جغرافيّة الضيق والساحل خارج المُتاح – أمير مخّول
في العام الاعتقاليّ الثامن في «سجن الجلبوّع»، كنت أدرّس موضوعَي «الجغرافيا السياسيّة» و«المجتمع العربيّ»، ضمن مساق «جامعة القدس المفتوحة» المخصَّص للأسرى، إضافة إلى دورة في التثقيف السياسيّ للشبّان بين الثامنة عشرة والعشرين. كان ذلك في ما يُطلق عليه ضمن هندسة الهويّات والآفاق «قسم نابلس» (وثمّة أقسام أخرى، على سبيل المثال «قسم جنين» و«قسم طولكرم»، بعد أن ألغت مصلحة السجون «قسم القدس والـ 48»).
بإيحاء من أسرى نابلس، الشبّان الّذين تراوح السنّ لمعظمهم بين الثامنة عشرة والعشرين، علّمتهم جغرافيّة فلسطين، وتعلّمت منهم جغرافيّة الضيق، وكيف تعيد إنتاج نفسها على شكل تاريخ ومجتمع وذهنيّة وثقافة. إنّها تتسلّل من المساحات الشاسعة غير المتاحة، ومن المدى البعيد، لتجتمع في النفوس وعيًا وانصياعًا. حدّثوني بأنّهم لم يلمسوا البحر في حياتهم، إلّا بعضهم، لمرّة أو مرّتين وهم أطفال، والآخرون لم يروا بحرًا غير البحر الميّت. أمّا مصير اليابسة فلم يكن بأفضل كثيرًا، ولم تطأ أرجلهم لا الخليل ولا الجليل ولا القدس ولا الساحل ولا النقب، وبالطبع لم تطأ أرض غزّة؛ فهي أيضًا من ساحلنا، تتقاسمه كما يافا وحيفا وعكّا وجسر الزرقاء، ومع عشرات مدننا وقرانا المهدومة على حافّته، وذاكرتها الباقية فينا حلمًا بالعودة.
عام 1948، كان المخطّط الصهيونيّ إخلاء الساحل من الحضور العربيّ الفلسطينيّ، وتهويد المكان، كما كلّ المكان. بينما المخطّطات الآنيّة، كما ارتسمت في هؤلاء الشبّان الأسرى، إخلاء الذهنيّة الفلسطينيّة من فلسطين وساحلها، وتذكية نار الذهنيّة المقطّعة المتصارعة مع ذاتها، أو الّتي لا ترى إلّا المتاح لها ضمن هندسة المستعمِر.
دون أن نلتفت، ونحن نعيش على فكرة أنّ الجدار الاحتلاليّ إلى زوال كما الاحتلال، ولا بأس في هذا الحلم، ومشروع الشعب؛ فهو حلم بأكمله أو قطعة من حلم، لكن فاتنا أنّه نشأ وترعرع وتبلور جيل فلسطينيّ كامل في واقع الجدار، وبات الجدار مفروغًا منه. إنّه جيل لا يعرف ما كان قبل الجدار، ومفهوم المدى الّذي سبقه، وإن كان مدًى منقوصًا، حدّدته نتائج الاحتلال الثاني عام 1967، المكمِّل للأوّل عام 1948.
للحقيقة؛ إنّه جيل نشأ وترعرع في ظلّ جدارين، واحد بناه الاحتلال والآخر بنته الأيادي الفلسطينيّة في الانقسام الكبير والانقسامات الصغيرة. لم يخفق هؤلاء في الجغرافيا، بل الفشل كما قال السكاكيني يعود إلى المدرسة، المدرسة الّتي كانت تتعلّم من ثورة شعبها حين كان الكتاب ثورة. إنّهم نتاج واقع وضحاياه إلى أن يصبحوا من صنّاعه.
منهم تعلّمت الكثير.
*****
إلى الّذين لا يعرفون بلادَ ما خلف الجدار
لا بحرَ خارج الساحل
ولا ساحلَ يحاذيه ليبشّر الأرض بالبحر، والبحر بالأرض
لا بحرَ غيرَ بعضٍ من «الميّت»، وفيه لا حياة لمَنْ تنادي
لم يهدأ البحر
غاب خارج الخيال
محجوزٌ داخل الصورة وخارج المتاح، والسحر شتّت المعادلة وقال:
لا بحرَ لنا… كلّ البحر لنا ولا بحر لنا
البحر المتوسّط لا يتوسّط شيئًا، خارج كلّ مكان، قد تحمله القصص، ثمّ تلقي به إلى أن تتعب القصص
احتلّته خارطتهم، وامُّحِي من خارطتنا
مسكينٌ بحرنا مسكين
***
قال الشبّان إنّ البحر الميّت هو البحر، هو المحيط الهادئ جدًّا
إنّه كلّ المحيطات والبحار المتاحة
إنّه الجَلَد الّذي احتضنته الخليقة، يفصل مياهَهُ عن مياهِهِ
إنّه الطوفان من دون نوح وبشرى الحمامة، وهو التراجع حتّى خارطة القفر، وفي قعر الدنيا
***
لم تطأ الأقدام البحرَ، ولا معنًى لمداعبة مياهه، ولا إصغاء للحن أمواجه
لم تمشِ على الرملِ ولم تلاعبه، ولم تبنِ أيادي الأطفال أحلامًا ولا أبراجًا
لم يصِلوا الساحل وسهله
ولا سهولًا داخليّة وجبلًا
ولا المثلّث الّذي اقتطعوه وأعادوه، ولمّا ينتهِ به المطاف بعد
ولا حتّى ما بين خطٍّ أخضرَ وجدارٍ رماديّ
***
شمال اليابسة جنين، وجنوبها الخليل، ولا مكان للجليل
هكذا تتحدّث كتب التجهيل لتحاصر كلّ وطنٍ جميل
كتبٌ مكتوبةٌ لنا، وهي ليست لنا، بل كما الزنزانة لا نريد أن نشعر بها مكانًا لنا
ومَنْ كُتِبَت عليه كتبٌ مشاها، أو بلّها «بْمَيِّة» البحر الميّت
المسافات القصيرة تطول، غدت ألف ميل، في عصر المحاسيم
الحياة ركضٌ موضعيٌّ
في غزّة، في نابلس، في القدس، في سجون إسرائيل
ومهما مشت أرجلنا نبقَ مكاننا، جيلٌ بعد جيل
حتّى نحرّر ما نحن، والسبيل يفتح للسبيل
***
جيلٌ كاملٌ، أجيالٌ، لا تعرف البحر، طعم البحر، شكل السمك فيه، أسماء الشواطئ وقصص الصيد والعاشقات والعاشقين
وفي غزّة أجيالٌ لا تعرف غير البحر، حيث لا بحر، لا برّ، لا سماء تضيء بدل الكهرباء الّتي يقطعها الحصار
فلسطين الأرضيّة غابت خلف خطٍّ أخضر، انحفر في ذهن ناسها لا غيره
فلسطين العليا كما سماؤها، وراء جدارٍ عالٍ يستعين بأسلاك وشبك
يفصلها عن أرضها والفضاء، يحجبها عن ذاتها، يغطّي العين، لا غيرها
غدت مسافات البلاد افتراضيّة
مبتورٌ هو البلد، جزّؤوه أوطانًا وأسماءً وأوصالًا
والآن جزّؤوه أجيالًا، لكلٍّ منها فلسطين
لا تلتقي الأوطان، ولا كيان
لا أعرف وطنًا فيه، بل لا وطن إلّا فيه
لا بحر لنا، كلّ البحر لنا، لا بحر لنا، كلّ البحر
جيلٌ بعد جيل، والسبيل يفتح للسبيل
«سجن الجلبّوع»، شباط (فبراير) 2018.
تُنْشَر هذه المادّة ضمن ملفّ «الساحل الفلسطينيّ»، بالتعاون بين جمعيّة الثقافة العربيّة وفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة ورمّان الثقافيّة، في إطار «مهرجان المدينة للثقافة والفنون» 2020.
أسير سياسيّ فلسطينيّ محرّر. عمل قبل اعتقاله مديرًا لـ “اتّجاه – اتّحاد الجمعيّات الأهليّة”، كما شغل منصب رئيس لجنة الحرّيّات المنبثقة عن لجنة المتابعة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948. يكتب المقالة السياسيّة والثقافيّة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.