جورج حبش حكيمُ الثورة – د. عبدالاله بلقزيز
استحقّ جورج حبش لقبَ الحكيم الذي كانَهُ لقبُه: لا بِعِلْمه في الطبّ فحسب، وإنما –أيضاً- لِعِلْمِه في السياسة والنضال، وإدارتِهما بالحكمةِ التي يُعْرف بها الرجالاتُ الكبار. قد يكون جورج حبش –ومعه فيديل كاسترو ونيلسون مانديلا وياسر عرفات- آخر القادة الثوريين الكبار في العصر الحديث؛ عصر الثوْراتِ وحركات التحرر الوطني، واندحارِ المستعمِرين وقيامةِ شعوب الجنوب من تحت رمادِ الحرائق الكولونيالية. ولقد قُدِّر له أن يَرِث تراثَ قادةٍ أمثاله من رموز التحرر الوطني في الوطن العربي (عمر المختار، محمد بن عبد الكريم الخطابي، سلطان الأطرش، عزّ الدين القسّام)، وكان عليه أن يحمل هذا الميراث –جنباً إلى جنب مع ياسر عرفات وأبي جهاد ووديع حدّاد والمهدي بن بركة وجمال عبد الناصر وأحمد بن بلّة وكمال جنبلاط وحسن نصر الله- فيتعهَّد ذلك الميراث بالصيانة من التبديد، وفيّاً له وفاءَ الأوفياء الأُمناء الصادقين لِما ائْتُمِنُوا عليه. لا نتزيّد، إذن، أو نبالغ حين نقول إنّ جورج حبش نهض، من موقعه في الثورة الفلسطينية وحركة التحرر الوطني العربية، بالدور القياديِّ عينِه الذي نهض به جمال عبد الناصر في إطار الأمّة العربية؛ فتكامل الدّوْرَان معاً في خدمة قضايا الأمّة.
رَمَز جورج حبش، طوال مسيرته الثورية على مدى ستين عاماً من حياته، لكل ما هو نبيلٌ ونفيسٌ في بيئته (= بيئة الثورة وحركة التحرر)؛ رمزَ للنقاء الثوري والمبدئية الصارمة، وللتمسك الدائب بالثوابت الوطنية والقومية تحت جميع الظروف. لم يساوم عليها، يوماً، ولا تَحَلَّل من موجباتها، واختلف مع رفاقٍ له في السلاح في التضحية بها باسم الواقعية وأحكام ميزان القوى. وما كان، يوماً، في حاجةٍ إلى تبرير مواقفه المبدئية، فليس على المبدئيين أن يبرّروا موقفَهم، وإنما على من يَدْعُونهم إلى مغادرة هذا الموقع أن يبرّوا لأنفسهم، ولغيرهم، وجْهَ المشروعية والحكمة في التنازل عن حقّ تاريخيٍّ للشعب والأمَّة لا يملك أحدٌ أن يتصرف فيه باسم مقتضيات السياسة وموجباتها.
ورَمَزَ للصّدق في العلاقة بالناس؛ لم يَرْكب مرْكَب الكذب والغِشّ، يوماً، في مخاطبة جمهوره: في ما يَنْتَوِيهِ أو يُقْدِم عليه. ولم تَسْتَهْوِهِ الميكيافيلية في السياسة، وما عَرَفَتْ سيرتُه إليها طريقاً، فَلَاذَ بالأخلاقِ لَوْذَ من يَعْرف أن التمسك بالأخلاق لا يُرضي الضمير فحسب، بل هو رأسمالٌ عظيمُ الفائدةِ عند الشعوب، ومعيارٌ تَقيس به الناسُ الرجالَ. ما يقولُه الحكيم هو عينُ ما يفعله، وما يفعلُه هو عينُ ما يؤمن به. المسافة بين العقل واللسان، بين العمل والإيمان تكاد أن لا تُلْحَظ، عنده، إن لم نَقُل إنها في حكم المنعدمة. لذلك صدّقَتْهُ الناس واعترفت له بالقيادة والمرجعية.
ورَمَزَ للطيبوبة النادرة، والبساطة في الحياة، وأخلاق الإيثار والتسامح والتواضع الفذّ. هو، بالنسبة إلى جميع من يتعامل معهم، بمثابة الأب النَّصُوح، الذَّابِّ عن الحِمَى، الحَادِبِ على الأبناء، وهو –عندهم جميعاً- المثالُ والقدوة. يُؤْثِرُهُم على نفسه وإنِ اشْتَدَّت عليه الخَصَاصة، ولكنه لا يُظَاهِرُهُم حين يُخطِئون، فينبّهُهُم من دون تَغْليظٍ عليهم في القولِ أو شِدَّة. حين يبتسم، يفتَح أمامَك أفقاً مغلَقاً، وينمّي لديك الشهيةَ في الأمل؛ وحين يَعْبِس، فإنّما لينطِق بالحقّ، ثم سرعان ما يتبدّد العبوس في صفحة وجهه كما يبدّد الهواء سحابة الصيف، فتزحف ابتسامتُه لتغمُر المُحَيّا.
كاريزماهُ، وهيبتُه في الناس: في المناضلين والمثقفين ورجال السياسة وفي الشعب، تنهل مواردَها من هذه السَّجايا والخصال؛ التي تفرَّد بها وتَمَيَّز، من غيره من الأتْراب، باقترانها بشخصيته. لا عجب، إذن، إنْ صار عند الجميع مثالاً للقائد السياسي، في مجتمعات عربية لا تثق شعوبُها بقادتها: إن في الدولة أو في الأحزاب.
جورج حبش وطنيٌّ فلسطيني، وقوميٌّ عربي، وأمميٌّ إنساني. لم تتعارض هذه الماهيات الثلاث في فكره وشخصيته وسلوكه السياسي؛ تجاورَت وتكاملت لتشكّل مركَّباً جدلياً. فلسطين كانت طريقَه إلى الفكرة القومية، ثم إلى الفكرة الأممية، والفكرتان علّمتاه كيف يناضل من أجل فلسطين مسلَّحاً بذخيرة الأمّة وذخيرة الإنسانية الحُرّة. أدرك، منذ الاغتصاب الصهيوني للوطن في العام 1948، أن النضال من أجل تحرير الوطن لا يمكن أن يكون فلسطينياً فحسب، وكان ذلك في أساس ما دعاه إلى تأسيس “حركة القوميين العرب”. وأدرك بعدها أن “الحركة” لا تستطيع تجذير نفسها وخطّها الثوري إلّا من طريق الالتحام بالناصرية، بما هي الطليعة القائدة لحركة التحرر الوطني العربية. وما إن وقعتِ الواقعَة، في العام 1967، حتى أدرك أن الوطنية الفلسطينية والقومية العربية أمستَا في حاجةٍ إلى موردٍ فكريٍّ وسياسيّ وأمميّ تتزوَّدان به وتتجدَّدان. وفيما كان غيرُه ينهش في تراث الناصرية، باسم أمميةٍ لفظية كانت ستاراً لوطنيةٍ فلسطينية تنحو –حثيثاً- نحو الانغلاق، لم يُسَجَّل على جورج حبش أنه ألقى حجراً في البئر التي ارتوى منها، ولا أعاد نظراً في خياراته القومية الوحدوية التي رَبِيَ عليها وربَّى عليها أجيالاً من المناضلين الفلسطينيين والعرب.
قد يكون أكثر ما حَزَّ في نفس الحكيم هو انفراط عِقْد “حركة القوميين العرب” بعد الهزيمة. تضخّم الشعور، عنده، بذلك الفقدان منذ تسعينيات القرن الماضي: على ما تبيّن لي، شخصياً، من أحاديثي معه. هو، قطعاً، لم يكن مسؤولاً عن ذلك المآل الدراماتيكي الذي انتهت إليه الحركة؛ فلقد كان دور الفروع فيه موازناً لدور المركز إن لم يكن أبلغ أثراً وتأثيراً منه. ولقد يكون الحكيم وَطَن في نفسِه أن حصَّته من انقسام “حركة القوميين العرب” –أعني: “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”- تعزيةٌ للنفس وتعويضٌ نسبي عن الخسارة الفادحة؛ لا لأن “الجبهة الشعبية” حصّة كمية مقنعة، بل لأنها قامت على رمزيةِ قضية فلسطين في وجدان الأمّة جمعاء. ولكن هذه التعزية –حتى مع تصليبه الخط القومي العربي في “الجبهة”- لم يندمل معها ذلك الجرح الغائر في النفس: الذي كَانَهُ جرحُ انفراطِ “حركة القوميين العرب”.
من حسن حظنا أننا عشنا في عصر جورج حبش: عصر عبد الناصر، وحركة التحرر الوطني العربية، والثورة الفلسطينية، والمقاومة اللبنانية. ولكن، من حسن حظ جورج حبش أنه لم يعش عصرَنا هذا الذي نحن فيه: عصرَ ملوك الطوائف، والقراصنة، وأمراء الحرب وقادة المليشيات، وسلطان الغاز السياسي؛ العصرَ الذي يموت فيه مئاتُ الآلاف من العرب، ويُهجَّر فيه الملايينُ منهم خارج ديارهم وبلدانهم، وتُسْبى فيه النساء وتُؤخَذ الأسلابُ غُنْماً: من الحِلِيّ حتى النِّفْط، وتُفْرَض فيه الجِزْية على العرب المسيحيين، وتُخرَّبُ فيه الأوطان ويُمَزَّق النسيج الاجتماعي فيها من خلال القتل على الهوية… وكل ذلك باسمِ الله، أو باسم الشعب، أو باسم الحرية والديمقراطية! إنّ جورج حبش، الذي لم يكن يَقوى على أن يرى الأمّةَ الواحدة مقسَّمةً إلى شعوب، والوطنَ الواحد مقسَّماً إلى دولٍ ودويلات، لن يَقْوى على رؤية شعب يتجزأ إلى طوائفَ ومذاهبَ وقبائلَ وعشائرَ وبطونٍ وأفخاذ!
جورج حبش حكيمُ الثورة – د. عبدالاله بلقزيز