن سياساتهم الداعمة للكيان الصهيوني، والمؤيدة له في عدوانه. لا نستخف بهذه المظاهر والتطورات، ولا نستهين بآثارها وتداعياتها، ولا نظن بأنها شكلية أو خُلبية، بل هي حقيقية وفاعلة، وينبغي العمل على تعزيزها وتعميقها، وانتشارها واتساعها، فهذا الكيان الذي نشأ على الدعم وتأسس على الإسناد الخارجي والتأييد الدولي، بدأ يفقد هذه الخاصية ويخسرها، ولا يستطيع أن يعيش بدونها، أو أن يستمر في ظلها، فلنبنِ عليها ولنراكم فوقها، ولننظم عملها وننسق لمزيدٍ منها جهودنا.