جولة أخرى مع الوضع العربي- منير شفيق
يكاد أغلب المحللين السياسيين، إن لم يكن كلهم، يجمعون على أن الوضع العربي منذ اندلاع الثورتين التونسية والمصرية، في مطلع العام 2011، حتى اليوم، دخل مرحلة جديدة من المتغيّرات والصراعات السريعة التي لم يعهدها من قبل. ومن ثم يكادون يجمعون على ضرورة قراءتها قراءة مختلفة عن القراءات السابقة التي عَرفتها المراحل الممتدة منذ أوائل الخمسينيات حتى نهاية 2010. ولكنهم ما أن يباشروا في التقدّم خطوة واحدة في القراءة الجديدة حتى تتعدّد القراءات إلى جانب تعدّد المواقف المتعدّدة والمختلفة أصلاً، والبعض يجد نفسه يستعيد مقولات المراحل الماضية.
في المراحل السابقة كانت القراءات التحليلية للوضع متقاربة وإن اختلفت المواقف اختلافاً حاداً، فعلى سبيل المثال لم تختلف القراءات في تحليل الوضع بين محور مقاومة وممانعة ومحور اعتدال عربي، إلى جانب دول بين بين. وكانت القراءات التحليلية متقاربة في تقويم السياسات الأمريكية من حيث القدرة الأمريكية ودورها في ميزان القوى وإن اختلفت المواقف اختلافاً حاداً بين من ضد ومن مع.
المشكلة اليوم تكمن، قبل الاختلاف في الموقف، في قراءة موازين القوى مثلاً دور أمريكا وأوروبا والكيان الصهيوني مقابل دور القوى المحلية والإقليمية في التأثير في مجرى الأحداث، وتقرير مصيرها. فإذا صحّ التقدير الذي يرى أن أدوار القوى المحلية في كل قطر كما الأدوار العربية والإقليمية، أصبحت هي المقرّرة في التأثير في مجرى الأحداث والتحكم في مصائرها فيما تراجعت أدوار أمريكا وأوروبا والكيان الصهيوني إلى المرتبة الرابعة أو الخامسة. وذلك على الضد مما كان عليه الحال في المراحل الممتدة من انتهاء الحرب العالمية الثانية، بل منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى حتى العام 2010، حيث كان الدور الأول في التحكم في مجرى الأحداث والتأثير في مصائرها هو للعوامل الخارجية الاستعمارية والامبريالية وليس للعوامل الداخلية أو العربية أو الإقليمية. وقد كانت مرحلة عهدَيْ إدارة جورج دبليو بوش آخر محاولة للحفاظ على معادلة ميزان القوى السابقة. وقد شكل فشلها في احتلالها لكل من العراق وأفغانستان، كما فشل حربَيْ تموز على لبنان 2006 وعلى قطاع غزة 3008/2009، ومن ثم فشل مشروع بناء شرق أوسط جديد إضافة إلى الأزمة المالية العالمية التي اندلعت 2008، إعلاناً صارخاً عن انتهاء مرحلة تاريخية مديدة، وبداية المرحلة التاريخية الجديدة آنفة الذكر بالنسبة إلى الوضع العربي والإقليمي.
طبعاً يجب أن يُلاحظ أن التغيير هنا سار بموازاة تغيير عميق في ميزان القوى الدولية تجسّد في تراجع ملموس في السيطرة الأمريكية- الأوروبية العالمية وفي بروز أقطاب دولية وإقليمية أخذت تفرض حالة من تعدّد القطبية المترجرجة بين الفوضى واللانظام العالميين.
ما أصاب قوى السيطرة الخارجية الأمريكية – الأوروبية – الصهيونية من تراجع نوعي في ميزان القوى أدّى إلى اختلال نوعي في ميزان القوى العربي وقد جاءت ثورتا مصر وتونس لتُوجِها للنظام العربي هزة من العيار الثقيل (8 درجات على مقياس ريختر) وظهرت، كذلك في تداعياتهما أو في ما تلاهما من تداعيات وارتدادات مباشرة وغير مباشرة، وعلى تفاوت في الأهداف والنتائج.
الأمر الذي ولّد وضعاً عربياً، لا سابق له، من حيث تغيّراته وسرعتها وألوانها. وهو ما جعل التحليل قاصراً في اللحاق بما يستجد من أوضاع وموازين قوى، فالضعفاء من القوى الاجتماعية والسياسية ومختلف المكوّنات أصبحوا أقوياء ومعنيين بسدّ الفراغ أو بتقرير مستقبل ما سيقوم من أنظمة على المستوى القطري، كما على المستويين العربي والإقليمي. فالقوى التي وجدت نفسها في موقع السيطرة، بهذا الشكل أو ذاك، ظنت أن الرياح مالت نهائياً لها ولم تتوقع أن تتحسّب لتقلب تلك الرياح أو لما قد يهب من رياح هوج عليها. والقوى التي أصبحت قوية، بدورها، وكسرت عنها أغلالها لم تسلّم لمعادلة اللحظة القائمة فراحت تسعى إلى مواقع القوّة، لتجّذ القوى التي سبقت إلى السيطرة نفسها فوق رمال متحركة راحت تدّمر ما بنت أو تتهدّد بتدميره بعد حين.
تلكم هي واحدة من الآفات التي تصيب الواصل إلى السلطة – أو المستحوذ على القوّة في هذه المرحلة الجديدة، ألا وهي الإعجاب بكثرته، أو ما يسمّى بغرور القوّة والسلطة. ومن سوء تقدير الموقف وموازين القوى والاستهتار بالخصم، أو الخصوم، وعدم الاحتساب إلى الرياح المتقلبة، فيقف غافلاً آمناً فوق رمال متحركة، حيث ما ينبغي له الركون أو الوقوف المطمئن.
هذه الآفة أُصيبت بها كل القوى التي وصلت إلى السلطة خلال الأربع سنوات الماضية، ثم جاءت لحظة السقوط غير المتوقع من قِبَلها. ومع ذلك ولدت آفة أخرى وهي عدم التعلم من درس الذين علوا ثم وقعوا. فما أن تعلو حتى تجد تفاصيل كثيرة تُفرق حالك عن أحوال من سبقوك فيمتنع عليك تعلّم الدرس. وبهذا تصبح أكثر عرضة للإصابة بالآفة الأولى وهي الإعجاب بالكثرة أو الانسياق وراء غرور القوّة والسلطة، ومن حولك رياح متقلبة، ومن تحتك رمال متحركة.
من هنا ندرك لماذا توسّعت الفوضى في عدد من البلاد العربية إلى أبعد مدى، ووصلت إلى حدّ اندلاع الفتن والانقسامات على أنواعها وألوانها، كما إلى حد بروز ظواهر التطرّف الشاذة المدّمرة وتفاقم خطرها؟
كما من هنا ندرك، لماذا لم تتشكل الجبهات الواسعة التي يجب أن تضم المكوّنات والقوى التي تشكل الكتلة التاريخية على المستويات المختلفة القطرية والعربية والإسلامية. أي لماذا لم تتشكل توافقات اجتماعية وشعبية وسياسية جديدة على مستوى النخب والجماهير والدول. وذلك لبناء أنظمة جديدة أكثر عدالة على مستوى القطر الواحد كما بناء نظام عربي – إيراني – تركي جديد غير النظام الذي بنته الحربان العالمية الأولى والثانية.
إن عدم تشكّل إدراك عام ووعي عام حول ضرورة التفاهم والتشارك والتعاون راح يغذي سياسات الغلبة والاستئثار بالسلطة، والجنوح للإقصاء والتوهّم أن بالإمكان نجاح سياسات الحل العسكري والخروج من الفتن لا سيما الفتن بين سنة وشيعة أو بين عصبية وأخرى داخل القطر الواحد من خلال الغلبة والقهر.
الأمر الذي يوجب الدعوة إلى نبذ تلك السياسات التي لن تحقق المراد منها بسبب معادلات موازين القوى المعطاة في المرحلة الراهنة. ومن ثم ضرورة استباق الغرق في الدماء والأحقاد ووقوع الكوارث البشرية والخسائر المادية غير المحدودة. لأن النهاية شبه الحتمية لكل ذلك هي العودة إلى التفاهم والتآلف والتشارك.