– جوزيف مسعد «صفقة القرن» أو كيف تضمن امتيازات الأقلية اليهودية في فلسطين
كان المشروع الصهيوني منذ بداياته عنيدًا في تصميمه ولا يساوم البتة على أهدافه الاستعمارية ــــ الاستيطانية، لكنه في الوقت ذاته أبدى ابتكارية وبهلوانية أيديولوجية لافتة في طرق تغليفه لسرقة وطن الفلسطينيين. وإذ كان الهدف الأساس هو جعل فلسطين بلدًا ذا أكثرية يهودية، وهو ما تم إنجازه لعدة عقود من خلال طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين وتهجيرهم في عامي ١٩٤٨ و١٩٦٧، إلا أن الصهاينة اضطروا في الآونة الأخيرة إلى مواجهة المعضلة القديمة/ الجديدة وهي أن اليهود أصبحوا مرة أخرى أقلية في مستعمرتهم الاستيطانية كما كان عليه الوضع قبل تهجير الفلسطينيين.
منذ عدة عقود، أخذت الحكومة الإسرائيلية تعرب عن وسواسها في ما يخص عدد السكان اليهود المتضائل وعدد الفلسطينيين المتزايد، ما أدّى بها إلى عقد عدة مؤتمرات لمواجهة «الخطر الديموغرافي» الذي يشكّله الفلسطينيون على مشروعها الاستعماري الاستيطاني العنصري. وقد عقد المؤتمر الأول في كانون الأول/ ديسمبر ٢٠٠٠ تحت رعاية «معهد السياسة والاستراتيجية» الملحق بمركز هرتسليا المتداخل التخصصات. وقد عرّف التقرير، الذي صدر عن المؤتمر والمكوّن من ٥٢ صفحة، إحدى «النقاط الأساسية» على أنها عدد اليهود الذي تحتاج إليه إسرائيل للإبقاء على التفوقية اليهودية في الدولة: «إن معدّل الولادة العالي (للسكان الفلسطينيين في إسرائيل) يهدد مستقبل إسرائيل كدولة يهودية… وإن استمرت هذه المعدلات الديموغرافية فستتحدى مستقبل إسرائيل كدولة يهودية. ثمة استراتيجيتان اثنتان كبدائل أمام إسرائيل: التكيّف أو المحاصرة. الأخيرة تتطلب سياسة صهيونية ديموغرافية حيوية طويلة الأمد يضمن تأثيرها السياسي والاقتصادي والتربوي السمة اليهودية لإسرائيل». حضر المؤتمر رئيس وزراء إسرائيل في حينه ورؤساء الوزراء السابقون، كما رحب رئيس جمهورية إسرائيل موشيه كتساف بالحضور. وشارك برعاية المؤتمر كل من «اللجنة الأميركية اليهودية»، و«مركز إسرائيل للتقدم الاجتماعي والاقتصادي»، ووزارة الدفاع الإسرائيلية، و«الوكالة اليهودية»، و«المنظمة الصهيونية العالمية»، و«معهد الأمن القومي» في جامعة حيفا، ومجلس الأمن القومي الإسرائيلي التابع لمكتب رئيس الوزراء. لكن الاستراتيجيتين اللتين اقترحهما المؤتمر لتغيير حال الحكم الأقلّوي اليهودي على أغلبية فلسطينية باءتا بالفشل.
وبينما برزت الحركة الصهيونية في أوج عهد الاستعمار الكولونيالي في أواخر القرن التاسع عشر، فقد أعربت عن فخرها كونها جزءًا من المشروع الأوروبي لاستعمار العالم. فقد بدأت «رابطة الاستعمار اليهودية» Jewish Colonization Association، التي أنشئت في عام ١٨٩١ لتمويل المستعمرات اليهودية في أميركا الشمالية والجنوبية، ولا سيما في الأرجنتين، بتمويل المستعمرات اليهودية في فلسطين في عام ١٨٩٦. ولكن كان على «رابطة الاستعمار اليهودية» أن تغير من طبيعة نشاطاتها نتيجة قرار الحركة الصهيونية بعد عقد من الزمن بالتركيز على استعمار فلسطين حصريًا.
وهذا ما حصل بالفعل في عام ١٩٢٤، حيث تم تغيير اسمها رسميًا إلى «رابطة الاستعمار اليهودي لفلسطين» Palestine Jewish Colonization Association، وتم استخدام أموالها حصريًا لتمويل استعمار فلسطين. وقد تم إنشاء أول مصرف صهيوني في عام ١٨٩٩ وأطلق عليه اسم «المصرف الاستعماري اليهودي» Jewish Colonial Trust، وكانت مهمته شراء أراضي الفلسطينيين لاستخدام اليهود حصريًا.
لكن ما لبث أن شرع الصهاينة في تغيير مفرداتهم الأيديولوجية في ظل تنامي حدة المقاومة للاستعمار الكولونيالي الأوروبي في آسيا وإفريقيا في الثلاثينيات. ففي عام ١٩٣١، علّق فريدريك كيش (وُلد في الهند لعائلة بريطانية يهودية من المستعمرين) في مذكراته، وكان يشغل حينها منصب رئيس المجلس الصهيوني التنفيذي المسؤول عن استعمار فلسطين، بأنه كان «يحاول التخلص من مفردة «استعمار» في أدبياتنا. فالكلمة غير مناسبة من وجهة نظرنا، حيث لا يقيم المرء مستعمرات في وطنه، بل في الخارج، مثل المستعمرات الألمانية على نهر الفولغا أو المستعمرات اليهودية في الأرجنتين، بينما من وجهة نظر عربية يرتبط الفعل «استعمر» بالإمبريالية والعدوان».
حاول الدعائيون الصهاينة جاهدين منذ الخمسينيات إعادة تعريف المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني على أنه مشروع للتحرر الوطني اليهودي. فادعت إسرائيل بأن إقامة دولتها لم تكن فعلًا استعماريًا كولونياليًا، بل كان «استقلالًا» عن الكولونيالية والاستعمار، في محاولة لدفن تاريخ السجال الذي قام داخل القيادة الصهيونية بما يخص تسمية الوثيقة المزمع إصدارها في ١٤ أيار/ مايو ١٩٤٨. فعندما اقترح البعض تسميتها «إعلان استقلال»، تم التصويت ضد الاقتراح. وقد عمد الصهاينة إلى تسميته بالوثيقة، كما يجب وينبغي، بـ«إعلان إقامة دولة إسرائيل». وبينما يذكر الإعلان الطموحات اليهودية لـ«الاستقلال الوطني»، إلا أنه لا يعرّف إسرائيل كدولة مستقلة، بل فقط على أنها «دولة يهودية». ولم يسقط ذلك سهوًا، بل تم اتخاذه كقرار مع سبق الإصرار والتصميم، حيث رفضت القيادة اقتراح إضافة كلمتي «مستقلة وذات سيادة» على وصف طبيعة الدولة في الإعلان. رغم ذلك، أكثر ما يمكن أن يقرّ به دعائيو إسرائيل، وبدون أي مفارقة، هو أنه ربما تمت إقامة الدولة عن طريق الاستعمار الاستيطاني، لكنها لم تتم عبر الكولونيالية!
أصرّت إسرائيل منذ الخمسينيات وحتى التسعينيات على أنه ينبغي على الدول العربية الاعتراف بـ«حقها في الوجود»، وهي صيغة اعتراف لم تطالب بها أي دولة من قبل، حيث إن في القانون الدولي هنالك نهجين للاعتراف بالدول، هما الاعتراف بها «بحكم الواقع» أو الاعتراف بها «بحكم القانون»، لكن ليس هنالك «حق» لأي دولة «في الوجود». وعندما طالبت «منظمة التحرير الفلسطينية» في السبعينيات بتحقيق حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ردت إسرائيل بزعم تحقيق «حق الشعب الإسرائيلي في تحقيق المصير». وقد أعلن عن ذلك في أيلول/ سبتمبر ١٩٧٢ وزير الخارجية الإسرائيلي آبا إيبان، المولود في جنوب إفريقيا، الذي أعلن أنه «لِحق تقرير المصير الإسرائيلي الأسبقية الأخلاقية والتاريخية على حق تقرير المصير الفلسطيني، وإن كان لا يلغي الأخير تمامًا». ولم يختلف إقرار إيبان عما كان قد أعلنه دافيد بن غوريون وحاييم فايتسمان منذ العشرينيات بأن حق اليهود في الاستيلاء على فلسطين يتفوق على حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.
وبما أن مصر والأردن و«منظمة التحرير الفلسطينية» (التي تحولت عبر «معاهدة أوسلو» من حركة تحرير إلى سلطة متعاونة مع الاستعمار الصهيوني) كانت قد أجبرت على الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود كمستعمرة استيطانية لا يمكن مساءلة شرعيتها، فقد أصرت حكومة إيهود أولمرت، ومن بعدها حكومة بنيامين نتنياهو، منذ عام ٢٠٠٧ على أن المهمة الجديدة التي يضطلع بها الفلسطينيون وباقي العرب هي الاعتراف بـ«حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية»، أي أنه ينبغي الاعتراف بإسرائيل كمستعمرة استيطانية لها الحق بمنح امتيازات عرقية ودينية لليهود لن تمنح لغير اليهود على أساس تمييزي.
في هذه المرحلة الأخيرة، أخذ دعائيو إسرائيل بالحديث عن «حق تقرير المصير اليهودي» وليس «حق تقرير المصير الإسرائيلي» كما كانوا يعلنون في السبعينيات. وإذ كانوا يقولون لنا في السابق إن لِحق تقرير المصير الإسرائيلي أسبقية على حق تقرير المصير الفلسطيني، يصرون اليوم على أنه ليس للفلسطينيين أي حق من هذا القبيل. وقد تم الإعلان عن ذلك رسميًا في العام الماضي في «قانون الدولة ــــ الوطنية» الإسرائيلي والذي نصّ على أن «دولة إسرائيل هي الوطن القومي للشعب اليهودي الذي يمارس فيها… حقه التاريخي في تقرير المصير» وعلى أن «ممارسة حق تقرير المصير القومي في دولة إسرائيل هي حق حصري للشعب اليهودي».
لكن، لا الحركة الصهيونية ولا القانون الإسرائيلي كانا قد طالبا بتقرير المصير كمبدأ قانوني أو كحق لليهود في السابق. بل إن هذا الحق المزعوم لم يذكر في الوثائق الصهيونية الرئيسة تاريخيًا ــــ لا في كتابات هرتسل، ولا في نص وعد بلفور، ولا في ميثاق الانتداب الصادر عن عصبة الأمم، ولا في قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، ولا في إعلان إقامة دولة إسرائيل.
وقد أصر رؤساء الولايات المتحدة منذ عام ٢٠٠٧ على أنه ينبغي على الدول العربية والفلسطينيين الانصياع للصيغة الجديدة بالاعتراف بـ«حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية». وقد قام الرئيس بوش الابن والرئيس أوباما، الذي كان أشد عداءً بكثير للفلسطينيين ممن سبقوه، بتهديد الفلسطينيين بعواقب وخيمة إن رفضوا ذلك. وأصبح عنوان الصيغة الجديدة «حق اليهود في تقرير المصير».
تسعى «صفقة القرن» إلى الشرعنة النهائية وبشكل حاسم للمشروع الصهيوني للاستعمار الاستيطاني وإلى حقّ دولة إسرائيل في التمييز العرقي. وقد قبل قادة إسرائيل حقيقة أن المستعمرين اليهود وأولادهم وأحفادهم سيبقون أقلية إلى الأبد في فلسطين التاريخية، ولا سيما أن التدابير السابقة التي استخدمت لجعلهم أكثرية عبر التطهير العرقي والطرد الجماعي لم تعد خيارات متوفرة اليوم. وبما أن صفقة ترامب لا تستطيع خفض عدد الفلسطينيين، فإنها تسعى إلى الإلغاء التام لحق العودة للاجئين الفلسطينيين في الشتات، وهو حق يقر به القانون الدولي، عبر تقويض وكالة الغوث، ضامنة بذلك عدم تعاظم أعداد الأغلبية الفلسطينية أكثر في فلسطين التاريخية مقارنة بالأقلية اليهودية. وكان ياسر عرفات قد تنازل عن حق العودة في مقالة نشرها في جريدة «نيويورك تايمز» في عام ٢٠٠٢ عبّر فيها عن تفهمه لـ«القلق الديموغرافي»، اقرأ العرقي، الذي يشغل بال إسرائيل بما يخص حق العودة الفلسطيني.
أما بالنسبة إلى الأغلبية الفلسطينية التي تعيش تحت وطأة الاستعمار الإسرائيلي وحكم الأقلية اليهودية، فقد عمد «قانون الدولة الوطنية» الإسرائيلي الى إلغاء كل حقوقهم. حيث إن هدف حصر حق تقرير المصير في المستعمرين اليهود دون غيرهم هو أن بالإمكان ممارسته بغض النظر عن الديموغرافيا.
فلم يكن لدى إسرائيل الخيار إلا التخلي عن تظاهرها بأنها دولة ليبرالية وديموقراطية.
أما «الورشة» التي تقام في البحرين، هذا الأسبوع، فهي ليست أكثر من آلية للتعويض عن الدعم الأميركي الثابت لرفض إسرائيل التنازل عن أي من الأراضي الفلسطينية التي سرقتها وتسرقها ودعمها لرفض إسرائيل منح أي حقوق للأغلبية الفلسطينية التي لا تزال تعيش على الأرض والتي لم تعد إسرائيل قادرة على طردها. فبدلًا من منح الفلسطينيين حقوقهم المعترف بها دوليًا، وهم كانوا دائمًا ولا يزالون ضحايا كل الصفقات الأميركية والإسرائيلية السابقة، تعرض «صفقة القرن» الأميركية ملء جيوب الحكام ورجال الأعمال العرب والفلسطينيين الذين كانوا دائمًا من المستفيدين من معظم الصفقات الأميركية والإسرائيلية السابقة.
* أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك. صدر له حديثًا كتاب «الإسلام في الليبرالية» عن جداول للنشر في بيروت (٢٠١٨) وكتاب «آثار استعمارية: تشكّل الهوية الوطنية في الأردن» عن دار مدارات، القاهرة (٢٠١٩).
المصدر: الأخبار اللبنانية